( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك أتباعك إلا من الذين هم أرذالنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل نظنكم كذابين.). هود – (27).
الدين في سياقه العامشَكَلَ عبر سيرورته وصيرورته التاريخيتين(النظرية العامة لهذا العالم… خلاصته الموسوعية, منطقه في صيغته الشعبية, مناط شرفه الروحي, وجزاؤه الأخلاقي, وتكملته المهيبة, وأساس عزائه وتبريره الشامل.). (1). إنه الرغبة الدفينة الطامحة لتحقيق كينونة الإنسان في عالم فقد مقومات هذا التحقق لأنه ليس لكينونة الإنسان (في صيغتها المثالية المطلقة) واقع حقيقي.
إن الدين في منظور التحليل السوسيولوجي (علم الاجتماع) وفقاً لهذه الرؤية, هو الوعي الشمولي لحياة الإنسان بكل علاقاتها في هذا الكون, وهو الوسيلة الفكرية التي من خلالها يعمل هذا الإنسان على تحقيق ذاته وتبرير وجودها ومشكلاتها المستعصية والدائمة الوجود وغير الثابتة. لذلك فالدين هو من يمنح الإنسان الصبر والسلوان, وهو أساس عزائه وتبريره الخيالي أو الوهمي لوجوده غير العقلانيفيهذا العالم الفاسد. أي وجوده القائم على الظلم والقهر والاستلاب والتشيئ والاغتراب, الذي دفعه في مرحلة تاريخية من مسيرة حياته إلى عبادة أصنام أو ألهةيعتقد أنها سر وجوده وسبب شقائه وهنائه, يقوم هو بخلقها, وإن جاع اضطر لأكلها. وبناءً على ذلك فإن المنطق والعقل يتطلب العمل على تفكيك البنية الدينية ذاتها والبحث عن سر هذه الهيمنة شبه المطلة للفكر الديني على حياة الإنسان, ورسم ملامح هذه الحياة ماضياً حاضراً ومستقبلاُ. وعلى هذا الأساس تأتي مسألة نقد الدين أمراً مشروعاً تتطلبه القيم الإنسانية النبيلة والتي أهم ما فيها وعي الإنسان لنفسه وامتلاكه القدرة والإرادة في صناعة حياته وفقاً لما يراه هو ذاته مطابقاً لجوهر إنسانيته ومصالحه.
إذن إن النضال ضد الفكر الديني في شقه السبيبما يحمله من قدرات تبريرية لتجسيد مسألة الجبر والوهم وسلب الإنسان في المحصلة حريته وإرادته في تقرير مصيره ورسم طرق الوصول إلى جوهر إنسانيته, هو نضال ضد ذاك العالم الذي يأتي الدين في شقه المنافي لحرية الإنسان وإرادته, ليشكل عبيره الروحي الذي يبرر ظلم الإنسان وقهره على أن هذا الظلم والقهر هو من خارج ظروفه الاجتماعية وعلاقاتها الاستغلالية, بينما الشق العقلاني والايجابي من الدين يقول: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). (النحل . 118).
إن قضايا شقاء الإنسان وعذابه وقهره ومعاناته واستلابه وتشيئه وغربته التي تظهر عند الناس, وتُبرر من خلال الدين عبر مشايخه خدمة للسلطات المستبدة أو خدمة للقوى الاجتماعية المستغِلة, على أنها قدر محتوم على الفرد لا مناص منه, أو هي وسيلة تفرض على المرء لامتحانه وصبره وإظهار قوة إيمانه كما جرى لـ(أيوب) وصبره حسب ما اوردته التوراة, ماهي في الحقيقة إلا تعبيراً عن الشقاء الواقعي الذي يعيشه الإنسان, وهي من جهة أخرى احتجاج على هذا الواقع أيضاً وعلى القوى الاجتماعية المنتجة له. فالدين يأتي في موقفه التبريري لظلم الإنسان هناوسيلة لتهجين وترويض الإنسان المقموع, حيث يتحول الدين في هذه الحالة إلى أفيون للشعوب تسخره القوى المستبدة والمستغِلة ضد الإنسان.
إن قراءة أولية لمقولة (أفيون الشعوب), التي حُملت من قبل التيار السلفي التكفيري والقوى الطبقية المستغِلة الكثير من الغبن والتشويه, وفُسرت تفسيراً عاطفياً وذاتياً وارتجالياً وبالتالي مصلحياً, بناءً على رؤى ومواقف فكرية عدائية مسبقة, أكثر مما هي مواقف تقوم على التبصر ونقد هذه المعاناة الإنسانية نقداً عقلانياً وتبيان أسباب ظهورها وممارستها, وذلك بغية تقييد إرادة الإنسان المقهور والحد من طموحاتها الإنسانية الثورية أولاً ,ثم الحد من تعميم ونشرالفكر التنويري العقلاني الذي يفسح في المجال واسعاً لهذا الإنسان المقهور كي يعي ذاته ومصالحه ومستغِليه ثانياً.
إن الدين عموماً وبكل تجلياته وأشكاله التاريخية وأهدافه في سياقه العام, هو موقف فلسفي من الحياة في شقيها الروحي والمادي معاً كما أشرنا في بداية حديثنا. فالدين يشكل رؤى فكرية جاءت أو أنتجت في مراحل تاريخية عديدة من حياة الإنسان كإجابات عن أسئلة كبيرة سألها الإنسان ولم يزل يسألها, تتعلق بعلاقته مع الكون والطبيعة من جهة, وبعلاقته بخالقه وبأخيه الإنسان بكل ما تحمله هذه العلاقة من ظلم واستغلال وعدل ورحمة ومساواة أثناء إنتاجه لخيراته المادية والروحية من جهة ثانية. فالدين على أساس هذه الوضعية التاريخية لحياة الإنسان, ظل يشكل نظرية عامة ووحيدة لفترات زمنية تاريخية طويلة من حياة المجتمعات البشرية,بسبب موسوعيته التي دخلت في كل مسامات حياة الإنسان, وفي شعبيته من حيث هو الوعي الأكثر حضوراً في عقل الإنسان (الفرد والمجتمع) وعواطفه ووجدانه وضميره. فبسبب جهل الإنسان للقوانين الموضوعية والذاتية التي تتحكم في حياته وما يحيط بها, جاء الفكر الديني ليحلل ويركب المنظومة الحياتية لهذا الإنسان ويضع لها معايير للجزاءات في الثواب والعقاب, أي وضع معايير للجزاء تتعلق بما يقوم به الإنسان أو يمارسه عبر نشاطه الحياتي من قيم الأخلاقية فاضلة تتعلق بالشرف والحماسة والفضيلة والنبالة والرضا والقناعة والشهامة والمروءة وغير من القيم الإيجابية من جهة, أو ما يمارسه من قيم إنسانية سلبية, مثل الأنانية والكره والحقد للآخر. او ظلم الناس وقهره والتعدي على الحقوق الأساسية للإنسان التي فرضها الله وهي حق الحياة والعرض والمال والايمان بالله والدفاع عن النفس ..فمن هذا المنطلق تأتي مسألة النضال ضد استغلال الدين. فالنضال هنا ليس نضالاً ضد القيم الدينية الايجابية التي تساهم في تأكيد القيم الإنسانية النبيلة, إن كانت هذه القيم نتاج الإنسان في مراحل سيطرة دياناته الوضعية, أم في مراحل ظهور وسيادة الديانات السماوية الثلاثة, وإنما هو نضال ضد دين الخيال والوهم والجهل والضياع والاستسلام للقهر والظلم الذي يرتكبه الإنسان المستغِل بحق أخيه الإنسان باسم هذا الشق من الدين. وبالتالي فصيغة النضال هذه بتعبير آخر , هي ليست نضالاً ضد الدين ذاته, بقدر ما هي نضال ضد الظروف الموضوعية والذاتية التي تساهم في إنتاج الظلم وتجذيره أو بلورته في المجتمع باسم الدين كما اشرنا في موقع سابق, أي ضد من يعتبر أن ما يقع على الإنسان من قهر وظلم هو قدر محتوم علىه, وقد كتب في لوح محفوظ لاخلاص منه إلا بصبر أيوب.أو بتعبير آخر هو نضال ضد القوى المستغِلة والسلطوية المستبدة التي تستغل الدين لمصالحها وتوظفه لتجهيل الناس وإبعادهم عن معرفة حقيقة واقع ظلمهم وغربتهم واستلابهم الذي يعيشونه ومن فرضه عليهم.
من هذا المنطلق, يأتي الدين من جهة أخرى كحالة إيجابية عندما نعلم بان الدين في صيغته الشعبية قد استغل ثورياً أيضاً من قبل المقهورين والمستضعفين عبر تاريخه الطويل , ليشكل احتجاجاً على الواقع المنتج للظلم والفساد. فكان حقاً زفير الفقراء المقموعين والمظلومين, وقلب عالم لا قلب له بسبب التفاوت الطبقي وما يولده هذا التفاوت من استغلال, وزرع لوجود علاقات اجتماعية لا روح إنسانية إيجابية لها أو فيها إلا روح قهر وظلم واستعباد القوى المستبِدة بإسم الدين. وهو في هذا السياق يأتي في المحصلة (أفيون الشعوب) أيضاً, كونه استغل لتحريك الشعوب من أجل الحصول على حقوقها المغتصبة,مثلما استغل من أجل استكانتها وإخضاعها ورضاها لقهرها وقمعها لمستغِليها.
إن تاريخ نضال الشعوب وفقاً للتحليل السوسيولوجي يبين لنا أن أول من آمن بالديانات هم الناس المحرومون والفقراء والضعفاء والمهمشون والعبيد, الذين وجدوا فيه ضالتهم المنشودة في تحقيق إنسانيتهم التي افتقدوها بفعل ما مورس عليهم من قهر واستغلال أسيادهم وسلطاتهم المستبدة, كما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر عندما ظهر نبي الله موسى داعياً إلى العدل ضد قهر فرعون وظلمه, أو عندما ظهر السيد المسيح في عصر ظلم قياصرة الرومان. أو عندما ظهر الرسول محمد في عهد ظلم سادة قريش وكبار تجارها. بالرغم من أن هؤلاء السادة هم أنفسهم من دخلوا في الدين لاحقاً وعادوا ليستغلوه لمصالحهم في الديانات السماوية الثلاثة, أو غيرها من الديانات الوضعية.
إذاً إن الدين جاء وسيلة طبيعية مبررة أخلاقياً للنضال ضد ظروف قهر الناس من جهة , مثلما جاء هو نفسه من جهة أخرى الوسيلة الأكثر فعالية في تبرير إخضاع الإنسان تجاه واقع ظلمه وقهره وفقره, من خلال شرعنة هذا الظلم والقهر والفقر ً دينياً واعتباره قدراً محتوماً لا بد من الصبر عليه,حيث تصل دعوة الناس من أجل الرضوخ لقدرهم إلى الزهد ورفض الدنيا مقابل الآخرة, كما جرى في الخطاب الإسلامي الجبري الوثوقي ولم يزل. ففي كتاب إحياء علوم الدين للغزالي على سبيل المثال لا الحصر , جاءت أحاديث وتفاسير وتأويلات كثيرة تصب في هذا الاتجاه وبخاصة مسألة تبرير الفقر, منها: ( يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بخمسمئة سنة). (أحب العباد إلى الله تعالى الفقير القانع برزقه.).وإن ( الجوع عند الله في خزانة لا يعطيه إلا لمن أحبه. ). و(إذا رأيت الفقير مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين.). (2). هذا عدا الاستشهاد بآيات قرآنية ابتعدوا في تفسيرها أو تأويلها عن سياقها التاريخي وأسباب نزولها كالآية الكريمة : (أهم يقسمون رحمة بك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرية.). (3). والآية: (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق).(4). في الوقت الذي نجد فيه أحاديث تقول: ( بأن المال لا يجمع بالحلال قط, إما عن حرام أو عن شح وتقتير.). أو كما يقول السيد المسيح: (أهون ألف مرة أن يدخل بعير في خرم إبرة, من أن بدخل غني الجنة.). وفي هذا السياق التبريري لفقر الناس, يأتي استغلال الدين لمصلحة القوى المستبدة والمستغِلة واضحاً كل الوضوح.
يقول محمود أمين العالم في كتابه (الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر): لقد كتب الشيخ “عبد الحليم محمود”, شيخ الأزهر, حول موقف الإسلام من الغنى والفقر : ( من الأشياء التي تستدعي الكثير من التفكير أن عبد الرحمن بن عوف, وعثمان بن عفان, والزبير والطلحة, رضي الله عنهم, كانوا من أصحاب الملايين, وكانوا مع ذلك من المبشرين بالجنة, ولم يكن أبو ذر الغفاري أو بلال أو صهيب من المبشرين بالجنة؟!.). (5).
وكأني أجد في حديث الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر إيماناً بمضمون الآية : (( فقال الملأ الذين كفروا من قومهم مانراك إلا بشراً مثلنا ومانراك أتباعك إلامن الذين هم أرذالنا بادي الرأي ومانرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين.). هود – (27). ولكن إيمان شيخ الأزهر بها يأتي بطريقة أخرى تختلف عن أسباب نزولها أول مرة بالسادة من كفار قريش , فمضمونها هنا ينطبق برأيي على السادة المعاصرين من حكام مصر والعالم العربي المستبدين الذين وظفوا الدين الإسلامي لمصالحهم الخاصة, وهم الذين لم يروا يوماً في الفقراء والمحرومين من الشعب الذي اغتنوا على حساب نهب قوتهم ومص دمهم, إلا سوقة وحشوية ودهماء, وإن كان لهم نصيب في نعيم الدنيا والآخرة, فهذا النصيب يأتي حتماً في المرتبة الثانية أو العاشرة بعد سادة القوم الذين بشروا بالجنة أيضاً كما بشر بها من سابقهم كما يقول شيخ الأزهر.
ملاك القول:
من هذه المواقف التي تعمل على استغلال الدين يأتي نقد الدين, وخاصة عندما يتحول هذا الدين إلى إيديولوجيا براغماتية بيد الطبقات والقوى الحاكمة المستغِلة لتبرير ظلم الناس , فنقد الدين ليس نقداً لما يريده الله عز وجل في مقاصده الخيرة وعبوديته ووحدانيته, لأن الله شكل ولم يزل يشكل في عدالته طموح كل الفقراء والمحرومين والمضطهدين , وإنما هو نقد لكل ما يساهم أو يدعو إلى استغلال الإنسان والنيل من حقوقه الطبيعية وكرامته باسم الدين من جهة, مثلما هو نقد للوعي الزائف في الدين لدى الناس, والذي تحت ضغطه يمارس الإنسان نفسه قهر نفسه, وتحقيق غربته.