(1)
عندما خُيرت الملكية بين الوطن والحكم اختارت الوطن، وعندما تم وضعها أمام اختيار الوطن أو السلطة، مالت بلا تردد إلى الوطن..
والواضح أنها كانت نادرة في ذلك الاختيار، في الزمن الاستعماري الذي كان يخيم على العالم، ولاسيما ملكيات العرب التي مالت إلى حيث لا يجب..
والواضح أيضا أن الخيار صنعه الشعب المغربي وحركته الوطنية.. عندما طالب بالاستقلال وأصدر النداء والوثيقة الشهيرة.
شرعية كفاحية..
هذه النقطة عنصر فارق للغاية في تدبير النقاش حول أدوارها في التاريخين الماضي والمعاصر ..مع فترات الخلود إلى نزعة سلطانية في فترات معاصرة كان ثمنها رصاص ودم وفجوة كبيـــــــــــييرة في التاريخ!
وبلغة أخرى، فقد اكتسبت الملكية شرعية كفاحية ونضالية، مع موقف المغفور له محمد الخامس، وهي تقتسمها مع القوى الوطنية بكل توجهاتها، سواء كانت سلفية وطنية أو إصلاحية ليبرالية أو اشتراكية أو تقدمية، تعرف نفسها بشكل أو بآخر..
عندما نتحدث عن الشرعيات، عادة ما نكتفي بالشرعية التاريخية والدينية للملكية، إضافة إلى الشرعية الدستورية، ومن ثمة ندخل حلقة من ثلاث دوائر:
دائرة دستورية
دائرة روحية دينية
ودائرة تاريخية…
وهي دوائر كان من الممكن أن تتوفر حتى ولو لم تختر الملكية الانحياز الواضح للحرية وللنضال الشعبي..
كان محمد بن عرفة واحدا منها، لكن سقوط الشرعية الكفاحية عنه جعلته خائنا، ودمية ومطواعا .. على غرار كل الذين خانوا وقد كانوا من نخبة البلاد، وأحيانا من شعبها!!!
نحن أمام دور تاريخي محدد الزاوية: الانحياز إلى مطالب الشعب المغربي بلا تردد..
لقد عرفت هذه اللحمة العديد من التشنجات والتشققات، بل كانت موضع رهانات سياسية عديدة تهدف إلى تحجيمها أو تجاوزها أو تعطيلها لفائدة طرف واحد، فكان يحدث الاستعصاء والتصدع..وهذه الشراكة في صناعة الحرية كانت مرتبطة بالشراكة في صناعة الديموقراطية.والتعاقدات التي تولدت عنها هدفها كان دوما الديموقراطية تحت سقف وطني، وليس أمميا أو طائفيا أو تجريبيا.
ومن لا يستحضر هذه السندات التاريخية بكل رمزياتها يصعب عليه أحيانا أن يفهم العودة إلى الثوابت دوما، كلما كان الوضع ينذر بالجديد المخيف، كما وقع في منتصف السبعينيات عند إعلان تحرير الصحراء واستكمال الوحدة الترابية..
لقد فاض المجتمع عن السياسة، كما فاضت الحزبية المغربية عن الحقل الوطني بتعدد الفاعلين الذين لم يولدوا بوثيقة المطالبة بالاستقلال أو أن وجودهم لا يمت إلى هذه الأبعاد الوطنية السياسية بصلة، وقد يعطي ذلك إمكانية قراءة الواقع من زاوية أخرى، غير زاوية التعاقد السياسي، تغري بحديث عن التفاوض« بين مكونات الحقل السياسية من جهة والملكية من جهة، لكن لا يبدو أن اللحظة الوطنية قد تم تجاوزها، إلى حد الساعة، ما دامت القضية المركزية التي تُعرِّف الوطن والنظام معا، قضية الوحدة الترابية، لم تحسم بعد، كما أنها ركن من أركان أي تحليل ملموس لواقع ملموس..
(2)
لقد كان أحد الأشكال التي عرفها تاريخ المغرب المعاصر لفكرة« التفاوض« هي انتخاب المجلس التأسيسي لوضع دستور يكون محط موافقة .
وهذه الفكرة- الشكل، سبق أن كانت موضوع نقاش بين شخصيتين كبيرتين في تاريخ المغرب، وهما المهدي بن بركة عريس الشهداء وعبد الرحيم بوعبيد رحمهما لله.
وسيكون مفيدا أن نورد جزءا من الحوار الذي دار بينهما حول الدستور وكيفية الدخول في المنظومة الديموقراطية..
(كنت جالسا إلى جانب المهدي بن بركة الذي كان يسوق السيارة، فيما جلس المهدي العلوي في المقاعد الخلفية، استأنفنا مناقشاتنا اللانهائية حول السبل والوسائل الكفيلة بإقرار نظام ديمقراطي. وجهة نظري كانت هي أن التوافق هو السبيل الوحيد في سياق الظرفية الداخلية المغربية. قلت: إن الوقوف عند شرط المجلس الاستشاري المغربي، المنتخب عبر الاقتراع السري، سيكون خطأ فادحا، فليس بمقدورنا أن نفرض على ملك يحظى بشعبية، حظي بمباركة مجموع الشعب، لدى عودته من المنفى، أن يسلم الملكية إلى مجلس منتخب، حتى ولو انتخب ديمقراطيا. لن يسعه أبدا القبول بذلك… أجابني المهدي -فات الأوان، لن يمكننا العودة إلى الوراء… وعلى كل، حاول أن تحدث المحجوب والاتحاد المغربي للشغل في الأمر.. مافات أوانه هو أن نريد إعادة صناعة التاريخ من جديد. فعندما تضيع الفرصة، يكون من غير المجدي السعي لاستعادتها .. أية ايديولوجيا؟ أي رؤية كانت لدى المقاومين والنقابيين وحزب الاستقلال. إلخ في السنوات من 1952 إلى 1955؟ لاشيء، فالشعار الوحيد كان هو عودة محمد الخامس، وحتى الاستقلال الوطني وضع في المرتبة من بعد.. لا أعتقد في الوقت الراهن، يجب أن نأخذ من جديد بفكرة الغرفة الدستورية، يمكننا أن نتفاوض بخصوص تشكيلها وسلطاتها، لكن تبدو لي تسوية من شأنها أن تخرجنا من المأزق.. بيد أن مواصلة النضال من أجل مجلس تأسيسي، مع ترك المشاكل الأساسية للاقتصاد والقضايا الاجتماعية والثقافية جانبا، دون الحديث عن القواعد الأجنبية أو سياسة اللا- تبعية يكون المجلس التأسيسي بلوكاج (انحسارا)… فشئنا أم أبينا ذلك، فإن السلطة بين يدي الملكية…..).
كان عبد الرحيم يتخوف كثيرا مما يسميه »السقوط في فخ التاريخ«، أي ترك الفرصة تضيع ثم محاولة استعادتها في مجهود سيزيفي مرهق بدون أفق وبدون دينامية..
لهذا ظل شبه غريب في فترة التناحر، لكن التاريخ أنصفه من بعد حيث تحول «هاملت» إلى أكبر واقعي في زمن التراجيديات..
نحن أمام حالات إغراء تاريخية، كما حالات إغراء إقليمية، ومن هذا الباب فإن الإحالة على الإغراء الإسباني في تجربة الإصلاح، لا يمكن أن يلغي بأنها كانت محركة للإصلاح بالرغم من أنها نمت وعاشت تحت مظلة الكوديو فرانكو..” .
يجب أن نكرر بلا ملل، ما يلي: لقد أعفت القوة التعاقدية، الحقل الحزبي المغربي من التفكير عبر التفاوض. إذ كان الاختيار دوما يميل إلى التوافق حول الإصلاحات.
التفاوض يعني رهان قوة توتر، هل مرت الإصلاحات عبر هذا المسلك في المغرب؟
– نلاحظ أولا أن 30 سنة مرت من دستور 62 إلى دستور 92
باعتبارها اللحظات التي عرفت الصراع العنيف ولم يتغير الدستور فيها ولو مرة، في حين أنه تغير مرتين في عهد الملك الراحل (92/96) عبر الحوار وليس عبر الصراع.
بمعنى آخر أن القوة الكامنة في التعاقد الوطني الأصلي، كانت تعفي من البحث عنها في تفاوض آخر أو في مقابلات أخرى..
ومرت أقل من ذلك، إلى حدود 2011 (نصف المدة ).. وحصل أكبر تحول دستوري، ربما لم تسعفه السياسة في شيء.. وتلك قصة أخرى….
صحيح أن الشارع المغربي رفع الإصلاح الدستوري كعتبة وسقف لتحركاته، لكنه في الواقع عمم التغيير في الشكل أيضا:لا مذكرة لا كيانات محددة، بقدر ما هناك أجندة إصلاح معروضة عبر الشارع والحوار المؤسساتي أعقبها ولم يتزامن معها ويسبقها… اعتبرتها المؤسسة المركزية عرضا سياسيا يستوجب التفاعل الإيجابي..
هل كان من الممكن أن نتصور أنها ستستجيب لو لم يكن لديها استعداد قبلي لذلك ؟
أبدا… لأن ميزان القوة لم يكن حاضرا دوما في الاتجاه نحو المستقبل….
(3)
الشرعية الإصلاحية للملكية
تقود الملكية، منذ عقدين تقريبا، عملية إصلاح شاملة، تعدت المفهوم الجديد للسلطة إلى المصالحة مع المعايير الكونية في تنظيمها.
لا جدال في أن التغيير الحاصل في دورالملكية، هو قراءة تاريخية لموقع المغرب الضروري في التقدم نحو الأمام، ومركزيتها لا تمتحها فقط من الشرعيات المعروفة: الدينية والتاريخية والدستورية، بل أيضا من كونها قاطرة الإصلاح، وبالتالي فهي تملك شرعية إصلاحية لا غبار عليها.
إذا اقتصرنا على الدسترة الحديثة للطبيعة الجديدة للدولة، فإن التذكير ببعض المعطيات ضروري في التقدير:
– من الذي سارع إلى المطالبة بالإصلاح، في فبراير 2011؟
باستثناء الاتحاد – وهو نفسه لم يكن هناك إجماع داخل قيادته !- الذي تقدم بورقة عمل دستورية ومذكرة للإصلاح، و لم يغامر أي حزب بمذكرة للإصلاح أو أعرب عن مشاركته الاتحاد في مذكرته!
– الحركة الإسلامية، كانت وتظل تتموقع بين اللعب من خارج الملعب الدستوري والإصلاحي أو أنها اعتبرت بأن الإصلاح ليس أولوية، وأن بناء الثقة هي الأساس، ولم تغامر كحركة سياسية – ذات وجود شرعي وقانوني- ممثلة في العدالة والتنمية بوضع مخطط للإصلاح الدستوري حتى استدعاها الملك إلى مائدة التعديل الدستوري..
– مكونات الكتلة الأخرى ظلت تردد بأن الوضعية متقدمة وأن احترام المنهجية الديموقراطية في تعيين الأستاذ عباس الفاسي، الأمين العام لحزب الاستقلال المرتب في طليعة الأحزاب، كاف وأن الأساس الدستوري للحكومة تم احترامه ولا شيء يدعو إلى المذكرة..
– مكونات الحقل الحزبي الأخرى لم ينتظر منها أبدا أن تلعب دورا آخر غير دور تعطيل الاندفاعات الإصلاحية وهي امتداد طبيعي للإدارة السياسية…
إذن ، تبين بأن الإصلاح رهان ملكي، وأن المساهمة الممكنة للحقل الحزبي بكل تشكلاته (اللهم ما ذكرنا كاستثناء) هي في الحوار حول الإصلاح.
وهذا معطى حقيقي، يدل بأن الفرملة تأتي في الغالب من القوى السياسية نفسها، والتي تتوزعها مرة باسم الثوابت ومرة أخرى باسم التوازن.. وقد تبين أن جزءا كبيرا من الإصلاح الدستوري المتفق عليه، هو في أغلبه، رسملة للممارسة الملكية في مجالات الحقوق والمصالحات ومفهوم السلطة والجهوية والمسألة الأمنية …إلخ.
من يفاوض ومن؟
الحقيقة أن زاوية الإصلاح ضيقة في بلاد نخبتها تخاف بالفعل أن يكون الاستحقاق معيارا في تحديد الوجود أو حتى المشاركة في الفعل السياسي!
بل لحد الساعة ما زالت الخطب الملكية هي الأقوى في الحديث عن اختلالات السياسة…
واختلالات الالتزام المواطن…
وفي ترتيب الأولويات الدستورية…
ولنا أن نذكر بمثال مجلس الوصاية الذي أعيد مقترح قانونه إلى الديوان الملكي، ككيان دستوري، لأن الحكومة السابقة اعتبرت أنه ليس من اختصاصها إلى أن أعيد مجددا إلى مقرها …كدعوة صريحة للممارسة الدستورية السليمة…
ولنا أن نسأل بوضوح: ألا تعطي الريادة في الإصلاح الحق في القوة السياسية، كما تسوغ المركزية في الدور؟..
أليس منطقيا أن الذي يقود الإصلاح هو الأولى بالسهر عليه بل قل حتى تأويله؟…
ليست أسئلة للملاججة( لاجَّ يُلاجّ ، لاجِجْ / لاجَّ ، لِجاجًا ومُلاججةً ، فهو مُلاجِج، والمفعول مُلاجَج :- ? لاجّ الشّخصُ خصمَه لجّ ؛ تمادى معه في الخصومة)، هي ليست كذلك بقدر ما هي تمرين بلاغي له قوة النفوذ السياسي، والحال أن التأزيم مقصود هنا لمنطق يعتبر بأن الإصلاح يأتي، ولا بد، من خارج الملكية ..! وهذا أمر غير منصف تاريخيا ويفسد التحليل بناء على تاريخ حديث…