مقدمة:
شكلت الندوة الفكرية، المغاربية-الفلسطينية، التي احتضنتها «المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير» بالرباط، بشراكة مع «جامعة الدول العربية»، مركز تونس، يومي 9-10 يوليوز 2018، حول موضوع: «دور المغاربيين في دعم نضالات فلسطين» – شكلت محطة هامة في مسار القضية الفلسطينية، التي عانت، في حقبة ما بعد «الربيع العربي»، حالة غير مسبوقة من التراجع الحاصل في ترتيب أولويتها في سلم الانشغال العربي، والاهتمام الدولي بها.. ولعل من فضائل هذا اللقاء المعرفي، في إطار هذه «الندوة الفكرية»، انكباب عشرين باحثاً من المغرب والمغرب العربي والشام، على دراسة العلاقات الفلسطينية-المغاربية في مختلف الحقب التاريخية من جانب، وعلى تأمل الإشكاليات السياسية والجيوسياسية التي تُطوق القضية الفلسطينية في مسارها الراهن من جانب آخر.
(1) يأتي انعقاد هذه الندوة الهامة بالرباط، تعبيراً متجدداً عن دوام تفاعل وتجاوب وانخراط المغرب، ملكاً وحكومة وشعباً، في مسيرة الكفاح المشروع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني الباسل ضد الاحتلال الإسرائيلي لأراضيه، ومن أجل إقرار وتفعيل تسوية سياسية، سلمية، شاملة للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، قِوامها الأساس: إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، عاصمتها القدس الشرقية.
وكما هو معروف عن المغرب وعن المغاربيين، فقد احتلت القضية الفلسطينية مكان الصدارة في حِسهم القومي، كما كانت وظلت موضوع إجماع والتحام في موقف التضامن والمناصرة والدعم، وميثاق التزام وانخراط في نهج الانعتاق، ومعركة التحرير…
ولا غرابة في ذلك، فإن تعلق المغاربة بأرض فلسطين المنكوبة، وبمقدسات القدس الشريف السليبة، لما يمثلانــه من رمــــــزية دينيـــــــة، ومـــرجعيـــــة تاريخيــــــة، ومــــــوروث ثقــافــــــي وحضـــاري، عربي-إسلامي
– إن تعلق المغاربة بالقدس وفلسطين، ليضربُ أطنابَه في أعماق التاريخ…
بل تزداد مفاعيله السياسية والنضالية حدة وعنفواناً في ظل ما تعرض ويتعرض له الشعب الفلسطيني من محن ومُلمات: منذ الاحتلال البريطاني، سنة 1918، ومخلفاته، وحدوث «النكبة»، عام 1948، ومضاعفاتها الإنسانية والترابية، وواقعة «النكسة» عام 1967، وما نجم عنها من استفحال وضع الاحتلال، وتفاقم سياسة الاستيطان، وتفاحش إجراءات القمع، والميز العنصري، وصنوف التعسف والاضطهاد…
(2) واليوم، يواجه الشعب الفلسطيني ظرفية دقيقة، تُفاقم معاناته، كما ترفعُ من مستوى مسئوليات التضامن والمساندة له. وتستمد هذه الظرفية حراجتها من معطيات محلية وإقليمية ودولية بالغة الدقة.
أولها: مأزومية الوضع العربي، بما يتسم به من تراجع في مستوى التضامن والتكافل، في أعقاب تداعيات عاصفة «الربيع العربي»؛
ثانيها: سطوة اليمين الإسرائيلي المتطرف على مراكز القرار في إسرائيل وسعيه الحثيث إلى نسف وإقبار «حل الدولتين»؛
ثالثها: مُغالاة الإدارة الأمريكية الجديدة في الانحياز التام إلى موقف اليمين الإسرائيلي المتطرف، فيما يخص شروط تسوية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وفق قواعد الشرعية الدولية، و»خطة السلام» العربية؛
رابعها: حالة الانقسام التي تطال الصف الفلسطيني ما بين الضفة والقطاع، مما بات يهدد حركة التحرر الوطني الفلسطيني، بمختلف فصائلها السياسية، وقواعدها الشعبية، بأخطار محدقة على الصعيد الفلسطيني والإقليمي والدولي.
(3) لكن هذا السجل السلبي، المقلق في ما جريات الظرفية العصيبة التي تحيط بالقضية الفلسطينية، لا يستحوذ وحدَه على شروط الكفاح الفلسطيني، إذ ترتسم في الأفق المنظور، ديناميات ومبادرات ونضالات تصوغ، في المقابل، سجلاً إيجابياً للقضية الفلسطينية.
I- أولى هذه ديناميات-النضالات، مواقف ومبادرات جلالة الملك محمد السادس، رئيس «لجنة القدس». أجل، لقد أطلقت المواقف المبدئية الثابتة، والمبادرات السياسية والميدانية الشجاعة لجلالته، دينامية تشكل إجماع دولي حول مركزية وحيوية بند القدس الشرقية في كل مسعى للتسوية السياسية للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي.
إذ بـــادر جلالتـــه، في موقف استباقــــي، ببعث رسالتين إلى كل من فخامة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وإلى سيادة الأمين العام للأمم المتحــــدة، السيد أنطونيو غوتيريس (Antonio Gueterres) يُشدد فيهما جلالته على أن كل مساس بالوضع القانــــونــــي والسياســــــي والتاريخــــــي للقــدس ستكـــون لــه عـــواقب وخيمـــــة على الســـلام في المنطقــــــة، مما من شأنـــــــه أن ينسف الجهــود الدوليـــــة لخلــق منـــاخ ملائـــــم لاستئناف مفاوضات السلام، بلوغـــاً إلى الوصــول إلى تسويـــــة عادلــــة، شاملـــة للنـــزاع الإسرائيلي-الفلسطيني.
كما أكد جلالته لفخامة الرئيس محمود عباس، رئيس «منظمة التحرير الفلسطينية» ورئيس «السلطة الوطنية»، رفض جلالته للإجراء الأمريكي بشأن القدس، مجدداً له تضامن المغرب، الثابت والكامل، والتزام جلالته القوي ببذل كل الجهود لتعبئة الأسرة الدولية من أجل نصرة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وفي نفس السيــــاق، أعلـــن جلالـــــــة الملك محمـــــد الســـادس في رسالـــة موجهــــة إلى المشاركين في المؤتمـــر الــــدولـــي الخــــامس حول القــــدس، الذي انطلقت أشغالـــه بالرباط يوم الثلاثاء 26 يونيو 2018، عن إرادة جلالته في بذل المزيد من الجهود الدبلوماسية من أجل تبني قرارات دولية مُلزِمة لفائدة القدس، قرارات دولية كفيلة بحماية المدينة المقدسة، قمينة بالحفاظ على طابعها الروحي والثقافي، وعلى وضعها القانوني.
«كما أننا – يقول جلالته – لا نُغفل النظر كذلك، عن ضرورة العمل، على المستوى الميداني، في المجال التنموي، وفي الميادين الاجتماعية والإنسانية، من أجل مُساعدة الشعب الفلسطيني على مقاومة سياسات الطرد والإبعاد والتنقل التي تُمارس ضده».
وبفضل هذه المبادرات الملكية الشجاعة، البناءة التي تجعل من «لجنة القدس» مؤسسة طلائعية، في مجال مواكبة وتعزيز نضال الشعب الفلسطيني، تحظى باعتبار وتقدير «منظمة التعاون الإسلامي»، كما تحظى باهتمام وتقدير قوى الحرية والعدالة والسلام في كل أرجاء المعمور.
II- ثانية هذه الديناميات-المبادرات: تبلور إجماع دولي ضد قرار الإدارة الأمريكية الجديدة بنقل سفارتها إلى القدس الشرقية، وهو القرار الرامي إلى «شرعنة» الأجندة الإسرائيلية الجارية التنفيذ: احتلال القدس الشرقية في يونيو 1967، ثم الإعلان عن «ضمها» سنة 1980، وتقوم «الشرعنة» الأمريكية لهذا المسلسل الإسرائيلي-التوسعي على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس الشرقية، والاعتراف بالأخيرة عاصمة لإسرائيل.
ويترجم الإجماع الدولي ضد قرار الإدارة الأمريكية تحولاً سياسياً دولياً بالغ الأهمية، إذ تتحول بمقتضاه قضية القدس إلى بند مركزي، إلى مسألة مفصلية أساسية في ملف النزاع العربي-الإسرائيلي.
كما أن الإجماع الدولي على رفض القرار الأمريكي، يعيد إلى الواجهة العالمية ما ينطويعليه القرار الأمريكي من انتهاك سافر، صارخ للشرعية الدولية ذات الصلة بالوضع القانوني للقدس الشرقية كما عبرت عنه قرارات مجلس الأمن الدولي.
III- ثالثة الديناميات النضالية، تَصاعد وتيرة الحراك الشعبي على المستوى الفلسطيني والعربي-الإسلامي والدولي، لمواجهة المخاطر الجديدة، المحدقة بالقضية الفلسطينية.
فقد تسارعت وتيرة المقاومة السياسية والميدانية في قطاع غزة، عبر «مسيرات العودة»، وفي القدس والضفة، عبر مسيرات الاحتجاج و»المقاومة السلمية»، وفي مواقع وبلدان «الشتات الفلسطيني» في العالم العربي-الإسلامي، وفي العديد من العواصم والأقطار الأوربية والأمريكية – وهي إرهاصات دالة، ومقدمات واعدة، تبشر باستعادة القضية الفلسطينية لموقعها في صدارة الاهتمام القومي والإسلامي، وفي طليعة الانشغال الأممي والدولي.
وغني عن البيان أن تقاطع وتفاعل هذه الديناميات الثلاث، يؤشران، بما لا يدع مجالاً للشك، إلى حدوث تحول نوعي في مسار القضية الفلسطينية، تنتقل بمقتضاه من «الدائرة الرمادية» التي زُجّت فيها، قومياً ودولياً، في شروط عاصفة «الربيع العربي»، إلى دائرة الحركية والفعالية التي تستعيد فيها عافيتها السياسية، وديناميتها النضالية…
بيد أن تنشيط وتفعيل هذا التحول النوعي الجاري في مسار القضية الفلسطينية، يستدعي، أول ما يستدعي، احتواء حالة الشرخ الذي يتهدد وحدة الصف الفلسطيني، وتعزيز بنية وسلطة ودور «منظمة التحرير الفلسطينية»، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ونبذ النزوعات «الانفصالية» التي تفرزها حالة الانقسام في الصف الفلسطيني، حيثما كان مصدرها ومأتاها، حفاظاً على وحدة وفعالية ومصداقية حركة التحرر الوطني الفلسطيني.
خاتمة:
إن تفاعل وتعاضد جهود المملكة المغربية على كافة الأصعدة، السياسية والاجتماعية والميدانية، مع هبة الشعب الفلسطيني في ربوع القدس والضفة والقطاع، تعزيزاً لصموده على أديم أرضه، ودعماً لمقاومته السلمية المشروعة للاحتلال والقمع والاضطهاد – إنما يعكس في دلالاته، ومغازيه عمقَ تجذر القضية الفلسطينية في ضمير المغاربة، وحقيقة أولويتها في سلم قضايا الحرية والعدالة والسلام التي جُبل المغرب والمغاربة على الالتحام بها في كل مكان وزمان.
فقد لعب المغاربة دوراً محورياً في تحرير القدس على عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، كما قاتل المغاربة إلى جانب إخوانهم الفلسطينيين في حرب فلسطين سنة 1948، واستشهد العديد منهم على ترابها. كما كان المغرب حاضراً باستمرار في كافة المحطات السياسية والدبلوماسية، العربية والإسلامية والدولية، لمناصرة «منظمة التحرير الفلسطينية» وتعزيز نضالها على كافة الأصعدة؛ ففي مؤتمر القمة العربية بالرباط تم الاعتراف العربي بـ «منظمة التحرير الفلسطينية» ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني (1974)، وفي مؤتمر القمة الإسلامي، الذي عقد بالدار البيضاء، في أعقاب إحراق المسجد الأقصى من طرف متطرف صهيوني، (1969)، اختمرت فكرة تشكيل «منظمة المؤتمر الإسلامي» التي أصبحت تحمل فيما بعد، اسم «منظمة التعاون الإسلامي»، والتي تضم أربعة وخمسين دولة عربية وإسلامية.
ومن قلب «منظمة التعاون الإسلامي» انبثقت «لجنة القدس» التي أضحت تشكل، تحت رئاسة جلالة الملك محمد السادس، مؤسسة طلائعية، لنصرة ودعم صمود الفلسطينيين، والمقدسيين منهم خاصة.
إن ما يجمع بين المغرب وقضية فلسطين ميثاق راسخ من الوفاء والالتزام، لا تنفصم عُراه، ولا تخفت جذوته، ولا تهن دوافعه الدينية والقومية والإنسانية.
إنه قدر المغاربة في الالتحام بقضايا الحرية والعدالة والسلام، وفي مقدمتها قضية تحرير الشعب الفلسطيني من الاحتلال والاستعمار…
الكاتب : السفير محمد الاخصاصي
الاربعاء 18 يوليوز 2018.