لم يتردد المفكر الأميركي «فرانسيس فوكوياما» في تعقيبه على التصدع الظاهر لمجموعة السبع في اجتماعها الأخير بكندا في القول إنما نشهده عملياً هو نهاية «العالم الحر» الموحد الذي كان هو أفق النظام الليبرالي العالمي. تحول فوكوياما من نظرية «نهاية التاريخ» التي اشتهر بها في نهاية الثمانينيّات وتحول اهتمامه إلى الظاهرة الشعبوية الجديدة التي اعتبرها تحدياً خطيراً يتهدد المجتمعات الليبرالية من داخلها ويقلص الأمل بالمجتمع الديمقراطي الكوني الحر والمفتوح، الذي اعتقد في السابق أنه المحطة النهائية لتطور الإنسانية.
ما بدا لنا ظاهراً في ما وراء ملاحظة فوكوياما هو أننا نعيش انفصاماً غير مسبوق بين ديناميكيات ثلاث كانت من قبل متزامنة هي الديناميكية الديمقراطية الانتخابية، والديناميكية الليبرالية الفردية والديناميكية الاقتصادية الرأسمالية. تزامن هذه الديناميكيات الثلاث هو الذي ولد المفهوم الاستراتيجي للغرب الذي ليس محدوداً بالمجال الجغرافي، بل يشمل إجمالا ًأميركا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان.
ما كان مطروحاً بعد نهاية الحرب الباردة هو تمدد المنظومة الغربية في مكوناتها الثلاث، بحيث تتوسع الحركية الرأسمالية في شكل عولمة اقتصادية شاملة، وتتحول البلدان التي كانت تحكمها الأنظمة الاستثنائية العسكرية والحزبية الأحادية إلى مسلك الديمقراطية التعددية، وتنتصر قيم التنوير الليبرالي في العالم أجمعه بعد هزيمة الأيديولوجيا الاشتراكية بصيغتها المحورية الماركسية والصيغ الجنوبية المتفرعة عنها.
لكن ما نلمسه راهناً بعد مرور عقود ثلاثة على انهيار جدار برلين، الذي رمز لنهاية النظام القطبي السابق هو انبثاق تحولين كبيرين راهنين هما:
أولاً : بروز أنماط جديدة من الديمقراطية الليبرالية تكرس الانفصام بين المسطرة الانتخابية الإجرائية والقيم الليبرالية المتمحورة حول مدونة حقوق الإنسان ودولة القانون والفصل بين السلطات. بعض علماء الاجتماع أطلق على هذا النموذج تعبير «السلطويات التنافسية» في الوقت الذي استخدم الرئيس الروسي بوتين على النظام السياسي، الذي أقام في بلاده عبارة «الديمقراطية السيادية»، واختار «فكتور أوربان» رئيس الحكومة المجري تسمية «الديمقراطية اللاليبرالية» لوصف هذه الأحكام الشعبوية الجديدة، التي تصاعد نفوذها في أوروبا وأصبحت تحكم راهناً في عدة بلدان أوروبية آخرها إيطاليا. ومن الجلي أن أوروبا تعيش حالياً صراعاً داخلياً محتدماً بين خط الديمقراطية الليبرالية التي تتزعمه فرنسا وألمانيا، والخط الشعبوي المحافظ المتصاعد، كما أن الولايات المتحدة تعيش الصراع ذاته بالحدة نفسها بما ينعكس في الاستقطاب غير المسبوق داخل الحياة السياسية الأميركية بين النزعة «الجمهورية» الجديدة التي بمثلها الرئيس ترامب، والخط «الليبرالي» الذي يتبناه الحزب «الديمقراطي».
لا يتعلق الأمر بصراع ظرفي، بل بحركية سياسية ثابتة منبعها الأزمة العميقة، التي تعاني منها الديمقراطية الليبرالية في مستويين: انهيار القاعدة الاجتماعية الحاضنة تاريخياً للمنظومة الليبرالية، وتراجع الكفاءة السيادية للدولة القومية في مواجهة عولمة كونية أدت إلى تصدع اجتماعي هائل عبرت عنه سياسياً النزعات الشعبوية المحافظة الانكفائية. وإذا كانت الآلية الانتخابية أصبحت نمطاً تدبيرياً وحيداً للتنظيم السياسي وأداة مقبولة للشرعية في عموم بلدان العالم، إلا أنها لم تعد قادرة على حسم الصراع الاجتماعي حتى في الديمقراطيات العريقة، ومن هنا الخطر الذي يحمله انحراف العمل السياسي في مسالك أخرى مثل القضاء والإعلام الاجتماعي والاستقصائي في الديمقراطيات العريقة، والتنظيم المليشياتي والقوالب الطائفية والإثنية في بلدان أخرى.
ثانياً : انفجار المنظومة الرأسمالية من الداخل بالصراع المحتدم حول ضبط وإدارة حركيّة العولمة الاقتصادية، وما تطرحه من تحديات كبرى. ويمكن القول إجمالاً إن ثلاث أنماط من الرأسمالية تتصارع اليوم للتحكم في الديناميكية الاقتصادية: الرأسمالية الصينية التي يطلق عليها البعض «رأسمالية الدولة»، وقد اتخذت مشروع طريق الحرير مدخلا للهيمنة الاقتصادية على العالم والرأسمالية الأميركية الجديدة التي تستند لقاعدة مالية وإنتاجية قوية، وتسعى إلى تعديل قواعد التبادل التجاري الدولي لصالحها، ولو على حساب قواعد وآليات العولمة التي أبدعتها، الرأسمالية الاجتماعية الأوروبية – اليابانية (التي يطلق عليها بعض الاقتصاديين الرأسمالية الراينية نسبة إلى نهر الراين الألماني)، التي تتميز بسياسات الرفاهية والحماية ودور المجموعات الإنتاجية والنقابية في ضبط التوازنات الاقتصادية. ومن الواضح من التحولات الأخيرة أن محور الصراع الدولي القادم سيكون في قلب المنظومة الرأسمالية، ولذا فالحرب الباردة الجديدة ليست حرباً أيديولوجية ولا صراع أقطاب استراتيجية متنافسة، بل هي أقرب للحرب الأهلية داخل العالم الرأسمالي الواحد.