الزمان والمكان في الحقل المعرفي العربي

محمد عابد الجابري

تصور الزمان عنصر أساسي في نوع الرؤية التي يشيدها الإنسان لنفسه عن العالم. وبالنسبة للحقل المعرفي البياني العربي عموما، فإن ما يميز الزمان فيه هو أنه متداخل مع المكان والحَدث لأنه عرَض مثلهما. وعلى الرغم من تعدد الكلمات التي تدل على “الزمن” في اللغة العربية، فإننا لا نجد من بينها ما يدل على تصور مجرد للزمان، أي بوصفه إطارا للحوادث مستقلا عنها، بل إن جميع تلك الكلمات تقف عند حدود الحدس المشخّص الذي يربط الزمان بالمتزمن فيه، أي بالحدث، كما يربط المكان بالمتمكن فيه؛ وبالتالي فالكلمات التي تدل على الزمن في اللغة العربية لا تختلف معانيها بالنظر إلى المفهوم ذاته، بل فقط بالنظر إلى أقسام الزمان، كما يُعبَّر عنها في الاستعمال اللغوي. وهكذا نقرأ في “لسان العرب” ما يلي: “الزمان اسم لقليل من الوقت أو كثيره.. الزمان زمان الرطب والفاكهة وزمان الحر والبرد، ويكون الزمن شهرين إلى ستة أشهر. والزمن يقع على الفصل من فصول السنة، وعلى مدة ولاية الرجل وما أشبه ذلك. وأزمن الشيء: طال عليه”.

نعم هناك لفظ “الدهر” ولكنه لا يدل هو الآخر على مفهوم محدد، سوى أنه يشار به في الغالب إلى طول الزمان. جاء في لسان العرب أيضا: الدهر “هو والزمن واحد.. والدهر عند العرب يقع على وقت الزمان من الأزمنة وعلى مدة الدنيا كلها”، تقول العرب “أقمنا بموضع كذا دهرا، وأن هذا البلد لا يحملنا دهرا طويلا”! وإذا كان لفظ “الدهر” ينصرف بالذهن إلى “الزمن الطويل والحياة الدنيا”، فلعل التعبير عن طول الزمن بـ “السرمد” أقوى وأبلغ، فهو عندهم عبارة عن “دوام الزمان من ليل ونهار”. ومع ذلك فهو لا يعني قط لا نهائية الزمان، بل يشير فقط إلى طوله النسبي، يقال: “ليل سرمد: طويل”. وفي القرآن: “قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة” (القصص 72). والسرمد، في اعتبار اللغويين، أصله من السرد، وهو المتابعة.

ويميز صاحب “الفروق في اللغة” بين معاني الكلمات الدالة على الزمن على النحو التالي: “الفرق بين الدهر والمدة أن الدهر جمع أوقات متوالية مختلفة كانت أو غير مختلفة، ولهذا يقال الشتاء مدة ولا يقال دهر لتساوي أوقاته في برد الهواء وغير ذلك من صفاته. ويقال للسنين دهر لأن أوقاتها مختلفة في الحر والبرد وغير ذلك. وأيضا من المدة ما يكون أطول من الدهر، ألا تراهم يقولون: هذه الدنيا دهور ولا يقال الدنيا مُدد. والمدة والأجل متقاربان، فكما أن من الأجل ما يكون دهورا فكذلك المدة. والفرق بين المدة والزمان أن اسم الزمان يقع على كل جمع من الأوقات، وكذلك المدة، إلا أن أقصر المدة أطول من أقصر الزمان… والفرق بين الزمان والوقت أن الزمان أوقات متوالية مختلفة وغير مختلفة، والوقت واحد. يقال زمان قصير وزمان طويل، ولا يقال وقت قصير”.

واضح أن الأمر لا يتعلق بفروق دلالية بين معاني هذه الكلمات، بل بمجرد الاختلاف في الاستعمال: إذ يقال الشتاء مدة ولا يقال دهر، ويقال للسنين دهر ولا يقال للدنيا دهر بل دهور، ويقال فيها مدة… نعم هناك من الباحثين المعاصرين من يرى في كلمة دهر حدسا للزمن المجرد المطلق، الذي لا بداية له ولا نهاية، وهم يستدلون على ذلك بالحديث النبوي الذي ورد فيه: “لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر”.

والواقع أن مفهوم “الزمن المطلق”، الذي لا بداية له ولا نهاية، غائب تماما عن الحقل المعرفي البياني العربي، ليس فقط لأن الحقل الدلالي لكلمة دهر، كما تم تداولها في الجاهلية وصدر الإسلام، لا يتحمل هذا التصور، بل أيضا لأن العقيدة الإسلامية ترفضه. أما الحديث النبوي المذكور فليس معناه أن “الله هو الدهر”، على الحقيقة، وإنما معناه كما يقول صاحب لسان العرب : “إن ما أصابك من الدهر فالله فاعله، ليس الدهـر”، ذلك لأن العرب “كان من شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند الحوادث والنوازل تنزل بهم من موت أو هرم فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر وحوادثه وأبادهم الدهر”، وعلى هذا تكون عبارة “الله هو الدهر” موازنة لعبارة أخرى متداولة في العصور الإسلامية هي عبارة “صاحب الزمان”. يقول ابن قتيبة: “سمع زياد رجلا يسب الزمان فقال: لو كان يدري ما الزمان لعاقبته، وإنما الزمان هو السلطان”، أي زمان حكم السلطان القائم، فكأنه هو المسؤول عما أصاب ذلك الرجل من مكروه.

نخلص مما تقدم إلى أن الزمن في الحقل الدلالي الذي تحتفظ به اللغة العربية إلى اليوم، هو زمن مندمج في الحدَث، بمعنى: أنه يتجدد بوقائع حياة الإنسان وظواهر الطبيعة وحوادثها وليس العكس. إنه نسبي حسي يتداخل مع الحدث مثله مثل المكان الذي يتداخل مع المتمكن فيه. وهذا الحدس الحسي المشخص للزمان والمكان والحدث راجع إلى بيئة العرب الذين جُمِعت منهم اللغة، بيئة البادية والصحراء. إن زمن الصحراء هو زمن الحل والترحال، يتجدد بالحوادث والمشاهد والأمكنة وأنواع المعاناة، فهو بمثابة مكان للحدَث، تماما مثلما أن المكان هو موضع حدوث الشيء. ومن هنا التداخل بين الزمان والمكان والحدث في الحقل المعرفي العربي البياني. وهو التداخل الذي يعكسه وجود صيغة صرفية واحدة هي صيغة “مفعل”، تدل على الحدث كما تدل على الزمان والمكان. فكلمة “مجلس” مصدر ميمي من جلس فهي حدث مجرد عن الزمان (= وهذا هو تعريف المصدر)، ولكنها أيضا تستعمل “اسم زمان” للدلالة على زمن الجلوس، كما تستعمل “اسم مكان” للدلالة على مكانه. وفي هذا المعنى يقول كاتب عربي معاصر: “لقد أنشأ الذهن العربي من المكان والزمان ظرفا مشتركا، فعبر عنهما بصيغة واحدة وشمل بهذه الصيغة اسم المصدر أيضا… إن نشأة هذه الصيغة من الماضي واقترابها بالشكل من اسم المفعول اقترابا يتحول إلى مماثلة تامة في الأفعال التي تزيد عن الثلاثي لَيكشفان لنا عن التباس المصدر بالزمان والمكان في ذهن العربي وتغلب طابع المكان عليهما”.

هذا التداخل بين الزمان والمكان والحدث الذي تعكسه اللغة العربية المعجمية، لغة الأعراب في الجاهلية وصدر الإسلام، نجده قائما في لغة المتكلمين واصطلاحهم كما سنرى، وبالتالي يبقى هذا التداخل مقوما أساسيا من مقومات الرؤية البيانية للعالم سواء في صورتها “العامية” أو في صورتها “العالمة”.

موقع ..الاقتصادية

‫شاهد أيضًا‬

الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي

على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…