بدأت حقوق الإنسان فكرةً، في التاريخ الحديث، وانتهت إلى إيديولوجيا لم تَسْلَم من هوْل نتائجها حقوقُ الإنسان نفسُها! في الأمر مفارقة؛ إذن، لابدّ من جلاء ملابساتها.
تعود لحظة ميلاد الفكرة إلى القرن السابع عشر؛ حين نشأت بذرتُها في التربة الخصبة للفلسفة الحديثة، والفلسفة السياسيّة منها على وجه التحديد، قبل أن يشتدّ عودُها، ويَقْوَى في الفكر القانونيّ وعلم السياسة الحديث. ومبناها، ابتداء، على التسليم بما يتمتّع به الناس من حقوق مدنيّة وسياسيّة تكلفها الدولةُ لهم، بما هم مواطنون فيها يَمْحضونها الولاء، ويَكِلُون إليها إدارة شأنهم العامّ، وبما هي الجهة التي لها الوَلاية عليهم، القائمة على أمورهم؛ بمقتضى التوافق والميثاق الاجتماعيّ المنعقد عليها بينهم. كان فلاسفة العقد الاجتماعيّ (هوبس، لوك، سبينوزا، روسو…) هم آباء الفكرة الروحيين. وبيانُ ذلك، عند هؤلاء، أنّ حقّ الإنسان في الحياة، وفي الحريّة والمُلكيّة.. حقٌّ تمنحه الطبيعةُ إيّاه؛ لأن ذلك من صميم قوانين الطبيعة، وما الدولةُ إلاّ ذلك الكيان الجمْعيّ، الذي اصطنعه الناس لأنفسهم؛ من أجل أن ينهض بدور تأمين الحقوق تلك، وحمايتها وصوْنها؛ أي من أجل تصييرها حقوقاً مدنيّة: على ما تقضي بذلك قوانين العقل؛ التي هي، عندهم، عينُها قوانين الطبيعة. هكذا سلّموا بما سلَّم به توماس هوبس قبلهم (ضمان الحقّ الطبيعيّ يكون من طريق تحويله إلى حقّ مدنيّ عبر العقد الاجتماعيّ)؛ ولكن ليختلفوا معه في تبريره السلطةَ المطلقة، بدعوى الحاجة إلى الأمن، وبدعوى تحقيق قانون طبيعيّ هو «حفظ النوع الإنسانيّ»، وفي إخراجه صاحب السلطة Le Souverain من عملية التعاقد.
وما لبثت الفكرةُ أن وجدتْ تحقُّقاً مادّياً لها في الثورة الإنكليزيّة (1689-1688)، والدستور الأمريكيّ (1787)، والثورة الفرنسيّة (1789) ليتكرّر التعبيرُ عنها (أي الفكرة) في ثورات ودساتير أوروبيّة أخرى لحِقت الأولى في الزمان. ولئن كان التحقُّق السياسيّ ذاك (للفكرة تلك) يُطْلِعنا على توافُر أسبابه الموجِبة؛ أي وجود الحامل الاجتماعيّ (الطبقيّ) والسياسيّ للفكرة، ونجاحه في تحويلها إلى مشروعٍ سياسيّ قابلٍ للتحقيق، فإنّ تحقُّقَها الماديَّ لم يكن، دائماً، متشابهاً في الأسس والقسمات، ولا متساوقاً في الوتيرة والمستويات، بقدر ما أتى متفاوتاً في نسب التطوّر والتقدّم.
أُعيدَ التشديدُ على فكرة حقوق الإنسان في محطّتين تاريخيَّتين من نصف القرن العشرين الأوّل؛ هما: الحرب العالميّة الأولى، والحرب العالميّة الثانيّة، كالتالي:
لم يكن تجديدُ القولِ بحقوق الإنسان في نهاية الحرب العالميّة الأولى – في ما عُرِف باسم «مبادئ ويلسون» ال14 (التي ألقاها الرئيس وودرو ويلسون أمام الكونجرس الأمريكيّ شهراً ونصف الشهر قبل انتهاء الحرب)- مصروفاً لإحداث هندسةٍ جديدة لعالمٍ جديدٍ قائمٍ على هذه المبادئ (في نطاق نظام «عصبة الأمم»)، على ما تبغي السرديّةُ الإيديولوجيّة الأمريكيّة-الغربيّة ترسيخه، وإنّما تغيَّا التجديدُ ذاك رفْعَ النموذج الليبراليّ الغربيّ في وجْه تَحَدٍّ عالميٍّ جديد مثَّلَهُ، في حينه، قيامُ النظام الاشتراكيّ في روسيا البلشفيّة، وامتداد تأثيراته وأصدائه إلى مجمل أوروبا والعالم.
وما لبثت المسألة أن رسَت على محطّة ثالثة، في نهاية النصف الثاني من القرن العشرين عينه؛ عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وزوال معسكره «الاشتراكيّ» وانتهاء الحرب الباردة. وكان الهدفُ هو هو عينُه: تشييع إيديولوجيا الخصم- أو العدوّ- والتبشير المتجدّد بالليبراليّة، وتوسُّل حقوق الإنسان؛ أداةً للإخضاع والسيطرة خارج العالم الغربيّ. إن «نهاية التاريخ» و«صدام الحضارات» ما عَنَتْ، في النطاق هذا، سوى إجبار العالم على التسليم بتفوُّق النموذج الليبراليّ الغربيّ، ودفْع أثمان أيّ محاولة لمواجهته بدعوى الخصوصيّة أو السيادة أو استقلال القرار. وكان أن هذا المنعطف، في التوازنات الدوليّة، اقترن بميلاد العولمة وزحفِها على العالم، وتحطيمِها الحدودَ واستباحتِها السيادات. وهكذا حُمِلَتْ إيديولوجيا حقوق الإنسان على محامل عولمية أخذتها إلى حدّ إقرار تشريعات دولية تنتهك ميثاق الأمم المتحدة نفسه – وتحديداً مبدأ احترام السيادة الوطنية- من قبيل إقرار مبدأ «حقّ التدخّل» الذي يُسوّغ انتهاك سيادة أي دولةٍ – من الجنوب طبعاً أو من «الدول المارقة» مثل روسيا وصربيا…إلخ- إن تعرّضت فيها حقوقُ الإنسان للنّيل أو المساس. ولقد عَظُم الخَطب حين توسَّل التدخُّل الأدواتِ العسكريّةَ ( الحرب) والقانونَ الدوليّ (قرارات مجلس الأمن تحت الفصل السابع من الميثاق)! وكانت النتيجة حروباً وغزوات واحتلالات وملايين القتلى وعشرات ملايين اللاجئين والمشرّدين، منذ ربع قرنٍ ويزيد، باسم حقوق الإنسان! ثم كانت النتيجة، بالتّبِعة، الاعتداءَ السافر على حقوق الإنسان (الحقّ في الحياة، الحقّ في الاستقلال والحريّة والسيادة…) باسم حقوق الإنسان!
هذا كان الشوط الطويل الذي قطعتْه حقوقُ الإنسان، في انتقالها من فكرة نبيلة إلى إيديولوجيا شرّيرة، منذ مئة عامٍ من هذا التاريخ.