الأصل في فكرة حقوق الإنسان، في أصولها الفلسفيّة، أنها تلك المنظومة (من الحقوق)، التي تنتمي إلى إطار مرجعيٍّ لها هو: الدولة الوطنية. والدولة هذه هي من يكفل تلك الحقوق ويخلع عليها الشرعيّة، ويحيطها بالضمانات القانونيّة والدستوريّة، ويمارس السلطة العقابيّة في حقّ من ينتهكها أو يعتدي عليها. ويستوي في ذلك النظرُ إلى الحقوق تلك بوصفها طبيعيّة، كما في قولٍ فلسفيّ، أو مدنيّة؛ كما في آخر؛ إذ يكفي الاتفاقّ عليها – في جملة ما يكون موضوعَ توافُقٍ- واستدخالُها في منظومة قوانين الدولة؛ ليكون لهذه الأخيرة سلطانُ الرعاية لها، والإشرافِ عليها وصوْنها.
يقضي منطق الدولة الوطنيّة الحديثة بأنّ المواطن فيها كينونةٌ سياسيّة قانونيّة مجرَّدة من كلّ مُضافاتها الاجتماعيّة (فقر، غنًى، انتماء قَبَليّ أو مناطقيّ…) والثقافيّة (دين، قوم أو أصل سابق، لغة…) ومتحرّرة منها. يقطع المواطن مع ما قبْله؛ مع ما يشدُّهُ إلى ما قبل مواطنته من روابط الدّم والجنس والدين، وذلك شرْطٌ لازِب ليكون مواطناً في الدولة التي لها – وعليها- أن تحتكر ولاءَه، وأن تحتكر قوانينُها الحقّ الحصريّ في إجراء أحكامها عليه.
على أن هذا لا يعني أنّ من مقتضيات المواطنة أن يتخلى المواطنون، مثلاً، عن حقوقهم في ممارسة اعتقاداتهم الدينيّة، أو التخاطب بلغاتهم المحلّية، أو التعبير عن ثقافاتهم الذاتية حتى يحافظوا على مواطنتهم؛ كما ليس يعني أنّ على الدولة الوطنية أن تحظر ممارسة تلك الحقوق على مواطنيها بحسبانها حقوقاً فرعيّة أو فئويّة، أي غير وطنيّة جامعة، حتى تحمي حقوق المواطنة ممّا قد يتهدّدها؛ ذلك أنه ما من دولةٍ وطنيّة تملك أن تمنع مواطناً من مواطنيها، أو قسماً من مواطنيها، من اعتناق الدين الذي يشاء، أو المذهب الذي يشاء، أو أن يتحدث اللغة التي يشاء، أو أن يعبّر عن نفسه من داخل عالمٍ ثقافيّ خاصّ.
من البيّن أنّ هذا هو الوضع الاعتباريّ لحقوق الإنسان في نطاق الدولة الوطنيّة الحديثة، وهُوَ هُوَ الوضع الاعتباريّ للمواطنة في نظامها السياسيّ والدستوريّ. ولكن من البيّن أنّ الطبعة الليبراليّة للدولة الوطنيّة هذه – وهي الغالبة عليها منذ القرن الثامن عشر- غلَّبت حقوقاً على أخرى على نحوٍ أحدث أزْماتٍ في مسيرة تلك الدولة وفي استقرارها، بما ولَّدَهُ فيها من صراعات ونزاعات زادت وتائرُها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن ذلك، مثلاً، أنها قدّست الحقّ في المُلكية الخاصّة (التي اعتبر جون لوك حمايتَها مبرِّرَ وجود الدولة خلافاً لتوماس هوبس الذاهب إلى وجوب احتكار الدولة للثروة والملكية)؛ وإذْ آذَنَ انتصارُ فكرة حقّ التملُّك (الخاص)، وصيرورته نظاماً سائداً، بانتصار الإيديولوجيا الليبراليّة وقواها الاجتماعيّة، في إطار انتصارٍ إجماليّ للنظام الرأسماليّ، نَجَم من ذلك شرخٌ كبير في معنى المواطنة، وفي معنى حقوق الإنسان، كما صاغه الفكر الليبراليُّ نفسُه؛ إذْ لم تَعُدِ المواطنةُ مساواةً في الحقوق: بين قسمٍ مالكٍ وقسم محروم من المنافع وتحديداً، من وسائل الإنتاج. وقد انتبهت كتابات ماركس مبكّراً، منذ نهاية النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، وبعد تجربة أولى طوباوية للاشتراكيّة الفرنسيّة، إلى هذه الحقيقة، فنتج من الانتباه ذاك نقدٌ حادٌّ وعميق للأزعومات الإيديولوجيّة الليبراليّة، وما يُضمره نظامُها الاجتماعيّ من حَيْفٍ فادح بالحقوق الاجتماعية.
وكما استوعبت منظومة حقوق الإنسان – في طبعتها الاجتماعيّة- حقوق الطبقات الاجتماعيّة (المنتجة) المهضومة حقوقُها، لا حقوق «الأفراد» فحسب، كذلك استوعبت، بعد الحرب الكونيّة الثانيّة، حقوق فئات اجتماعيّة عريضة تُحُيِّفَ في حقّها، لأزمان متطاولة، ولم تستوعبها فكرةُ المواطنة استيعاباً حقيقيّاً؛ وتلك، مثلاً، حال فئة النساء التي اهتُضِمت حقوقُها في مجتمعٍ ذكوريّ مُزْمِن؛ بفضل انتشار أفكار الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة والمساواة في المجتمع، ونقد الثقافة الذكوريّة والبطريركيّة، ونضالات الجمعيات النسائيّة، أمكن لحقوق المرأة – وبعدها لحقوق الطفل- أن تُسْتَدخَل في جملة حقوق الإنسان، في بعضٍ غيرِ قليلٍ من البلدان والدول، وأن يُعاد باستدخالها وإقرارها بعضُ التصحيح والتصويب لنظام المواطنة. ومع ذلك، لم يكن اتجاه التعبير عن فكرة حقوق الإنسان اتجاهاً واعداً بالمزيد من المكتسبات؛ بل كان الارتكاسُ والتراجع والسوءُ من مسالكه أيضاً !