مقارنة بين العقل المثقف والعقل الفقيه

يحيى محمد

نحن هنا بصدد تحديد هوية المثقف الديني من الناحية البنيوية. كما أننا بصدد دراسة واقع المثقف والفقيه رغم الالتباس الحاصل بينهما أحياناً. ولاجل ذلك فنحن بحاجة إلى منهج مناسب للبحث يتم فيه تبرير ما نكوّنه من مفهوم خاص عن العقل المثقف الديني وتمايزه عن نظيره الفقيه. فما هو هذا المنهج؟ وما هو مفهوم كل من العقلين المتأسسين عليه؟سننحو بداية إلى تحديد طبيعة المثقف الديني من الناحية المعرفية وتمييزه عن الفقيه من خلال إعتماد المنهج الكيفي الشائع إستخدامه في العلوم الإجتماعية، وهو الذي يقابل ما يطلق عليه منهج الإحصاء الكمي. ولكلٍّ خواصه ومزاياه. ورغم أهمية الإحصاء في تشكيل تصوراتنا عما يجري في الواقع الموضوعي؛ لكننا لو اقتصرنا عليه فسيتعذر علينا معرفة طبائع الأشياء وبلورة ماهياتها وأسبابها.كما لا ينفعنا تحديد مطلبنا عبر مبدأ:تُعرف الأشياء بأضدادها، وذلك لأن الضدية الحاصلة بين العقل الثقافي والعقل الفقهي هي ليست ضدية تامة ومطلقة، فالمثقف يمكن أن يكون في الوقت نفسه فقيهاً، وكذا العكس صحيح أيضاً. إن المنهج الكيفي بخلاف نظيره الكمي لا يعكس الكم الإجتماعي بتمامه عبر الإحصاء، ولا يهمه كافة الملابسات والعوارض، إنما يلتقط من الواقع صوراً يراها تشكل جوهراً أساساً للنمط أو المفهوم المراد تكوينه بعد دراسة حالات عديدة للواقع الإجتماعي ومقارنة بعضها بالبعض الآخر، أي أنه يتبع طريقاً من التحليل الإستقرائي القائم على القرائن والشواهد المتغايرة بدل الإعتماد على مجرد الإحصاء.

ويمكن تقسيم عمل المنهج الكيفي إلى دورين يشكلان حجر الزاوية من بناء وتكوين النمط أو المفهوم. فهو أولاً لا يقوم بتجريد وتصوير كل ما يتعلق بالحالة الإجتماعية التي لها علاقة بالمفهوم، وإنما يكتفي برصد وأخذ ما يراه عناصر أساسية في تكوين الحالة، ويدع كل ما يلابس الحالة من أمور أخرى عارضة. ثم أنه بعد عملية التجريد يُجري على الصورة المنتقاة نوعاً من التضخيم والتحليل العقلي؛ لإبراز ما تتضمنه هذه الصورة من عناصر لها الفاعلية والقدرة على تكوين الحالة. ولا شك أن هذين الدورين لا يقومان بمعزل عن الحدس العقلي الذي وظيفته انتزاع المفهوم وبلورته.

وبذا يكون هذا المنهج قد أعطى مفهوماً واضحاً ومبالغاً فيه كنمط يتصف بالنموذجية والمثالية وإن لم يكن الواقع حاملاً القدر نفسه من الوضوح وكمال الصورة؛ تبعاً للعوارض والملابسات.

وإذا أردنا توظيف هذا المنهج لدراسة كل من المثقف الديني والفقيه من زاوية معرفية صرفة؛ نرى أن من الواجب فهم كل منهما ككائن صوري يتصف بنوع من النمذجة والمثالية، فنعمل على تجريده من مختلف الملابسات المتداخلة معه في الواقع، أي أننا نصنع منه ماهية محددة بعد دراسة الحالات المختلفة والمقارنة بينها، فنستلهم من ذلك عناصر أساسية تتشكل عليها ظاهرة ما نطلق عليه الثقافة، وكذا الفقاهة. وهو مفهوم مجرد يتصف بنصاعة الصورة ووضوحها. أي أننا بعد تحديد العناصر الأساسية المنتقاة من الحالة الإجتماعية نعمل بفضل التحليل العقلي على تكوين مفهوم جاهز مجرد كنمط يعبر عما نطلق عليه العقل المثقف الديني والعقل الفقيه. فهذا النمط كاشف عن العناصر الجوهرية التي من شأنها تكوين الثقافة والفقاهة، سواء كان ذلك عن وعي من قبل الذين يؤسسونها أو عن غير وعي.

فمع أن الواقع يشهد حالات متفاوتة ومختلفة للمثقف – وكذا الفقيه – فتارة نرى ازدياداً في الحالة الثقافية، وأخرى نرى انخفاضاً فيها، وكذا فإن الثقافة قد تختلط بغيرها من الممارسات الذهنية والسلوكية الأخرى، فتتداخل معها المواقف السياسية تارة، وتتأطر بها الممارسات الإجتماعية تارة ثانية، كما قد تندفع ضمن صور آيديولوجية مختلفة؛ كإن تشكل إطاراً فوقياً لطبقة إجتماعية معينة أو غير ذلك من ملابسات الحالات الإجتماعية للثقافة.. لكن مع هذا فإن ما يقع تحت المراقبة العقلية والتجريد هو الثقافة كنمط صوري مجرد تبرز فيه الوظيفة الثقافية كممارسة معرفية تنشأ بفعل مرتكزات محددة يعمل العقل على استظهارها وتحليلها بوضوح ونصاعة بعيداً عن الملابسات التي يبديها الواقع الإجتماعي، طالما أن العقل لا يصور كل ما يبديه هذا الواقع من ملابسات وتداخلات، وإنما يكتفي بتسليط الضوء على العناصر الأساسية منه بعد الملاحظة والمقارنة بين الحالات التي تمر بها الثقافة على أرضه.

فمن حيث الأساس يلاحظ أن المفهوم المراد تأسيسه هو مفهوم مستمد من العلم والمعرفة لا غير. فالفقه والثقافة كلاهما من العلوم والمعارف، ومن ثم لا يمكن افراغ الفقيه ولا المثقف من جوهر العملية المعرفية، وإلا كان فاقداً للمعنى. مع هذا يلاحظ أن معارف الفقيه وعلومه وكذا النتائج التي ينتهي إليها هي في الغالب تختلف عن تلك التي لدى المثقف.الأمر الذي يساعدنا على تحديد هوية كل منهما واهمال ما يتداخل معها من ظواهر أخرى عارضة.

وتبعاً للمنهج الكيفي فإنه لا يمتنع أن يحصل تداخل بين الثقافة والفقه على أرض الواقع؛ فيلبس الفقيه عباءة المثقف، والمثقف عباءة الفقيه، وبالتالي نتحدث عن الفقيه المثقف والمثقف الفقيه. مع ذلك وبحسب المنهج ذاته فإن من الممكن إهمال هذا التداخل في تحديد الهوية والمفهوم لكل منهما، طالما أن الغرض هو تحديد الماهية وليس الواقع بكل ما يحمله من ملابسات وشوائب.

ويعتمد تحديد هوية كل من المثقف الديني والفقيه على تشخيص الوظيفة المعرفية لكل منهما، وأن هذه الوظيفة تتشكل بحسب ما لدى كل منهما من مرتكزات معرفية، وبالتالي فإن تحديد الهوية إنما هو نتاج تعيين هذه المرتكزات. وسنلاحظ أن هناك إختلافاً تاماً حول طبيعة هذه المرتكزات بينهما. فما يتحكم بالحالات الثقافية من مولدات معرفية هو غير ذلك الذي يتحكم بالحالات الفقهية، حيث لكل منهما مشغلاته الخاصة بالتوليد والإنتاج، وهو أمر يجعل لكل منهما بنية خاصة تختلف عن الأخرى، بل وتتقاطع معها على صعيد المفهوم، وإن أمكن التداخل بينهما على أرض الواقع أحياناً. وبالتالي فإن الصورة المفهومية المنتزعة لا تبدي بالضرورة جميع ما لدى الواقع من تفاصيل وشؤون بما في ذلك تقلّب بعض حالات الظاهرة أو تداخلها مع نظيرتها التي تخالفها في المفهوم.

ولعل المثال الذي نضربه الآن يوضح هذه الصورة المعطاة. فبإستطاعتنا – مثلاً – التحدث عن مفهوم محدد للانسان القروي وتمييزه عن نظيره المديني، فنرسم لكل منهما مواصفاته الخاصة التي تبدي الكثير من التضاد في الشخصية والخصال العامة. لكننا من جهة الواقع قد لا نجد القدر ذاته الذي صورناه من الأبعاد والتضاد بينهما، كما قد يبدو لنا أن بعض القرويين يحملون صفات تعود إلى الإنسان المديني أو العكس، كما قد يبدو أن هناك الكثير ممن يحمل صفات مزدوجة، سواء كانوا مدينيين أم قرويين. ومع هذا فإن ذلك لا يشكل عقبة في تأسيس المفهوم أو النمط الخاص لكل منهما. فنحن على قناعة بأن ملابسات الواقع وعدم تطابقه مع المفهوم المهذب لدى الذهن لا ينافي حقيقة الهوية التي يتضمنها هذا المفهوم.

فعلى سبيل المثال نعلم أن عالم الإجتماع الفرنسي دوركايم قد صاغ قانوناً في الإنتحار الأناني استخلصه من مقارنات لجملة من الظواهر الإجتماعية المختلفة، كان من بينها ما اعتمده على المقارنة في الإنتحار بين ما يحصل في القرى وفي المدن، حيث أن زيادة الإنتحار في المدن هي أكثر مما في القرى، وبالتالي فقد استنتج من ذلك – ومن مظاهر أخرى تتعلق بزيادة الإنتحار – قانونه القائل: إن هناك تناسباً عكسياً بين الإنتحار والتماسك الإجتماعي[1].ولو قمنا بمقارنة بين مدينة وقرية مشخصتين وتبيّن من خلالها أن الإنتحار لدى الأخيرة أكثر نسبة مما لدى المدينة، أي على عكس ما أفاده دوركايم، فإن ذلك لا يجعلنا نشكك في القانون الانف الذكر، ولا يجعلنا ننظر بالضرورة إلى القرية بمفهومها العام نظراً مخالفاً لما كنا تصورناه عنها من حملها لجملة من المزايا، إنما يمكن أن نتوقع وجود أسباب عارضة عملت على زيادة الإنتحار في تلك القرية الخاصة. ويظل المفهوم العام للقرية هو أنها ليست مصدراً قوياً للإنتحار طالما كانت علاقاتها الإجتماعية شديدة التماسك، خلافاً لما عليه الحال في المدينة عادة. ولعل من ضمن الأسباب العارضة التي تقرب المدينة من القرية ما تسببه سهولة الإتصال من علاقات جديدة تجعل بين المدينة والقرية أنواعاً من التأثير، الأمر الذي قد يحدث بعض التغيير في التركيبة العامة للروابط الإجتماعية لكل منهما.

وبهذا فإن المفهوم المنتزع من الواقع ليس معنياً بالعوارض المؤثرة على مجرى الأحداث. وقد كان الفلاسفة المسلمون يقولون عن السقمونيا بأنها تسهل الصفراء، وهم يعنون بأن من شأنها الإسهال وإن لم يحدث ذلك واقعاً لدخول بعض الأسباب العارضة المانعة، أو لإختلاف الظروف عن ظروف الإقتران المشاهد بين السقمونيا والإسهال. فكل ذلك لا يؤثر على حقيقة كون تلك النبتة من شأنها الإسهال بحسب الظروف العادية التي لوحظ فيها الإقتران.

مع هذا فقد تتحول البنية التركيبية للواقع من شكل إلى آخر مغاير، عندما تنقلب الأمور وتتحول الأحداث والمظاهر إلى شكل مختلف عما كانت عليه تماماً، مما يدعو إلى تكوين نمط جديد من المفهوم المنتزع يختلف كلياً عما كان عليه الحال من قبل. وفي جميع الأحوال أجد من المبرر تماماً – بعد ما سلف من توضيح – أن نكوّن لكل من المثقف الديني والفقيه مفهومه الخاص المنتزع مما هو عليه في الواقع.

وحقيقة أننا ندرك بأن تكوين مفهوم خاص عن العقل الفقيه هو أمر سهل وليس بمعضلة؛ لعلمنا بمصادر معرفته وكيفية تشغيله وتوظيفه لها في التوليد والإنتاج المعرفي. فهي صورة تجد لها تأييداً كبيراً مما يحفل به التاريخ الطويل للفقه والفقهاء. كما أنها معلنة وممنهجة بشكل جلي بلا لبس ولا غموض. لكن الحال مع المثقف الديني فشيء مختلف رغم المنافسة المعرفية التي يقيمها مع الأول. فلكونه غير مختص في العلوم الدينية في الغالب؛ فذلك يجعله لا يمتلك المنهجة الواضحة أو المحددة مقارنة بنظيره الفقيه. وبالتالي ليس هناك تحديد مسبق أو معلن لمصادر معرفته وكيف يولّد المعرفة. كما لا يوجد إتفاق عام حول المسالك المعرفية بين المثقفين الدينيين كالذي نجده بين الفقهاء عادة.وبعبارة أخرى لا توجد روابط معرفية مشتركة تتأسس عليها التنمية العلمية بين المثقفين مثلما هو حاصل بين الفقهاء؛ حيث المشترك الذي يجمعهم معرفياً هو الإرتباط التام بمضامين الكتاب والسنة، ولولا هذا الأساس ما كان لهم أن يكونوا فقهاء. إذاً فالتيار الثقافي هو أقرب معرفياً إلى التيار الفردي منه إلى الجماعي. أو أنه أقرب إلى اللامنتمي منه إلى المنتمي. لكن علينا الأخذ بعين الإعتبار أن تاريخ ظهور المثقف كحالة بارزة ومؤثرة في الحياة العامة لا يمكن أن يقاس بالتاريخ الطويل للفقيه. فهو حديث النشأة وإن أخذ بالإتساع والإنتشار بفضل التطورات الحديثة المتسارعة.

هكذا فإن الصورة المنتزعة عن واقع المثقف ليست واضحة مثلما هي الحال عن الفقيه. لكن بالإرتكاز إلى المنهج الكيفي يمكننا رسم الصورة وإيضاح مصادر معرفته والمنهج الذي يتبعه والأصول التي يعتمدها في التوليد والإنتاج؛ حتى لو لم يكن ذلك عن وعي من المثقفين أنفسهم.لذا فنحن نعترف بأن تصورنا للعقل المثقف هو تصور غارق في التحليل العقلي مقارنة بالعقل الفقيه. فالصورة المنتزعة عن الأخير ينشأ غالبها مما يقدمه هذا العقل بنفسه، أي أنه ينشأ عبر دلالة الموضوع الخارجي مباشرة، طالما أن الفقيه يقرّ بمصادر معرفته وطريقة تلقيه لهذه المعرفة ومنهجه في الفهم والإنتاج، الأمر الذي يتضاءل فيه الدور العقلي لرسم الصورة التي تخصه مقارنة بالدور المقدم بصدد المثقف.فليست هناك صورة جاهزة يمكن إنتزاعها عن الموضوع الخارجي للعقل المثقف مباشرة، فلا توجد مصادر معلنة ومتفق عليها للمعرفة، ولا طريقة ممنهجة توضح كيفية التوليد والإنتاج المعرفي. وبالتالي ليس لدينا ما يساعدنا على كشف الصورة أو المفهوم المعطى للمثقف غير التحليل العقلي، وذلك بعد متابعة النظر والمقارنة بين الحالات الثقافية المختلفة. إذ تستمد شرعية رسم الصورة المعبرة عن البنية المعرفية للمثقف من الدور الأساس الذي يمارسه العقل في التحليل والاستجلاء بعد الإنتهاء من عملية رصد الفعاليات المعرفية التي يؤديها هذا العنصر الفاعل.

أما الفقيه – ومعه سائر إختصاصيي النزعة البيانية – فكما قلنا أنه ليس من الصعب تحديد هويته من الناحية الابستمولوجية. فهو يرتبط إرتباطاً لزومياً بالنص، ولولا هذا الأخير ما كان للفقيه من وجود ولا إعتبار، إذ إن نشأة الفقيه وتحديد هويته كلاهما مستمد من النص ذاته، والأمر واضح بإعتبارين: أولهما ما عليه الواقع، وهو أن جميع الفقهاء ملزمون من الناحية المعرفية بالإرتباط بالنص نهجاً. فالذي لا يرتبط بالنص لا يمكن أن يحظى بصفة الفقاهة. أما الآخر فهو أن هذا الإرتباط المعرفي معلن لدى الفقهاء صراحة، فالنص لديهم هو المصدر الأساس في البناء والتقويم، وبالتالي ليس هناك من مصدر آخر يضاهيه. لكن إذا كان من السهل علينا أن ننتزع بنية معرفية عامة للفقيه إعتماداً على الإرتباط المعرفي بالنص؛ فإن الحال مع المثقف شيء مختلف تماماً، فمن حيث الأساس أن بناءه المعرفي ليس ملزماً بالإرتباط بالنص كالذي عليه عمل الفقيه، كما أن هويته المعرفية غير معلن عنها صراحة. وبالتالي فلأجل تحديد بنيته المعرفية كان علينا أن ننظر في مضامين ما يقدمه من طروحات وإشكاليات وحلول ومن ثم نجتهد في اقتناص ما نعدّه بنية له. ورغم ما نجده لدى المثقفين من ابنية فكرية مختلفة تزخر بالتناقضات الحادة، ورغم أن فيهم حالات متفاوتة من حيث القرب والبعد عن التكوين المعرفي للفقيه، فمع هذا نجد ميلاً يكاد يكون عاماً لدى المثقفين، ومنه يمكننا إنتزاع البنية المعرفية للمثقف تبعاً للنهج الكيفي، والتي هي حصيلة ما لديه من مرتكزات معرفية وخصائص متولدة عنها. فما هي هذه المرتكزات؟

 

ماذا نعني بالمرتكزات المعرفية؟

نقصد بالمرتكزات المعرفية جملة المصادر والمناهج والأصول التي يُعتمد عليها في توليد وتوجيه الرؤى والمضامين المعرفية. إذاً هي ثلاثة كما يلي:

المصدر المعرفي: وهو المنبع الذي تصدر عنه المعرفة بالنشأة والتكوين والتأسيس، كالنص والعقل والواقع.

الآلية المعرفية: وهي الطريقة التي تتم فيها عملية تكوين المعرفة وتأسيسها بهيئة مفاهيم مستنبطة وقابلة للتوظيف؛ إعتماداً على المصدر المعرفي. أي أنها منهج استكشاف المعرفة وتوظيفها. فهي بالتالي إما أن تتوسط لتمارس دور الإنتاج والتوليد المعرفي، أو أنها تتوسط لتقوم بدور فهم الموضوع المراد تسليط الضوء عليه.

المولدات والموجهات المعرفية:وهي تلك الأصول التي تعوّل عليها الآلية المعرفية في الفهم والتوليد، أو الكشف والاستنباط، والتي يتم بواسطتها توليد المعرفة وإنتاجها. والفارق بين المولدات والموجهات هو أن المولدات تعمل على إنتاج المعرفة، في حين لا تقوم الموجهات بهذا الدور التوليدي، وإنما يتم بها الإسترشاد في تكوين المعرفة أو تفسيرها وفهمها باتجاه معين دون آخر، أو توظيفها لاغراض معينة. أي أنها تتخذ دور الادلاء على الطريق المناسب دون أن تمارس بنفسها عملية التوليد والإنتاج. لكن يظل أن كل توجيه لا يخلو من توليد، مثلما أن كل توليد لا يخلو من توجيه. كما قد يجتمع المولد والموجه في أصل معرفي موحد يمارس دورين من التوليد والتوجيه للقضايا.

ويلاحظ أن هذه المرتكزات بعضها يتوقف على البعض الآخر ويستكمل به. فلولا المصدر المعرفي ما كان للمولدات والموجهات أن تقوم بدورها من التوليد والفهم والإنتاج، ولا كان للالية المعرفية أن تتكفل بتحديد النهج الذي تتم فيه عملية التوليد والاستكشاف. وكذا لولا الآلية المعرفية ما كان للمصدر المعرفي أن يكون مصدراً يعتمد عليه في الفهم والتوليد، ولا كان للمولدات أن تقوم بدورها كمولدات لغيرها. كذلك فإنه لولا المولدات والموجهات ما كان للفهم والتوليد أن يتم، فلا آلية معرفية ولا مصدر للتوليد. وفي جميع الأحوال لا تخلو أي ممارسة معرفية من أن تشترك في صنعها وتركيبها تلك المرتكزات الثلاثة، سواء كانت هذه الممارسة تعبر عن استكشاف جديد للمعرفة، أو عن فهمها وتفسيرها، أي سواء كانت توليدية أو توجيهية (لاحظ الرسم البياني التالي):

 

 

 

 

المرتكزات المعرفية للمثقف والفقيه

سبق أن أشرنا إلى أن لكل من المثقف والفقيه مرتكزاته المعرفية الخاصة، رغم أنها لدى الفقيه حاضرة حضوراً شاخصاً بالوعي والإدراك، وهي ليست بذلك الوعي لدى الآخر لحداثته ولخلوه من التخصص في الغالب. لكن الوعي وعدمه، وكذا الشخوص وخلوه، لا يشكلان محوراً للتمايز في القابلية على الفهم والتوليد المعرفي. أو بعبارة أخرى، إن انعدام الوعي والشخوص لا يقفان عقبة في وجه الفهم والتوليد. فكما للوعي دوره المنظم في تحديد المسار الذي تتم فيه حالة الفهم والتوليد من خلال الربط بين المصدر والآلية والأصول الموجهة أو المولدة؛ فكذا الحال نفسه يمكن أن يتم عبر الممارسة اللاواعية التي يقوم بها العقل الباطن. فبوسع الأخير العمل على تحديد مسار العملية المعرفية بما يضمن حالة الاتزان كما لو كانت ممنطقة، وذلك بعد اكتساب الخبرات والمهارات المعرفية من المصادر التي ينفتح عليها عقل الباحث. فهو شبيه بصاحب اللغة الذي يتمرس في ضبط إستخدامها وإن لم يتعرف على آلياتها ومنطقها الجواني. مع هذا فالأمر لدى المفكرين – وهم رؤوس المثقفين – ليس بهذا الحد من الضعف وفقدان الوعي، إنما قصدنا بذلك الفئة العامة من المثقفين، مما يختلف حالهم عن فئة الفقهاء عمومهم وخصوصهم.وفي القبال نجد أن الفقهاء كثيراً ما يخرجون عن الحد الذي رسموه من النهج الخاص بالفهم والتوليد، سيما عند ضغط الحاجات الزمنية للواقع، كما سيتبين لنا ذلك فيما بعد.

هكذا نقصد بأن المنهجة المعرفية لدى الفقيه هي تامة وواضحة لا غبار عليها، خلافاً للمنهجة المعرفية للمثقف، حيث ما تزال غير واضحة، وهي مصابة بداء الآيديولوجيا والانتقاء والتلفيق، كما أنها لا تمثل إتجاها عاماً يركن إليها كل من توسم سمة المثقف الديني، بخلاف الحال مع الإتجاه العام للفقيه.

 

1ـ المصدر المعرفي

معلوم أن المصدر الأساس الذي يستمد منه الفقيه معارفه التخصصية هو النص، سواء كان كتاباً أو سنة، وسواء اعتمد على ذلك مباشرة أو غير مباشرة. ويمكن تمثيل العلاقة بين الفقيه والنص بعلاقة الجسد بالروح، فلولا الروح ما كان للجسد من حياة، وكذا لولا النص ما كان للفقيه من وجود. هكذا فالصورة المتخيلة عن الفقيه في الأذهان تتحدد بقدر ما له من علاقة بالنص. فهو المعني بفهم النص وهضم دلالته وإمتثالها، إلى حد يمكن قطع صلته بسائر المصادر المعرفية الأخرى التي قد يكون لها شيء من الأثر على فكره؛ لكن من دون إمكان قطع صلته بالنص، وبالتالي فالنص هو المعطى الرئيس والأساس للعقل الفقيه.فمصادر التشريع لدى الفقيه أول ما تبدأ عادة بالقرآن الكريم ثم السنة الشريفة وبعدهما الإجماع ككاشف عن النص أو مستدل عليه به، ثم قول الصحابي وسلوكه ككاشف آخر، وبعد ذلك تأتي سائر مبادئ الإجتهاد الأخرى التي حرص الفقهاء على أن يجعلوها مستمدة من النص مباشرة وغير مباشرة.

أما المفكر والمثقف الديني فأول ما يلاحظ أنه لم يتقيد بمصدر مرسوم ومعلن كما هو الحال لدى الفقيه.فهو لا يمتلك – في الغالب – منهجاً محدداً ولا تنظيراً يعتمده في تبيان مصادره المعرفية، وذلك لحداثة نشأته. فالمثقف الذي نتحدث عنه إنما بلحاظ ذلك الذي انتجته تطورات المجتمع الحديث وظروفه، وعلى نحو التخصيص والتضييق ذلك الذي يحمل جملة من المعارف الإسلامية، لكن من غير إخلال بالكليات العامة.

مع هذا لما كان المثقف وليد المجتمع الحديث بكل ما يحمله من ظروف وملابسات، وحيث أن هذا المجتمع متأثر بعمق تطورات الواقع وتغيراته؛ لذا فإن من الطبيعي أن تكون مرجعيته ومصدر تشكيل هوية عقله الثقافي تتمثل بالواقع. فليس هناك مصدر يستعين به عقل المثقف أبلغ من الواقع والخبرة العقلية المتصلة به، كما يتجلى في ميوله المعرفية إتجاه مختلف علوم الواقع، وعلى رأسها العلوم الإنسانية، كالنفسية والإجتماعية والتاريخية والسياسية والإقتصادية والفلسفية والجغرافية والطبيعية. وبالتالي فلا يمكن فصل المثقف عن الواقع مثلما لا يمكن فصل الفقيه عن النص، فكل منهما مدين بوجوده للمصدر الذي يستند إليه ويعتمد عليه.

فرغم أن المثقف ليس له في الغالب منهج محدد يتحرك ضمن إطاره، أو أنه لا يعي طبيعة المنهج الذي يسير على هداه؛ إلا أنه مع هذا ملزم بالإنشداد والإنفتاح على ‹‹الواقع››؛ يستجوبه ويستمد منه ما يثيره من قضايا، لا سيما تلك التي ترتبط بهمومه وطموحه وتطلعاته.وبالتالي فإن للواقع أهمية خاصة بالنسبة للمثقف، وذلك بإعتبارين: أحدهما من حيث كونه مصدراً معرفياً ينفتح عليه بالإطلاع ليشكل منه مادة معرفية يعمل على صياغتها بملكة التحليل. والآخر بما يتصف به من خاصية إفراز مختلف ضروب التأزم، مما يحتاج إلى عقل متفتح قادر على استيعابه وبلورة موقف معرفي إزائه؛ سعياً نحو تغييره إلى المستوى الذي يرتفع فيه ذلك التأزم. هكذا فإن الصورة الشاخصة عن المثقف الحديث، سواء كان ينزع نزعة إسلامية أو غيرها، هي صورة مفعمة بروح الواقع قبل أي إعتبار آخر. فليس فقط أن مصادره المعرفية تمتد جذورها من حيث الأساس إلى الواقع، بل كذلك أن عملية تصنيع الموقف المعرفي منها لا تجد غرضاً تستهدفه غير هذا الواقع. فمنه المبتدأ واليه المنتهى.

وعليه يتبين أن أساس القطيعة بين المثقف أو المفكر والفقيه إنما يعود إلى الإختلاف الحاصل بينهما على صعيد المصدر المعرفي، فما يتولد عن النص هو غير ما يتولد عن الواقع، وإنّ مدّ الجسور بينهما يستدعي تأسيس أحدهما على الآخر، وهو ما يعمل عليه كل من المفكر الديني والفقيه، ولكن بطريقة مغايرة. فبينما يقوم الأخير بتأسيس فهم الواقع على النص؛ يخالفه الأول بالعمل على العكس، رغم أنهما يتفقان على أن النص والواقع كلاهما يمثلان كتابين لله تعالى؛ تدويني وتكويني.

 

تساؤلات وشبهات

مع هذا يلوح في الأفق عدد من التساؤلات والاشكالات التي تتعلق بالمصدر المعرفي، بعضها يخص المثقف أو المفكر، والبعض الآخر يخص الفقيه، وذلك بحسب النقاط التالية:

 

أـ مرجعية الواقع للعقل المثقف

إذ قد يقال ما هو الدليل على أن الواقع ولو بتداخله مع العقل هو المصدر الأساس للمعرفة عند المثقف؟

لأجل الإجابة على السؤال المطروح لا بد أولاً من تشخيص أنواع المصادر المعرفية على نحو الحصر والتحديد. ولأدنى تأمل نعلم أنها تمثل كلاً من النص والعقل والواقع والالهام وما شاكله من صور الكشف. وواضح أنه لا يوجد مصدر آخر غير هذه المصادر الأربعة التي ذكرناها. وبيّن أنه لا يمكن إعتبار الإلهام هو المصدر الأساس الذي يستقي منه عقل المثقف دائرته المعرفية. إذ على الأقل أن موارد الإلهام قليلة لا تفي بما تتسع به هذه الدائرة. كذلك أن هذه الموارد إنما تفسر المعارف التي تنقطع صلتها عن المسببات الأخرى من المصادر الثلاثة المتبقية، فإذا امكن تفسيرها ببعض هذه المصادر، ولو بإضافة شيء من عامل الحدس الوجداني، فإن ذلك يكفي دون حاجة لإفتراض الأثر الإلهامي المستقل.

وكذا الحال لا يمكن إعتبار العقل هو مصدر تحديد تلك الدائرة من المعارف، وذلك لأن موارد العقل التي تتجرد عن الواقع كلياً هي موارد محدودة لا تصلح أن تفسر شبكة ما عليه تلك الدائرة من سعة.

كما أنه لا يمكن عد النص هو مصدر الاسناد الرئيسي الذي يتكئ عليه المثقف في تكوين حوزته المعرفية.فعلى الأقل أن أغلب المثقفين الدينيين هم ليسوا من أهل الإختصاص بالشؤون الإسلامية كالفقه والتفسير وما إليهما. فلا معنى – إذاً – للإفتراض المشار إليه. وعليه فإن إعتماد المثقف على النص يأتي – عادة – طبقاً للتبعية للمختص، كإن يكون مقلداً له، أو ناظراً في أدلته ليرجح بعضها على البعض الآخر تبعاً لمظنة الصواب. لكن هذا إنما يتاح له عادة في جملة من قضايا الأحكام التي غالباً ما تكون جزئية. اما القضايا الأخرى التي لها مساس بشؤون الحياة العامة كالقضايا السياسية والإجتماعية والإقتصادية، وكذا تلك التي لها علاقة بكشف الواقع وتفسيره، فعادة ما يكون تقويمها لدى المثقف ليس بحسب إتّباعه للفقيه ولا بحسب ممارسة اسلوب النظر في أدلته، وإنما بحسب ما يعتمد فيه على خبرته وإطلاعه؛ عندما يجد نفسه يتحرك في طريق أصوب من المسلك الذي يسير فيه الفقيه، سيما وأن الأخير غالباً ما يتصف بالانكماش والعزلة من دون إحتكاك بالواقع، أو على الأقل أنه لا يوليه حق الرعاية والإعتماد اتباعاً لنهجه المتشدد في النظر الدائم في النص وما يتطلبه من المعاودة المستمرة في التحقيق المنحصر بالسند والدلالة؛ بعيداً عن المنطق الآخر المستقى من الواقع وكتابه المفتوح.

مع هذا فهناك من المثقفين من يقف جامداً على التقليد، فلا هو يمارس النظر، ولا يسمح لنفسه العمل على صياغة أفكاره وبناء آرائه، رغم ما له من سعة وقدرة. لكنا نعد ذلك خلاف طبائع الامور، وهو يأتي في الغالب تبعاً للأثر النفسي المتولد من هيبة الفقهاء للظن بأنهم حملة النص، شبيه بما يحصل للمثقف أحياناً من ممالئة السلطان بسبب المخاوف أو المطامع. أما الأصل فهو أن ما يتصف به المثقف من إنفتاح على الواقع المتجدد؛ يجعل منه أداة طيعة لتجديد الفكر وإعادة النظر فيه باستمرار. وبالتالي فليس هناك عنصر يستحكم به المثقف غير الواقع المتجدد ذاته دون تقليد.

 

ب ـ نفي مرجعية الواقع للعقل الفقيه

إذ قد يقال إن هذا الذي وصفته بحق المثقف وتأثره بالواقع الحديث يمكن أن ينطبق ذاته على الفقيه بإعتباره بشراً لا يمكنه أن يكون بمعزل عن تأثير مجريات الحياة وظروفها، حتى أصبح معلوماً ما للبيئة من أثر على توجهات الفقيه وقراراته وأحكامه، ومن ذلك ما صرح به رشيد رضا قائلاً: ‹‹من الثابت من أخلاق البشر وطباعهم أن للبيئة التي يعيشون فيها تأثيراً في إجتهادهم وفهمهم، فالذين حرّموا على عباد الله تعالى ما لا يحصى من المنافع التي خلقها الله لهم وامتنّ بها عليهم في مثل قوله ((هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً)) كانوا عائشين في حضارة يتمتع أهلها بخيرات ملك الأكاسرة والقياصرة في مدائن كجنات النعيم كبغداد ومصر وغيرهما من الأمصار، فكان من تأثيرها في أنفسهم أن جعلوا ما يستقذره مترفو العرب في حضارتهم محرماً على البدو البائسين وعلى خلق الله أجمعين. ولولا تأثير هذه الحضارة لراعوا في إجتهادهم الأصول القطعية في يسر الشريعة وعمومها ولا يعقل أن يكلف الله جميع الأمم إلتزام ذوق منعمي العرب في طعامهم..››.

كما أن مطهري هو الآخر تحدث عن هذا الأثر فقال: ‹‹لو أن أحداً أجرى مقارنة بين فتاوى الفقهاء، وتعرف في الوقت نفسه على ظروف حياة كل فرد منهم وطريقة تفكيرهم في مسائل الحياة، لعرف كيف أن المنظورات الفكرية لكل فقيه ومعلوماته عن العالم الخارجي المحيط به تتأثر بها فتاواه، بحيث أن فتوى العربي تفوح منها رائحة العرب، ومن فتوى العجمي رائحة العجم، ومن فتوى القروي رائحة القرية، ومن فتوى المدني رائحة المدينة››

بل قد بات معلوماً ما للبيئة من أثر على الآراء والخلافات الفقهية لدى أئمة المذاهب الأربعة. ومن ذلك أن الشافعي غيّر الكثير من آرائه وفتاويه حين انتقل إلى مصر فأطلق عليها المذهب الجديد في قبال مذهبه القديم. وإنه بحكم الخبرة والممارسة العملية لأبي حنيفة بالسوق والتجارة اتخذت فتاواه طابعاً خاصاً، حيث كان يترك العمل بالقياس لصالح العرف والاستحسان، خاصة حينما يتعلق الأمر بموارد البيع والشراء..من هنا إذا كان الفقيه هو الآخر ليس معزولاً عن الحياة، وأن منظومته المعرفية وآلياته في التفكير ليس بوسعها أن تنقطع عن الواقع كمصدر؛ إذاً لماذا هذا الفصل والقطيعة بينه وبين المثقف أو المفكر، سيما وأن كلا الطرفين واقع تحت سلطة تأثير الواقع ولو بصورة غير واعية؟

أقول إنما جعلت الفقيه مستحكماً تحت سلطة النص لا الواقع؛ لا أعني من ذلك أنه لا يتأثر بهذا الأخير معرفياً، طالما أنه ليس من الممكن للبشر أن ينقطع عن هذا التأثير. لكني فصلته عن مرجعية الواقع لكونه اتبع نهجاً صارماً في المرجعية المعرفية التي استبعد فيها أن يكون للواقع أثر منتج فيما يؤول إليه نظره وإجتهاده. فهو يحمل نهجاً محدداً عن وعي ووضوح، وأن هذا النهج لا يكاد يفارق النص – في الغالب – كمصدر أساس يعتمد عليه في المعرفة. فتأثره بالواقع أو استسلامه إليه عائد إما بفعل التأثير اللاشعوري، أو نتيجة الاضطرار وضغط الحاجة الزمنية، وفي جميع الأحوال إن الفقيه غالباً ما لا يعد الواقع مصدراً يعول عليه في البناء المعرفي والتشريع. فالواقع من حيث عمومه وصراحته ليس له أثر بيّن ضمن مصادر التشريع. وإذا كان هذا لا ينفي وجود بعض القواعد التشريعية التي توحي بتضمنها للواقع ضمن منظومة الفقيه المعرفية كما سيمر علينا عما قريب؛ إلا أنه حتى في مثل هذه الحالة لم يتخذ منها مصدراً رئيساً ومستقلاً، وإنما ادرجها ضمن أُطر ثانوية مهمشة.

أما المثقف فأمره يختلف، فهو لم يتبع منهجاً محدداً في تعيين مصادره المعرفية عادة؛ لكن تحليلنا لهويته جعلتنا نعتبر أن منظومته المعرفية لا يمكن تفسيرها من غير ربطها بمرجعية الواقع والإعتبارات العقلية المناطة به. مع هذا فالمثقف الديني ليس منفكاً عن الإرتباط الصميمي بالنص، سواء في ممارساته الشخصية وإلتزاماته التعبدية، أو في مواقفه العامة. وهو في هذه الأخيرة لا يرتبط بالنص إرتباطاً ‹‹تكوينياً›› كالذي يحصل مع الفقيه، بل يمتلك صلة معرفية من نوع آخر هي أجل وأسمى.

***

أخيراً لا بد من لحاظ وجود عاملين قد جعلا الفقيه والمثقف مختلفين في مرجعيتهما، حيث ينتمي الأول إلى مرجعية النص، في حين ينتمي الآخر إلى مرجعية العقل والواقع، وذلك كالتالي:

الأول: إن الفقيه ملتزم بالحد الأعلى للنص، وهو يصرح بذلك من دون أن يضيف إليه مصدراً آخر ينافسه بالمرجعية. فالواقع يكاد يكون غائباً لديه، وأن العقل المستقل إما معطل أو غير معترف به استناداً إلى مرجعية النص ذاته. وبالتالي فإن مرجعية النص لدى الفقيه هي مرجعية تكوينية وتقويمية. فهي تكوينية من حيث أن ذهن الفقيه مكوّن منها، وهي تقويمية من حيث أن سائر المصادر الأخرى ليس لها محل في الإعتبار ما لم يتم عرضها على تلك المرجعية وإحراز الموافقة عليها. وهو أمر يختلف حاله عما لدى المثقف، لكونه لا يجعل من النص حقلاً تكوينياً لذهنه، وإنما يتخذ منه أداة توجيه. وفي قبال ذلك أنه لا يجد ملاذاً رئيساً يلجأ إليه في التكوين المعرفي غير الواقع.

الثاني: إن حركة المثقف في الواقع هي – غالباً – أقوى وأعمق من حركة الفقيه. فالأخير لا يتحرك عادة إلا لهدف الإسقاط والتطبيق. فهو يرى نفسه يحمل فكراً ثابتاً وجاهزاً يضفي عليه سمة القداسة بإعتباره مستمداً من النص. وبالتالي فهو يحمل مفهوماً كلياً أو ماهوياً يريد إسقاطه على أرض الواقع، دون أن يكون غرضه استنطاق الواقع واستكشاف معالمه. لذا فمن الناحية المبدئية أن الفقيه لا يجعل للواقع حساباً للتأثير الفاعل، وأنه لا يعي ما يحصل من مناهضة الواقع للمفاهيم الكلية الماهوية عند التطبيق. وهذا ما سبق أن أكده إبن خلدون، كما أشرنا إليه من قبل، وهو أن العلماء قد اعتادوا على تجريد المعاني بشكل أمور كلية لتطبيقها على الوقائع الخارجية، رغم أن ما يجردونه لا يطابق الواقع، الأمر الذي تكثر فيه أغلاطهم. وعلى العكس من ذلك ما نجده عند المثقف، حيث يضع جانباً مهماً من حركته لأجل التعلم من الواقع واستكشاف أحواله وتأمل تغيراته وما تفرضه من انعكاس يؤثر على تصورات المثقف ونواحيه المنهجية.

 

ج ـ مبادئ الإجتهاد ومرجعية الواقع

إذ قد يقال إن هناك عدداً من القواعد والمبادئ التشريعية اعتمدها الفقهاء وهي تتضمن الإعتراف بما للواقع من مرجعية في تحديد الأحكام والقرارات، كمبدأ المصلحة وقاعدة أن للزمان والمكان تأثيراً على تغير الأحكام وغيرهما. وبالتالي كيف يجوز تحديد مرجعية الفقيه بالنص وحده مع إغفال أمر الواقع؟

والجواب هو أن التعويل على تلك القواعد والمبادئ قد جرى بشكل مهمش وثانوي. فمصدر الفقيه الرئيسي هو الإعتماد على النواحي اللغوية للنص وما يرتبط بها من قياسات فقهية، أما الأبعاد الواقعية للحاجات الإنسانية فلم يستثمر الكشف عنها، إلى الدرجة التي يمكن القول فيها بأن تغييب الواقع هو الحالة البارزة في التفكير الفقهي من دون أن تنفع معه مقولات التعويل على تلك القواعد طالما أن الخضوع لها لم يتم في الغالب إلا على نحو ثانوي أو طبقاً للحاجة الزمنية والاضطرار.

وعلى العموم نلاحظ أن العلوم الإسلامية – قاطبة – تفتقر إلى الإلتفات والتفكير في الواقع؛ إذا ما استثنينا دوائر ضيقة كتلك المتعلقة بضغط الحاجة. فإشكاليتا العقل والنص هما الإشكاليتان الشاغلتان والمهيمنتان على أجواء الفكر الإسلامي. ففي علم الكلام كانت الحظوة لإشكالية العقل، إذ بدأ هذا العلم تشييد قنواته وقواعده المعرفية انطلاقاً من العقل وابعاده التجريدية المتعالية. أما في الفقه فقد ابتلي بإشكالية النص بكل ما يحمله من حدود اللفظ وإعتباراته وما دار حوله من مقاربات؛ كالقياس وما على شاكلته. ومع أنه لا ينكر ما اعتمده الفقه على الواقع لدى الكثير من أحكامه ومبانيه؛ إلا أن ذلك لم يشكل شاغلاً للتفكير ضمن إشكالية النص والواقع على النحو الذي يشابه ما جرى في علم الكلام من إشكالية النص والعقل، وإنما جاء بنحو من التلقائية والإتفاق تبعاً لما فرضته ظروف الواقع وحاجاته وضغوطه. وظل المسار العام للفقهاء يعبّر عن رفضه للاذعان لإعتبارات أخرى تنافس النص في أحكامه القبلية. فالأصل هو حكم النص وإسقاطه على الواقع مهما كانت حقيقة هذا الأخير.

من جانب آخر يمكن إرجاع القواعد والمبادئ المشار إليها إلى مقولة المصلحة، والفقهاء رغم إعترافهم بهذه المقولة إلا أنهم لم يحددوها تبعاً للنظر في الواقع غالباً، بل حصروها فيما يستكشف من النص والقياس، فكانوا بهذا الإلتفاف أقرب إلى نفيها، أو بالأحرى نفي تأثير الواقع في العملية الإجتهادية. الأمر الذي جعل التفكير الفقهي عاجزاً عن حل مشاكل المجتمع وتسديد حاجاته ومتطلباته. وكان إبن القيم من القلائل الذين وعوا عمق التأثير السلبي لمثل هذا الضيق من التفكير الذي قطع عن نفسه الافادة من الواقع كحبل متمم لحبل الشريعة. إذ اعتبر هذا الفقيه بأن هناك تقصيرين صدرا عن الفقهاء، أحدهما يتعلق بمعرفة الشريعة، والآخر بمعرفة الواقع، ومن ثم تنزيل أحدهما على الآخر.وحديثاً إلتفت رشيد رضا إلى آثار هذه الغلطة التاريخية في عدم تعويل الفقهاء على المصلحة المستمدة من النظر في الواقع؛ بجعل مسائل المعاملات التي تعود إلى الحكام- كالمعاملات القضائية والسياسية والحربية – ترجع إلى القاعدة النبوية (لا ضرر ولا ضرار)، لكنه اعتذر لما حدث لأغلب علماء الأمة من عدم اقرار هذا الأصل وتعويلهم عليه صراحة مع إعتقادهم به، وذلك – كما قال القرافي – بسبب خوفهم ‹‹من إتخاذ أئمة الجور إياه حجة لإتّباع أهوائهم وإرضاء إستبدادهم في أموال الناس ودمائهم، فرأوا أن يتقوا ذلك بإرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ولو بضرب من الأقيسة الخفية، فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسالك العلة في القياس ولم ينوطوها بإجتهاد الأمراء والحكام››.

 

د ـ مرتبة النص في العقل المثقف

بداية نتساءل: ما هو الأثر الذي يشكله النص عند المثقف الديني؟ وبعبارة أخرى: ما هي المرتبة التي يحتلها النص في عقل المثقف كمصدر معرفي؟ وما قيمة ذلك مقارنة بالفقيه، وكذا علاقته بالواقع؟

لا شك أن المنزلة التي يحتلها النص في عقل المثقف هي ليست كتلك التي في عقل الفقيه. فالاول يتعامل مع النص بوصفه موجهاً أكثر منه مكوناً، وعلى خلافه الفقيه الذي يتعامل معه بوصفه مكوناً أكثر منه موجهاً. فالنص لدى العقل المثقف له صفة توجيه الفكر، خلافاً للعقل الفقيه الحامل لصفة تكوين الفكر. ولا شك أن الخلاف بين الحالين ينعكس على الموقف من الواقع. فالذي يعزو إلى النص صفة التكوين لا يجعل للواقع مكاناً. والذي يمنحه صفة التوجيه يكون بحاجة إلى كتلة معرفية تكوينية تمارس عليها هذه السمة، وهو لا يجدها غنية إلا في الواقع.

وهنا لا بد من لحاظ الأمر النسبي بين التوجيه والتكوين، فالتوجيه لا يخلو من تكوين مهما بدا ضعيفاً، وكذا فإن التكوين لا يخلو بدوره من توجيه وإن قلّ ذلك. والفارق بينهما هو كالفارق بين الجسم والضوء. فالجسم كمادة تكوينية لا يخلو من موجة وإن تعسر إدراكها، كما أن الضوء كشكل موجي لا يخلو بدوره من جسيمات تكوينية وإن استحالت رؤيتها.

مع هذا يرد السؤال عن طبيعة إعتبار النص ذا صفة توجيهية بالنسبة إلى عقل المثقف؟ أو كيف يمكن للنص أن يكون موجهاً للعقل المثقف من غير حمل تكويني؟

والجواب هو أن المثقف أو المفكر يتعامل مع النص تعاملاً قائماً على محورين أحدهما يكمل الآخر:

الأول: ويتمثل بالإرتباط الإجمالي بالنص. إذ يميل المفكر إلى إعتبار النص مفهوماً وواضحاً من حيث الإجمال، وهو بالتالي لا يشكل مادة تكوينية مفصلة، خلافاً للفقيه الذي يجعل منه حقلاً مفصلاً قابلاً للتنقيب والتدقيق.

الثاني: ويتعلق بالإرتكاز على مبادئ النص ومقاصده الأساسية. وهو ما يجعل النص عند المفكر يحمل صفة التوجيه، والتي بدونها لا يأمن الإنسان من التيه والضلال.

وهذان المحوران يكمل أحدهما الآخر. فلا عبرة بالمقاصد وسائر الموجهات العامة إن لم يعول فيها على النص بوصفه مجملاً يخلو من المضامين المفصلة التكوينية. كما أن الإرتباط بالمجمل لا يكفي ما لم يكن هناك تفصيل يعتمد فيه على تلك المقاصد. إذاً فحاجة المفكر إلى مرجعية الواقع هي بإعتبار الأخير مادة تكوينية تعمل على تفصيل المجمل وتستهدي بهدي المقاصد وسائر الموجهات. فالعلاقة – هنا – بين النص والواقع هي علاقة مجمل بمفصل، فالنص أشبه شيء بعصارة ما لدى الواقع من تفصيل. مع الأخذ بنظر الإعتبار أن في المجمل كلا المرتبتين من البيان والتشابه، وأن الأخير هو موضع الاختبار والتحقيق مع الواقع. لذا فالمفكر لا يرضى بالتدقيقات والتنطعات التي ألِفها الفقهاء والمفسرون وغيرهم من أهل الإختصاص في الشؤون الدينية، بل ويميل إلى إعتبار ذلك ليس من شأن الدين ومخالفاً لمقاصده. وبالتالي فهو لا يجد أجدر من الواقع مصدراً للتدقيق والتفصيل، لسعة قضاياه وغناه وكونه ذا قابلية أعظم على التحقيق.

هكذا فإن النص من الناحية التكوينية لا يضاهي الواقع في المرجعية المعرفية. فما يستند إليه المفكر تكويناً هو معطيات الواقع وحقائقه التفصيلية. أما ما يستند إليه توجيهاً فهو النص بمقاصده وبياناته المجملة. وبالتالي فإن إدراك معنى النص لدى المفكر هو ليس كإدراك معنى الواقع، وأن العلاقة التي تشده إليهما هي ليست كتلك التي لدى الفقيه. فهما يختلفان في صياغة الموقف منهما توجيهاً وتكويناً. وبالتالي فعند التعارض بين ظاهر النص والواقع نجد أن استجابتهما مختلفة عادة. إذ ينزع المفكر إلى ترجيح الواقع تبعاً لعدم تنزيله النص منزلة التكوين الفكري، خلافاً للفقيه الذي يميل إلى ترجيح النص لتنزيله مثل هذه المنزلة.

***

أخيراً لا بد من لحاظ أن هناك تبادلاً في الأدوار التي يسلكها كل من المفكر والفقيه وإن بدرجة أقل كثيراً من الممارسة الأساسية التي يؤديها كل منهما في مجاله. فالفقيه ليس منقطعاً بالتمام عن الواقع كمصدر معرفي، كذلك فإن المفكر في القبال هو الآخر يعتمد على النص بدرجة ما من درجات التكوين، لكنه يظل أضعف كثيراً عما يعتمده الفقيه. لهذا فما نعده افادة مجملة للفقيه من حيث إعتماده على الواقع هو نفسه يمثل افادة مفصلة للمثقف في هذا المجال. وكذا فإن ما نعده افادة مفصلة للأول من حيث إرتكازه على النص هو نفسه عبارة عن افادة مجملة للثاني ضمن الإطار نفسه. لكن تظل الميزة الاضافية لدى المفكر والتي لا نجدها وافرة عند الفقيه إنما تتحدد بالتوجيه، إذ يشكل النص لدى العقل المفكر مصدراً للتوجيه بخلاف الفقيه.

مع ما يلاحظ بأن خاصية التوجيه لدى المفكر تتخذ طابعاً مزدوجاً في العلاقة بين النص والواقع.فالمفكر من جانب يحمّل الواقع صفة التوجيه لمكونات النص الجزئية، كما هو الحال مع عمليات التوفيق التي يمارسها بين العلوم الطبيعية ومضامين النص الجزئية. لكنه من جانب آخر يتخذ من الكليات العامة للنص موجهات للعلاقة المعرفية التي تربطه بالواقع.

يبقى أن ما جعلنا نميز بين مرجعيتي المفكر والفقيه على الصعيد المعرفي؛ إنما هو بحسب غلبة الإعتماد والتأثير، سواء عوّلنا – في ذلك – على ما هو مصرح به، أو من حيث لحاظ واقع الفقهاء والمثقفين طبقاً للنهج الكيفي.

وعليه ليس هناك ممانعة في أن نجد للمثقف نزعة فقهية أحياناً، وأن نجد للفقيه نزعة ثقافية، فيكون المثقف فقيهاً والفقيه مثقفاً. لكن لا بد من أن تظهر على هذا الإزدواج سمات الغلبة لأحد الطرفين على حساب الآخر، وأن نقاط القطيعة لا تنمحي ما لم يتم الإتفاق على صيغة تقنينية تتضمن المصالحة في المصدر المعرفي وحل العلاقة التي تربط النص بالواقع. وهو شبيه بما شهده تاريخ الفكر الإسلامي من وجود قطيعة كبرى بين نظاميه المعرفيين: الوجودي والمعياري كالذي كشفنا عنه في كتاب (مدخل إلى فهم الإسلام).

 

2ـ الآلية المعرفية

تتحدد الآلية المعرفية أو المنهج لكل من الفقيه والمفكر بحسب ما عليه المصدر المعرفي. فلما كان هذا المصدر لدى الفقيه يتمثل بالنص؛ لذا كانت آليته الإجتهادية بيانية تتخذ من اللغة أداة للفهم والتوليد. وبعبارة أخرى، إن هذه الحصيلة المعرفية لا تتم عند الفقيه إلا من خلال النظر في النص عبر الآلية البيانية. وبالتالي فإن الإشكالية التي تقع في طريق هذه العملية لا تتجاوز في الغالب إشكالية البحث عن السند والدلالة. فهذا هو هيكل ما يطلق عليه الإجتهاد لدى الدائرة الفقهية. فهو لا يتعدى العملية الاستنباطية المتمحورة ضمن دائرة النص، وذلك على شكلين؛ فإما أن يكون الإجتهاد في النص ذاته، أو أنه يعتمد على النص ليباشر فعله فيما لا نص فيه، وقلما يخرج عن هذين الشكلين من النظر الفقهي. وهو ما تدل عليه تعاريف الإجتهاد التي يصرح بعضها بالشكل الأخير فقط، كما هو حال المرحلة التاريخية التي بدأت فيها ظاهرة التنظير للإجتهاد، ويصرح بعضها الآخر بالشكل الأول أو بكليهما معاً.

وحول العلاقة المعرفية بالنص يتخذ الشكل البياني لدى الفقهاء سلّماً من الأولويات. ففي الغالب يتدرج الفقيه عند أهل السنة – ضمن آليته البيانية – لينظر أول الأمر في الكتاب، ثم بعده السنة، وبعد ذلك الإجماع، ثم رأي الصحابة. وكلا المرجعين الأخيرين يعدان لدى الفقيه كاشفين عما في النص، أو مستنبطين منه. وإذا لم يجد الفقيه ما يبحث عنه في تلك المصادر البيانية فإنه يلجأ إلى مبادئ أخرى من آليات الإجتهاد وعلى رأسها وأهمها القياس. فمثلاً يُنقل عن الإمام أبي حنيفة قوله: ‹‹إني آخذ بكتاب الله أولاً ، فإن لم أجد فيه الحكم فبسنة رسول الله (ص)، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله رجعت إلى ما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا أخذت من أقوالهم ما كان قريباً من القرآن والسنة، فإن لم أجد للصحابة رأياً لم آخذ بقول أحد من التابعين بل أجتهد كما أجتهدوا››.وأن مالكاً هو الآخر يعتمد أول الأمر على ما هو موجود في الكتاب ثم السنة فقول الصحابي فالإجماع فعمل أهل المدينة، وبعد ذلك إن لم يجد في هذه المحاور البيانية ما يأخذه فإنه يعول على الآليات الإجتهادية المتمثلة بالقياس ثم الاستحسان فالاستصحاب فالمصلحة المرسلة وسد الذرائع والعرف والعادة. وأن الشافعي هو أيضاً يبتدئ بالقرآن ثم السنة فالإجماع، وبعد ذلك تأتي مرحلة الإجتهاد المتمثلة عنده بالقياس فحسب..ما إبن حنبل فيعتمد بالدرجة الرئيسية على السنة، وذلك أنه يشترط أن يكون بيان القرآن من السنة، بل ويعد تفسير الأول من غير الثاني محض الضلال، وهو القائل ‹‹لا تفسير إلا من أثر››. أما آليته الإجتهادية فيما لا نص فيه فهي القياس للضرورة. وعلى رأي إبن القيم فإن أصوله خمسة هي: النص وفتوى الصحابة والاختيار من أقوال الصحابة إذا اختلفوا والحديث المرسل والقياس للضرورة.

وقريب مما سبق ما تقرر لدى غالبية الإتجاه الإمامي الاثنى عشري كما حدده الأصوليون، فمصادر التشريع البياني لديهم أربعة هي: الكتاب والسنة والإجماع والعقل. لكن الحضور الرئيس في الآلية البيانية الإمامية ينحصر في الكتاب والسنة، حتى شاع القول بأن ما موجود من بيان أو نصوص يكفي لسد وتغطية جميع ما يستحدث من واقع وقضايا، حتى بغير حاجة إلى الأحكام العقلية. وسبق أن أشار الشيخ أبو جعفر الطوسي (المتوفى سنة 460هـ) إلى ما موجود من وفرة خبرية كافية لتغطية مسائل الأحكام كافة. وحديثاً رأى السيد الصدر أن البيان كاف في الشمول لتناول مختلف قضايا الأحكام حتى مع عدم الأخذ بالدليل العقلي النظري الذي يستند إليه الأصوليون ويخالفهم عليه الإخباريون.

والغالب في الآلية البيانية، سواء لدى السنة أو الشيعة، هو أنها مسخرة في إطار نصوص الرواية والحديث، سواء كانت نبوية كما لدى أهل السنة، أو امامية كما هو الغالب لدى الشيعة. وفي جميع الأحوال تظل تلك الآلية لغوية تبدأ بالنص وتنتهي إليه. فالفقيه لا يتجاوز هذا المعنى من العملية المعرفية عادة، بل ويشدد على عدم السماح بالتقصير في ذلك النمط من العلم الإجتهادي. وبالتالي فإنه لا يقر الإجتهاد السائب المنفصل عن فحص النص والبحث فيه، كما لا يقر أي تحقيق ما لم يتم بذل أقصى الجهود من البحث والتفتيش، وكذا الخضوع إلى الضوابط التي يراعى فيها فهم النص وإعتباراته اللغوية وما يترتب على ذلك من آليات عديدة؛ كالجمع بين المتعارضات ومعرفة السند وأحوال الرجال وقضايا كثيرة أخرى مبثوثة في علم أصول الفقه عادة.

فالغرض من هذه الضوابط هو كي لا يصبح الإجتهاد خارج حدود منظومة النص، فلا تبنى المعرفة من مصدر آخر مستقل عنه كلياً، كما لا يكون هناك إجتهاد في قباله أو معه. كذلك حتى لا يكون هناك تعطيل للنص أو تلفيق أو تحريف لمعناه. فالنص في الآلية الإجتهادية هو المحور الأساس والرئيس الذي تدور فيه وحوله كل الجهود الفقهية التي يراد منها الفهم والتوليد المعرفيين.

لهذا قلما يحتكم الفقيه إلى عقل أو واقع. كذلك قلما يحتكم إلى مقاصد عامة من التشريع؛ طالما يجد أمامه معيناً خصباً من جزئيات النص التي تفي بآليته الإجتهادية كآلية محض بيانية تقريباً. وبالتالي فهي بيانية ماهوية.

فالعقل لديه منبع الأهواء. وهو أيضاً عاجز عن أن يدرك المصالح الحقيقية مثلما يحددها النص. وبحسب ما يتصوره الكثير من أن الإعتماد عليه في التشريع يفضي إلى نسخ الشريعة أو تعطيلها، وأنه في حد ذاته يثير الإختلاف لإرتفاع الضوابط، وأن العقلاء قد يتوهمون ما هو أقرب إلى واقع الشرع على أنه أبعد، وما هو أبعد عن هذا الواقع على أنه أقرب، وبالتالي فليس هناك من مناص إلا الإحتماء بنفس الشارع من حيث أنه محيط بكل الجهات وعالم بكثير مما لم تصل إليه العقول. حيث تكون الأحكام تابعة للمصالح الخفية والشرع كاشف عنها..لذا يعول الفقيه على بيانية الشريعة وكفايتها للأحكام في سد جميع شؤون الحياة، فما من حادثة إلا ولها حكمها بالنص، أو بدليل مستظل من نص كما يرى الشافعي. وبغير ذلك لا يبقى للحكم مصدر يعول عليه غير الأهواء والميول الذاتية، حيث لا ضابط للعقل الذي قد يغلب عليه الهوى كما يخفى عليه وجوه الضرر والفساد. وبالتالي فهو عاجز عن إدراك مصالح الدنيا من غير شرع، وكما يقول الشاطبي: إنه ‹‹لو ترك الناس والنظر لانتشر ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي. والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل. فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة وأسباباً معلومة لا تتعدى، كالثمانين في القذف، والمائة وتغريب العام في الزنا على غير إحصان.. الخ››.

كما أن الواقع عند الفقيه محكوم وغير حاكم. فالطريقة العامة للفقهاء لا تتعدى السير الاستعلائي باستلهام المعنى من النص ـ مباشرة وغير مباشرة ـ ومن ثم إسقاطه على الواقع؛ من غير نظر إلى ما قد يبديه الأخير من آثار وردود، رغم أن الخطاب الديني – سواء في القرآن أو السنة – كان يراعي شروط الواقع كعنصر مساهم في آلية التأثير على الصياغة المحددة لحكم النص. الأمر الذي تفسره ظاهرة النسخ وتغيير الأحكام. فهو سلوك كاشف عن تلك المساهمة والمراعاة، وكطريق يراد منها إلهام الفكر البشري سبيل الاسترشاد دون التوقف عند حد الإطلاق المطبق. مع هذا فالجدل الذي شهده عصر الخطاب بين الحكم والواقع لم يحتفظ بمركزه في العصور التي تلت هذا العصر الذهبي، حيث ظهر التمنطق العلمي الذي يستمد عملية إسقاط الأطباق الجاهزة بقطع الصلة مع الواقع وتجدداته، وظل النظر عالقاً إلى فوق، أي إلى ذات الخطاب الموجّه وتحويله؛ مما هو خطاب استرشاد وهداية وتوجيه إلى خطاب مطبق مغلق لا علاقة له بالواقع.

أما المقاصد فدورها لدى الفقيه لا يتعدى حدود التبرير والتقرير دون التفعيل والتوليد. فالذين بحثوا في المقاصد هم فقهاء الأشاعرة الذين لا يعولون على العقل في كشف المصالح والمفاسد.فهم يعدون المصالح الحقيقية هي تلك التي تقرها الشريعة لا العقل، وبالتالي كيف يمكن للمقاصد أن تقوم بدورها في كشف الأحكام الجديدة بعيداً عن اللفظ المنصوص؟! إن لم نقل أن هذه الطريقة تبعث على التناقض. فعلماء المقاصد يعتبرون تلك المصالح تعبدية لا تختلف عن سائر التعبديات الأخرى طبقاً لنظرية الحسن والقبح الأشعرية.لكنهم من جهة ثانية ميزوا بين الأحكام التعبدية التي لا يُدرك معناها وبين الأحكام المصلحية المدركة بالعقل، وسلموا لهذا الأخير صلاحية تقدير التفاوت بين المصالح وإختلاف رتبها وأنواعها وما يرجع إليها من أحكام على ما بينّا ذلك في محل آخر.وبالتالي فإذا كان العقل قادراً على إدراك التفاوت في المصالح وأنواعها فكيف لا يكون قادراً على إدراك ما هو مصلحة حقيقية وتمييزها عن غيرها؟!

ومع أنه قد يقال بأن الشاطبي سبق وأن حدد في (الموافقات) موارد الإجتهاد وذكر منها تلك التي تكون إجتهاداً فيما يخرج عن حدود اللغة، وبالتالي عن حدود النص، كتلك التي تتعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد، أو التي لها علاقة بفحص الموضوعات الخارجية مما يسمى (تحقيق المناط)[23].فكيف يصح – إذاً – حصر وظيفة الفقيه بالمهمة البيانية ومن ثم الماهوية دون غيرها؟!

والجواب هو أن الإجتهاد في تحقيق المناط أو فحص الموضوع لا يعني شيئاً لدى الفقيه ما لم يتحقق الغرض من الممارسة الإجتهادية التي تتممها عملية البحث في الحكم؛ عبر الآليات البيانية اللغوية عادة. أما الإجتهاد في المعاني من المصالح والمفاسد فهي من الناحية الفعلية غير مستقلة – غالباً – عن الإجتهاد المسبق في النص ودوائره الجزئية لدى الفقيه. ويكفي شاهد على ذلك ما ذكره القرافي من سلوك الفقهاء في إرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ولو بضرب من الأقيسة الخفية تجنباً من تجرؤ السلاطين والامراء على إتخاذ تلك المعاني ذريعة لتبرير أهوائهم وإستبدادهم.

أما مع المفكر الديني فلما كانت مرجعيته المعرفية محددة بالواقع وما يرتبط به من مبادئ وتحليلات عقلية، وحيث أنه مرتبط من الناحية الكلية بتوجيه النص؛ لذا فإن آليته الإجتهادية هي آلية عقلائية نقدية موجهة. فهو من حيث التفصيل يلجأ إلى الواقع فهماً وتحليلاً، وذلك لما يشكله الواقع لديه من مصدر تكويني. وهو في هذه العملية من اللجوء يستعين بالحاسة النقدية ولا يتوقف عندها كمرآة عاكسة. ويظهر لديه – من جانب آخر – نوع من التعالي النسبي على الواقع، فهو يعمل على تطويع الأخير تحت ما يستهدفه من أغراض وأهداف؛ تبعاً للموجهات الكلية المستلهمة من النص.

وهنا يلاحظ أن تعبيرنا عن آليته الإجتهادية بأنها عقلائية تعني أنه من هذه الناحية لا يختلف عن ابناء جلدته من مختلف اجناس البشر في الإعتماد على الرجوع إلى العقل والواقع في فهم الأمور وكسب الحقائق. ومن هذه الناحية ليس للمثقف مزية يختلف فيها عن بقية الناس سوى الوساعة. فالواقع لدى المثقف يشكل مصدر التكوين المعرفي، مثلما يشكل النص مصدر التكوين لدى الفقيه. وتظل مزية المثقف عن الآخرين محددة بالبعدين المتبقيين، أي العنصر النقدي التنظيري والعنصر التوجيهي. فمن حيث الأول ليست الممارسة النقدية مما يمكن تطويعها ومزاولتها لعموم الناس بحسب الدقة، بل تتصف بالدقة لدى أولئك المتمرسين في القضايا المعرفية؛ سواء من أهل الإختصاص، أو أهل الثقافة والتمييز والنظر، أي لدى كل الذين يمتازون بالوعي الفردي كوعي إجتهادي معرفي تنظيري.

أما من حيث العنصر الآخر (التوجيهي) فبالإضافة إلى أن عموم الناس ليسوا مؤهلين لمثل هذه المعرفة؛ كذلك فإن المثقف الديني يختلف عن كل الذين يمارسون النشاط المعرفي. فهو يختلف عن المثقفين العلمانيين بكونه يستند في موجهاته إلى كليات النص ومقاصده العامة. وهو أيضاً يمتاز عن الفقيه بكون النص لدى الأخير يشكل عنصر تكوين خلافاً للأول الذي يرى فيه عنصر توجيه كما اسلفنا.

إذاً تمتاز الآلية الثقافية بثلاث صفات يمكن تسليط الضوء عليها كالتالي:

 

أـ عقلائية العقل المثقف

إن الآلية الثقافية عقلائية. ونحن نستخدم هذه المفردة – هنا – بدل المفردة الدارجة في الأوساط الثقافية العلمانية، وهي (العقلانية)، لعدد من المبررات رغم تقارب المفهومين وإشتراكهما بكونهما يستندان إلى الإعتبارات العقلية والواقعية.

فمفهوم العقلانية هو مفهوم غربي تنويري برز كضد للمرجعيات الغيبية والدينية، وعلى رأسها النص وكل ما يستند إليه من تفسيرات تقليدية. فالمفكر العقلاني الغربي هو ذلك الذي ‹‹لا مكان في مخططه الفكري لقوى خارقة، ولا محل لعقله للاستسلام الغيبي لعقيدة ما، وإذا كانت معرفة ما يبغضه فكر معين أشد البغض تفيدنا في تحديد معالم هذا الفكر فإن أبغض شيء إلى العقلاني هو ذاك المزاج الفكري الذي تعبر عنه عبارة (أُومن به لأنه مستحيل)››[24].فقريب من هذا المعنى انتشر مفهوم العقلانية لدى الطبقات العلمانية من المثقفين العرب وغيرهم، وأحياناً أن اللفظ يتداوله المثقفون الإسلاميون للدلالة على ما يحملونه من إعتبارات عقلية ووجدانية. بل كثيراً ما أريد به كنزعة آيديولوجية ضد التيار الإسلامي عموماً، مثلما وظفه التنويريون في الغرب ضد أتباع الكنيسة.

فالمفردة – إذاً – هي مفردة تقويمية وآيديولوجية. وهي بالضبط كمفردة ‹‹التقدم›› التي استخدمت للتقويم والغرض الآيديولوجي من غير أن تحافظ على إستقلاليتها وحياديتها في وصف الحالة.وبالتالي فالعقلانية ليست نهجاً معرفياً بريئاً من سمات التقويم والادلجة التي تُشهر بوجه أولئك الموصوفين بأصحاب المناهج الخرافية والظلامية وغيرها من التعابير المخلّة التي يراد منها تحقير الوسائل المعرفية الأخرى ذات النهج المختلف.

في حين إن مفردة(العقلائية) ليست مفردة مدججة بسلاح الآيديولوجيا والتقويم. فهي لا تعني سوى ذلك التفكير المستند في الأساس إلى ضوابط الواقع والعقل بغض النظر عن نتائج هذا التفكير وما يؤول إليه من صواب أو خطأ. فليس الغرض منها التقويم وإنما وصف الحالة وتمييزها عن نظيرتها التي تعود إلى الفقيه. لذا فالممارسة العقلائية للمثقف ليست معنية في هذه المرحلة بالدقة والموضوعية من التوليد المعرفي. فقد تتفاوت الرؤية للواقع وتختلف من فرد لاخر، عمقاً وبساطة، شمولاً وتجزيئاً. لكن في جميع الأحوال أن العنصر الذي بوسعه أن يضفي على عقلائية التفكير والتوليد جوانب الدقة والضبط إنما هو عنصر النقد والتحليل، والذي يصبح الواقع من خلاله صورة غير مستنسخة في ذهن المثقف، أو أن عقل هذا الأخير لا يكون مجرد مرآة للواقع، بل هناك نقد وتحليل قائم على مبادئ التوجيه وأصول التوليد.

من جانب آخر يلاحظ أن لفظ (العقلائية) دارج استعماله في تراثنا المعرفي، ومن ذلك ما يستخدمه المتأخرون من فقهاء الإمامية؛ جاعلين من مفهومه مصدراً غير مستقل للمعرفة الشرعية، ويطلقون عليه (دليل البناء العقلائي) أو (السيرة العقلائية). ويقصدون به صدور العقلاء عن سلوك معين إتجاه واقعة ما صدوراً تلقائياً غير معلل. ويتساوى هذا الصدور والسلوك لدى مختلف فئات العقلاء من الناس رغم إختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وتفاوت ثقافتهم ومعرفتهم وكذا تعدد نحلهم وأديانهم. ومن الأمثلة عليه ما يسلكه العقلاء من الأخذ بظواهر الكلام، والرجوع إلى أهل الخبرة في المعرفة التي يجهلونها والمشاكل التي لا يمكنهم علاجها. وبنظر الفقهاء أن هذا الدليل ليس بحجة إلا عند الكشف عن مشاركة المعصوم للسلوك العقلائي أو اقراره له. ويتميز عن الدليل العقلي بأن حكم العقل هو وليد الإطلاع على المصلحة أو المفسدة الواقعية، في حين إن البناء العقلائي غير مشروط بذلك لكونه يصدر صدوراً تلقائياً غير معلل. كما يلاحظ أن البناء العقلائي هو دليل غير مستقل عن حيثية الكشف الشرعي، في حين إن الحكم العقلي هو حجة ذاتية ودليل مستقل عن تلك الحيثية.

مع هذا فما نقصده من مفهوم يختلف عن التحديد الفقهي بأمرين:

أولاً: إن المعرفة العقلائية بحسب الإستخدام الثقافي مستقلة لا تتوقف على شرعية أمر اخر.

وثانياً: إن العقلائية أعم -هنا – مما هو مضيّق في المفهوم التقليدي للفقيه. وبالتحديد فهي تشمل إعتبارات الأحكام العقلية، لا القطعية منها فقط، بل حتى الظنية العادية شرط أنها لا تحلّق بتلك التي تعود إلى التجريد المتعالي (الترانسدنتالي).

 

ب ـ نقدية العقل المثقف

إن الآلية الثقافية نقدية تنظيرية. إذ لما كان العقل المفكر مشبعاً بالروح المعرفية مما له علاقة بقضايا الواقع العامة؛ فإن ذلك يخلق لديه حسّاً من النقد والتنظير تبعاً للممارسة غير المنقطعة في مراجعة القضايا. وهو بهذا يختلف عن عقل الفرد العادي، لافتقاره للقدر الكافي من المعرفة التي تجعله يمارس النقد والتحليل الدقيقين. كما أنه يختلف عن العقل الفقيه الذي يغترب – عادة – عن الواقع وشؤونه إلا بالقدر الذي يجعل منه تربة لانبات ما لديه من أطباق معرفية جاهزة بلا فحص ولا تدقيق. وكذا يختلف أيضاً عن الآخرين من ذوي الإختصاص بالقضايا الجزئية الضيقة التي ليس بوسعها أن تخلق رأياً ذا وزن في قضايا الواقع العامة.

والعقل المفكر من حيث أنه نقدي فإنه يختلف في كشفه عن كل من العقل العلمي وعقل الإنسان العادي. فالعقل العلمي لا يعير أهمية كبرى للتحقق من المطابقة مع الواقع؛ سيما عندما يكون الأخير بعيد المنال. ومن ذلك أن العلماء لم يرفضوا نظرية نيوتن في الجاذبية عندما وجدوا التقادير الأولية التي وضعها بشأن حالات كسوف القمر غير صحيحة. كذلك أنهم لم يرفضوا هذه النظرية رغم فشلها في تفسير حركة عطارد وشذوذه، وأنه قد انقضت ( 85سنة) على قبول هذا الشذوذ ثم اعتبرت شاهداً مكذباً للنظرية، وقد تم تفسير هذا الشذوذ تبعاً للنظرية النسبية العامة لأينشتاين. وبالتالي أصبح من المعروف أنه يمكن للنظرية العلمية أن تبقى مورداً للقبول حتى لو ظهر دليل يكذبها، طالما لديها قوة تفسيرية كافية في نواحٍ أخرى

أما عقل الإنسان العادي فإنه محكوم بالإحساس المشترك العام في الكشف عن الواقع، لهذا فقد تتضارب الرؤية عند العقلين، مثلما هو معلوم حول الموقف من النظرية النسبية لأينشتاين، ومثلها نظرية الكوانتم، فبقدر ما هي مقبولة عند العلماء فانها ليست كذلك تبعاً لمنطق الإحساس المشترك العام. وبحكم هذا التضارب وأمثاله فقد أخذ العلم مدة من الزمن ينظر إلى الإحساس العام كعدو حقيقي يفوق العداوة المعهودة للدين. إلا أن هذه النظرة تراجعت وتغيرت اليوم، إذ لاحظ المهتمون بالشأن العلمي وجود نوع من الملائمة والتوافق بين الرؤيتين، وأصبح السؤال مطروحاً حول ما إذا كان الإحساس العام هو الذي تلائم مع العلم الجديد، أو العكس هو الصحيح؟

على أن للعقل المفكر طريقاً ثالثاً لا يمكن رده إلى العقلين المشار إليهما. فهو بنقديته وتنظيره يتميز عن عقل الإنسان العادي. كما أنه يتميز عن العقل العلمي، إذ يتحكم فيه مبدأ المطابقة بالكشف عن الواقع. كذلك فإن هذا العقل مشغول بالقضايا المعيارية للقيم والحقوق، وكلاهما ليسا محلاً للإعتبارات العلمية الحالية. فمن حيث المطابقة مع الواقع فالعلم – المتعلق بالنظريات ذات التعميم العالي – يستند غالباً إلى إشكالية مبدأ البساطة ويرجحها على الأولى. أما من حيث القضايا المعيارية فمن الواضح أن العلم لا يعيرها أهمية ضمن نطاق الرؤية التي يعمل على تأسيسها.

إذاً فالآلية الإجتهادية للمفكر مدينة في عملها إلى الواقع كمصدر معرفي. فالإطلاع المفتوح على الواقع والمقارنة بين مظاهره، والتدقيق في فحص قضاياه وتمحيصها، ومن ثم العمل على توظيف شواهده وتحليلها، أو القيام بالتمييز فيما بينها.. كل ذلك يساعد على خلق الحاسة النقدية التنظيرية، سيما وأن المفكر لا بد من أن يتعرض لمظاهر الجدل الناشئة بين مبادئ العقل من جهة، وبين الواقع من جهة ثانية، أو بينهما من جانب وبين النص من جانب اخر. الأمر الذي يبعد فيه أن يكون العقل المفكر عقلاً ناسخاً للأمر الواقعي. فسواء من حيث مبادئ العقل، أو من حيث موجهات النص؛ كل ذلك لا يسمح له أن يكون عقلاً استنساخياً تابعاً للشأن الواقعي الذي يزخر بحالات الجدل والمعارضة الدؤوبة.

وعليه فإن إرتباط المثقف أو المفكر بالواقع لا يجعله اسير إعتباراته من غير ممارسة النقد، فآليته المعرفية لا تحوز جوهرة أبلغ من حيازتها لهذه الممارسة، خاصة وأنه يشهد مظاهر التحديث والتغيير في الواقع وما ينبني عليها من تحولات معرفية. وبذلك يتبلور لديه نمط من الإجتهاد جرّاء عملية البحث والتحقيق في قضايا الواقع، مما يترتب عليه نتائج قد تتفق أو تختلف مع سائر ما يتمخض عن العمليات الإجتهادية التي تبتعد مرجعيتها المعرفية عن الواقع كتلك التي يزاولها الفقيه وغيره من مختصي الدراسات الإسلامية.

لكن تظل مشكلة المثقف تتحدد بتلك الأطباق الجاهزة التي يأخذها بدوره من عنديات عقول كبار المثقفين من المفكرين، فهنا يتحول المثقف مما هو أداة عقلية لفهم الواقع وتحليله ومن ثم نقده وتقويمه إلى أداة مرآتية تعكس صوراً معرفية مسبقة يسقطها على الواقع بدلاً من أن يقوم بفحصها من خلال الواقع ذاته، وهذا ما ينطبق على مختلف أصناف أهل الثقافة الذين احتكموا إلى مذاهب فكرية بعينها في تصوير الواقع وتقويمه، كالماركسيين والتنويريين وغيرهم.

 

ج ـ توجيه العقل المثقف

إن الآلية الثقافية موجهة. فرؤية المفكر حول المصدر المعرفي تختلف كلياً عن تلك التي تعود للفقيه.فالمفكر وإن لم يعترض على كون النص مصدراً مهماً للمعرفة؛ إلا أنه لا يعده وحيداً ولا رئيساً من الناحية التكوينية للمعرفة، بل يحتفظ به كمصدر توجيهي، خلافاً لما يصوره الفقيه ويعمل عليه.

وهنا تتبلور نقطة الخلاف.. فالفقيه يجعل من النص مصدراً تكوينياً وبالتالي تتحدد آليته بالبيان الصرف الذي يحول النص إلى فهم تجزيئي من النوع الماهوي، وهو الفهم الذي لا تراعى فيه أي علاقة جدلية مع الواقع، إذ لا يولّد سوى أطباق جاهزة يُسقطها الفقيه على الواقع دون مراعاة لشؤونه وما يترتب على ذلك من آثار الجدل والمعارضة التي تكشف عن ضعف هذا الفهم وحال الصدام معه. في حين لا يتعامل العقل المفكر مع النص تعاملاً بيانياً صرفاً، ولا يفهمه فهماً ماهوياً مثلما يصنع الفقيه، بل يستلهم من النص مبادئ توجيهية كلية يجعلها صاحبة المدار والقرار، ويقدر أن جزئيات النص ليست محل تكوين الأطباق الجاهزة؛ وإنما هي مخصوصة بوقائع مشخصة يُستهدى من خلالها بما يتسق مع روح الخطاب الديني ومقاصد التشريع. وكدلالة على ذلك ما فعله محمد عبده الذي خالف طريقة الفقهاء في الإعتماد على البيان الماهوي؛ مستعيناً بالواقع وربطه بمقاصد التشريع، كما هو حال موقفه من الزواج المتعدد.

 

3ـ المولدات والموجهات المعرفية

لا شك أن المرتكز الأساس الذي يعول عليه الفقيه في التكوين المعرفي هو النص، وأن الإجتهاد ليس له قيمة ما لم يصبح آلية للنظر في الأخير. وحيث أن هذه العملية قد اتخذت شكلاً ممنطقاً من البيان اللغوي النصي؛ لذا كان أصلها المولد لا يمثل سوى هذا البيان اللغوي الممنطق، سواء كان التوليد يتخذ صيغة الفهم كما هو حال القضايا التي نزل بشأنها النص وعاصرها، أو كان توليداً لقضايا تخص أحداثاً ظهرت فيما بعد ولها علاقة ما بالأولى، رغم تبدل الأحوال وتغير الظروف.

من هنا يتصف المولد المعرفي لدى الفقيه بخصوصيتين متلازمتين يعبّران في الوقت ذاته عن طبيعة الآلية الإجتهادية كآلية صورية:

الأولى هي أن هذا المولد له خصوصية حرفية. فالفقيه لما كان يعتمد على النص كمصدر وآلية إجتهادية، وأن هذا النص ليس أكثر من لغة مركبة من الفاظ وحروف؛ لذا فإن ما غلب على عقل الفقيه هو الإمعان في فهم هذه الصور اللفظية واستجلاء معانيها ومقاصدها بحسب ما تبدو في الظاهر. وعليه فإن الطابع الحرفي هو طابع معرفي مولد؛ سواء من حيث فهم النص ذاته، أو من حيث ما يترتب على هذا الفهم من توليد للقضايا المعرفية الأخرى.فهذه هي الخصوصية الأولى التي يمتاز بها الأصل المولد للعقل الفقيه، وهو كون البيان عنده عبارة عن بيان حرفي.أما الخصوصية الثانية، والتي تلازم الأولى، فهي أن الشكل الحرفي للتوليد عند العقل الفقيه هو شكل جزئوي لا يعتني بالمبادئ والقضايا الكلية عادة، وذلك لكثرة الصيغ الجزئية التي حملها النص حيال تعامله مع الأحداث والقضايا. فمع أن للبيان الفقهي صوره الكلية المنتزعة عن النص والتي يمكن أن تتخذ كقواعد واصول توجيهية شمولية تتحكم في القرارات والأحكام لدائرة الفقيه المعرفية؛ لكن واقع الأمر أن الفقيه لم يعمد في الغالب لأن يضع الموازنة دائرة بين الأصول الكلية العامة وتلك التي تتصف بالجزئية، لعدد من المبررات، منها أنه يحسب بأن الجزئيات التي ترد في النص تطابق الكليات ولا تعارضها مهما طال الزمن وتغيرت الظروف والأحوال. كما أنه يظن بأن التعويل على الكليات هو ذريعة للخضوع إلى تحكمات النظر العقلي الصرف. يضاف إلى ما قد يفضي ذلك من نسف للجزئيات المصرح بها عندما يجد العقل أن بين الجزئيات والكليات تعارضاً لا يحل إلا بالتعويل على إحدى الفئتين دون الأخرى. وحيث أن التعويل على فئة الجزئيات يحافظ على التمسك بمقولات النص خلافاً لما يحصل عندما يُعتمد على الكليات التي يطالها العقل بالإدراك والإكتشاف مباشرة؛ لذا كان لا بد من الخضوع إلى المولدات الجزئية وترك إعتبار ما يقابلها من موجهات كلية.

إذاً فالعقل الفقيه هو عقل بياني جزئوي غرضه المحافظة على بيان النص وتطبيقه على الوقائع والأحداث، دون أن يعتني عادة بما قد يفضي هذا الأمر إلى تصادم مع الكليات، طالما أن الأخيرة معطلة ومهملة، بل ودون أن يحسب حساب ما قد تنجم عنه عملية التوليد الجزئوية من معارضة للواقع الذي يخضع للتطبيق.

ويضاف إلى ذلك هو أن هذا العقل لا يقتصر على الشكل الجزئوي – كما قدّمنا – فحسب، بل هو أيضاً شكل تجزيئي، إذ يعمل على تجزئة النص بأخذه للحكم الظاهر مع اهماله لكلا السياقين الدلالي والواقعي الذين يؤطران مدار الحكم المنزل فيهما. وسبق لنا أن فصّلنا في بحث مستقل كيف أن هذا العقل لم يعر أهمية للسياق الدلالي، الأمر الذي جعل أحكامه تتصف بالإطلاق والشمول الماهوي، كالبحث الذي طرقناه حول مفهوم الكفر وصفاته وملازماته.كما سبق أن بحثنا قضية اهمال السياق الواقعي ضمن قاعدة (العبرة في عموم اللفظ لا في خصوص السبب)، مع أن الصحيح أن يقال بأن العبرة في بيان القصد واستكشافه لا في عموم اللفظ ولا في خصوص السبب.إذاً إن خصوصية التجزئة هي صفة راكزة في العقل الفقيه لما يفعله من قطع الروابط السياقية عن حكم النص.

هكذا يتبين لنا بأن هناك خصوصيتين للموجهات في العقل الفقيه؛ إحداهما الحرفية البيانية، والأخرى الشكلين الجزئوي والتجزيئي. ويمكن ادماجهما معاً ضمن تركيبة واحدة ممنطقة نطلق عليها المولد البياني الماهوي. فالصفة الماهوية هي صفة راكزة في العقل الفقيه، وهي تعني تحويل جزئيات النص إلى ماهيات ممنطقة كلية لا تخضع عادة لإعتبارات العوامل الخارجية من العقل والواقع. إذا فالبيان الماهوي هو الأصل المولد للعقل الفقيه.

لكن لما كان هذا الأصل يعبّر عن قضية شكلية صورية ليس لها دلالة من المحتوى والمضمون؛ فإنه يصح أخذها بعنوانين: أحدهما كأصل مولد، والآخر كآلية إجتهادية. أي أننا هنا إزاء قضية يندك فيها كل من الأصل المولد والآلية المنهجية، مع أن أي معرفة لا تخلو من أن تعبّر عن تركيب يجتمع في صنعه المرتكزات الثلاثة: المصدر والآلية والمولد – أو الموجه – المعرفي.

وبعبارة أخرى، ثمة نوعان من المولدات والموجهات المعرفية. فهناك ما يتخذ فيه المولد شكل القضية بما تحمل من مضمون محدد يمكن استكشافه وتشخيصه. فرغم أنها قضية مضمونية؛ إلا أن علاقتها بالقضايا الأخرى داخل النظام المعرفي هي علاقة توليد. فمن الصعب تفسير حضور هذه القضايا من دون ربطها بفعل القضية الأولى، سواء كان هذا عن وعي من أصحاب المنظومة أو عن غير وعي. وأقرب الأمثلة على ذلك هو قضية السنخية التي هي أصل مولد لمختلف الرؤى المعرفية الموضوعية للنظام الوجودي بشقيه الفلسفي والعرفاني. فالأصل هنا يعبّر عن مضمون يتعلق بعلاقات الوجود بعضها يكون على شاكلة البعض الآخر، كالذي كشفنا عنه في أكثر من دراسة.

كما قد يتخذ الأصل المولد شكلاً صورياً دون أن يعبّر عن قضية محددة من قضايا المحتوى والمضمون، وهو أيضاً يمكن أن يكون له صفة التوليد والتوجيه المعرفي بوعي أو بغير وعي من أصحابه.وميزة هذه الحالة هي أن تتماهى فيها الآلية مع الأصل المولد أو الموجه. ومثالها ما نحن بصدده من الأصل الذي أطلقنا عليه البيان الماهوي، فهو غير محدد بقضية معرفية مشخصة المضمون والمحتوى، إنما يعبّر عن آلية الإرتباط الحرفي بالنص – مباشرة – من غير إعتبارات أخرى خارجية. إذ يتخذ فهم النص بحسب هذا المولد شكلاً تتحول فيه جزئيات النص إلى كليات ماهوية قابلة للإسقاط على مختلف الحوادث والأحوال. وبالتالي فإن القياس الفقهي وسائر الآليات الإجتهادية الأخرى التي تستند بشكل أو بآخر إلى النص؛ ليس لها تأثير لولا تحكم هذا المولد المعرفي، حيث يتم به ربط حادثة جديدة بقضية جزئية منصوص فيها، ويحكم بها عليها. أي أنه بفعل عملية تحويل البيان الجزئي إلى الكلي الماهوي تتم ظاهرة إنتاج المعرفة الإجتهادية وتوليدها.

أما مع المفكر الديني فالملاحظ أنه يستند إلى ثلاثة اسس من المولدات والموجهات بعضها يتمم البعض الآخر، وهي مستمدة من المصادر المعرفية الثلاثة: النص والعقل والواقع، وذلك كالاتي:

 

أـ الموجهات النصية

بخصوص النص يلاحظ أن المفكر الديني لا يقر الإعتماد على البيان الماهوي كمولد معرفي. فهو ليس مع الحرفية اللفظية التي عليها الفقيه، ولا مع التشظي وإمتثال الجزئيات التي يستهدفها الأخير، إنما هو مع الموجهات العامة المستبطنة في النص؛ تارة مصرح بها – مباشرة -كقواعد عامة تشكل جوهر الدين وصلبه، وأخرى مستكشفة عبر دلالات النص في تعامله مع الحوادث والقضايا الجزئية.

وإذا أردنا أن نوضح الفارق بين إعتبار النص لدى الفقيه مولداً وبين إعتباره موجهاً؛ فيمكن إلقاء النظر إلى الفهم الذي أدلى به الكثير من الفقهاء إزاء آية الإعتبار ((هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار)). إذ فَهِمَ الكثير من الفقهاء أن لفظة (فاعتبروا) لها دلالة على القياس، من حيث أن الأخير هو عبور من الأصل إلى الفرع.وبالتالي فإن تفسير هذه الآية بالنحو الذي يخدم تبرير العمل بالقياس إنما يبرر إتخاذ النص مرجعاً تكوينياً غير مباشر، إضافة إلى مرجعيته المباشرة. في حين إن الآية في المنظور الآخر يمكن أن تشكل مبرراً للتوجيه والإرشاد، فهي ذات دلالة على العبرة لا القياس. وبعبارة أخرى، أنها ذات دلالة على التوجيه العام دون التوليد.والذي يؤكد هذه الناحية هو أن سياق الآية ليس بصدد القياس المصطلح عليه. فالسياق دال على أخذ العبرة بالنظر إلى واقع خارجي وتأمله ولو من خلال ما صوّره القرآن وحكاه لأجل الإفادة منه في الواقع.وهذا المعنى يفاد منه التوجيه لا التوليد كالذي يطرحه الفقهاء.

ويمكن تمييز أنواع عدة من موجهات النص، نقتصر على ما يلي:

موجهات التفكير ومعرفة الحق: وذلك بالحث على الممارسة الفطرية للعقل في الكشف عن الصواب، تارة بالترجيح وإتّباع أحسن الأقوال وأرشدها، وأخرى من حيث النظر في الواقع وما يترتب عليه من نتائج مثمرة، كتلك التي تشير إليها الآيات القرآنية حول الكائنات والمخلوقات وما تدل عليه من وجود إله واحد قادر وحكيم هو موجدها. وثالثة عبر الإتيان ببعض الصور الإستدلالية في الكشف عن المطلوب، مثلما هو الحال في قصة ابراهيم (ع) ومحاججاته مع قومه، أو في المحاججات التي أبرزها القرآن الكريم مع الدهريين الذين استبعدوا البعث وإحياء الموتى.

موجهات الإيمان: وهي بمجملها تحث على نبذ الشرك في المعتقد والسلوك، وذلك عبر النهي عن إتخاذ إله غير الواحد الأحد يكون هو مركز الإتجاه والإتصال، سواء من حيث الإعتقاد، أو من حيث التوجه إليه بالعبادة والدعوة والطلب دون غيره مما يبتدع من وسائط بشرية ووثنية.

موجهات العبرة: وهي أغلب ما يؤكد عليه القرآن الكريم، كالذي تظهره قصص القرآن وما تبعث به من موجهات للهداية والعبرة. فهي بالتالي تحث على النظر في الواقع الإجتماعي والتاريخي لأجل فهم ما يجري من سنن تبعاً لخيارات الناس وما يقدمونه من خير وشر، ومن ذلك قوله تعالى: ((قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين)). ومثل ذلك العبرة بخلق الله تعالى على صعيد الواقع التكويني.

موجهات الهدي بالمقاصد:وهي تلك التي تجعل للأحكام مقاصد هي علة جعلها ووضعها. وتارة أن هذه المقاصد مصرح بها في النص مباشرة، وأخرى غير ذلك، كما قد تكون مقاصد خاصة، وأخرى عامة شاملة.

موجهات بناء الأمة الصالحة:وهي التي تحث على تماسك الجماعة ووحدة الإرتباط والتراحم والتضامن والتكافل، وكذا التعاون على البر والتقوى والتنافس على فعل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعداد القوة ولزوم الصبر وضرورة تغيير الأنفس بالترقي ومكافحة الأهواء وشحذ الذهن بالتفكر والبحث عن سبل الصلاح وهدم الفساد والاتكال على الله والرضا بقضائه والعمل بموجبات الأسباب والمسببات.. الخ.

وفي جميع الأحوال إن ما يطرحه النص من النماذج في تلك الموجهات إنما يعبّر عن أمثال للتوجيه لا اللزوم.وبالتالي فإن المعرفة المستمدة من النص لا يمكنها أن تكون تكوينية بهذا الإعتبار، إنما لها صفة التوجيه إلى طرق توليد المعرفة التكوينية، وهي الطرق التي يغلب عليها العلاقة بالواقع.

ولكون هذه الموجهات كلية وثابتة فإن بها تتحقق مظاهر الإصلاح والهدى بلا انقطاع، كما بها – وليس بغيرها – تصدق مقالة إعتبار الدين يصلح في كل زمان ومكان. ومن ثم فإن إرتباط المفكر الديني بهذه الموجهات هو إرتباط صميم لأجل الإصلاح النفسي والإجتماعي. أما جزئيات النص ففائدتها تتكشف لديه من حيث كونها محكومة بالكليات، فلا تعويل عليها إلا عند إحتفاظها بتلك الكفاءة العالية التي تخدم بها الموجهات، ومن ثم فإن قيمتها لا تنبع من ذاتها مثلما هي نظرة الفقيه، بل تمثل – لديه – صوراً إجرائية قابلة للنسخ والتبديل تبعاً لما عليه الموجهات، وبالتالي فإنها لا تشكل صيغاً تكوينية لبنية العقل المفكر أو المثقف.

إذاً إن إرتباط المفكر الديني بكليات الإسلام العامة له أكثر من مبرر: فهي تتفق مع الفطرة الإنسانية وقرارات الوجدان العقلي، وهي ذات القرارت التي يتخذها كموجهات كلية يعتمد عليها لتحليل المعطيات المعرفية للواقع. كما أنها ثابتة لا تخضع إلى إعتبارات تحولات الواقع. يضاف إلى كونها هدفاً منشوداً يطمح الإنسان إلى إمتثالها على أرض الواقع، حيث تستجمع معاني الخير والصلاح للجميع بلا فرق ولا تمييز. كما أن لها قدرة على تغيير الواقع وتعديله من غير أن تتغير في نفسها. كذلك من حيث أن المثقف ليس بوسعه الجمع بين وسائل الفقيه التقليدية والواقع، فإستخدام هذه الوسائل ليس كفيلاً بتغطية حاجات الواقع وسد ثغراته، سيما وأن الفقيه يسير ضمن مسار لا زال متعالياً، فهو يبدأ بالنص لينتهي إليه، ولا يمر بالواقع عادة إلا مروراً عابراً كمرّ الكرام.

فجميع هذه المبررات تعمل على اجتذاب المفكر الديني تجاه التمسك بحبل المبادئ الكلية للإسلام؛ لغرض إصلاح الواقع وتجاوز ما يطرأ عليه من ازمات. لكن في الوقت نفسه أنه يفضي به إلى القطيعة مع الفقيه !

لقد كانت حركة الرواد من المفكرين الدينيين من أمثال الكواكبي وعبده ورشيد رضا تعمل طبقاً لموجهين أساسيين مستلهمين من النص؛ رأوا فيهما مصدر النهضة والإصلاح:

الأول هو الإيمان المتمثل بمبدأ التوحيد الخالص والذي لا يقتصر على عالم العقيدة وإنما يشمل – أيضاً- ميدان السلوك من حياة الناس. إذ كرس الفقهاء وأهل الطرق الصوفية العديد من مظاهر التقليد والوساطة بين العبد والرب؛ بما اعتبره هؤلاء المفكرون بأنه أهم ما جلب على المسلمين من انحطاط وتخلف واتكال، فكانت ردة فعلهم الرئيسة هي العمل على تنبيه الأمة من آفة هاتين الطريقتين؛ وذلك باللجوء المباشر إلى موجهات النص عبر عدد كبير من الآيات التي لا تدع مجالاً للشك بأن من مقاصد الدين الأساسية هو التوحيد الخالص، بعيداً عن تلك المظاهر من التقليد والوسائط المختلقة: ((إن هي إلا اسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان)).

أما المبدأ الثاني فهو العمل الصالح بكل ما يحمل من مضامين فردية وإجتماعية وسياسية. فهو الموجه الآخر الذي أكد عليه النص في عدد كبير من الآيات كمقصد أساس للدين.

وقد ميّز رواد الفكر الديني بين المبدئين الآنفي الذكر. فبحسب المبدأ الأول تمسكوا بالمحافظة على ما جاء به النص من تفاصيل تخص كيفية التوحيد وكذا العبادة وحدود ما يتحقق فيها من توحيد عملي من غير زيادة ولا نقصان ولا تنطع ولا تنقير. أما بحسب المبدأ الثاني فالحال يختلف، إذ لما كان العقل يدرك معانيه وفهم مغازيه؛ لذا فالأمر موكول إلى الإجتهاد العقلي بالصورة التي يتحقق فيها معنى الإصلاح؛ وذلك بأخذ الأحوال والظروف بنظر الإعتبار. وبالتالي فإن تفاصيل الإصلاح ليست تعبدية مثلما هو الحال مع تفاصيل الغيب والعبادة.

لكن كلا المبدئين الآنفي الذكر قد ساهم في توجيه عقول أولئك المفكرين الرواد، إذ كان لهما دور بارز في التعامل مع الجوانب التطبيقية للقضايا الدينية والحياتية للواقع الإجتماعي.فالهمّ الذي شغل عقول هؤلاء المفكرين هو العمل على نهضة الأمة وتجاوز ما لحق بها من تخلف وانحطاط، وقد جعلهم ذلك ينقادون إلى توظيف التوحيد الخالص إلى معان إجتماعية غرضها الإصلاح. وبالتالي بات الإصلاح هو المبدأ الراسخ الذي شغل همّ المثقفين قديماً وحديثاً، وأن منظومة القيم وحقوق الإنسان هي التي كان لها النصيب الأوفر في مستودع التفكير لدى العقل المفكر أو المثقف مقارنة مع ما عليه الحقوق الإلهية؛ إن جازت التفرقة بينهما. بل أخذ مفهوم الإنسان يتبلور تبعاً لموجهات النص من العمل الصالح وعلاقته بالإستخلاف، وهو أنه في ذاته يحمل أمانة ربانية تستهدف الإستخلاف الحضاري، وأن عملية الإستخلاف لا تتحقق إلا بفعل الإصلاح العام، وبالتالي فالإستخلاف هو علامة العمل الصالح، مثلما أشار إلى ذلك رشيد رضا.

إذاً إن أبرز الموجهات الفاعلة للنص في العقل المفكر هي منظومة القيم وخلافة الإنسان.

 

 

ب ـ الموجهات العقلية

تلك كانت موجهات النص في العقل المفكر، أما موجهاته العقلية؛ فالملاحظ أن نظره العقلي ليس أداة تحليل فحسب، وإنما هو كاشف أيضاً عن المولدات والموجهات. ففضلاً عن كونه كاشفاً عما في النص والواقع من موجهات ومولدات لولاهما ما كان بوسعه أن يدركها؛ فإنه كذلك موظف للإدراك المباشر لعدد من الموجهات المستقلة، سواء انفرد بها، أو كان محل إشتراك -في ذلك – مع ما يظهره النص أو الواقع. وابرز الموجهات العقلية الفاعلة لدى المفكر هي تلك التي تتعلق بقواعد الأخلاق والمنظومة القيمية على الصعيد العملي، وكذلك قوانين الإرتباط السببي على الصعيد الكوني الوجودي.

وقد يقال أنه إذا كانت الموجهات العقلية لدى المفكر هي منظومة القيم مثلما هو الحال في الموجهات النصية، فأي ضرورة لهذه الأخيرة؟ وكيف نطلق عليها بالموجهات طالما أنها امضائية للأحكام العقلية المستقلة؟ وبعبارة أخرى: هل هناك من إضافة للنص يفتقر إليها العقل في مجال هذه القيم أم لا؟

والجواب أن فائدة ذكر النص لتلك القيم الامضائية ليس لغرض التوكيد والتنبيه والتذكير فحسب، بل الأهم من ذلك ما ورد في النص من الوعد بالجزاء، خاصة فيما يتعلق بالعقاب للردع عن الإنحراف، ففي الغالب أن النفوس تخاف مما يتوعد به الشرع، ولا تخاف مما تستهجنه النفوس والعقول، فترتدع بسبب الأول دون الثاني، وهي الحكمة في توكيد الشرع عليها رغم أنها يمكن أن تدرك بذات العقل والوجدان.

كما قد يقال أنه إذا كانت قوانين الإرتباط السببي تعبّر عن حقائق الواقع وتشكيلاته؛ فأي داع يجعلنا نعد هذه القوانين عقلية وليست واقعية؛ طالما كان هناك تمييز بين العقل والواقع؟

والجواب هو أن إدراك العلاقات السببية للواقع لا يحصل بمعزل عن العقل وأحكامه القبلية. فما نشهده من هذه الروابط إنما هو موجه بصيغ من الإعتبارات القبلية؛ بدونها يستحيل الحكم منطقياً على أي معرفة تصديقية معطاة من الواقع. فلا توجد معرفة غير مسبوقة بتلك الأصول الموجهة. وبالتالي فالعقل ليس خلواً عن قواعد التوجيه التي بدونها تفقد المعرفة المكتسبة معناها الموضوعي مهما كانت بسيطة وأولية.

يظل أن خصوصية المفكر- هنا – هو توظيفه اللاشعوري لهذه الموجهات للكشف عن شبكة العلاقات الدائرة في الواقع؛ ومن ثم استنتاج الحقائق منها.

 

ج ـ المولدات الواقعي

أما من حيث مولداته الواقعية؛ فالملاحظ أن العقل المفكر يرتبط بالواقع إرتباطاً تكوينياً، فمناطه الاستكشاف والتفصيل والتدقيق. وهو بفعل هذه الممارسات يكون قد استوعب قدراً واسعاً من معالم الواقع وحيثياته الجزئية لتشكل الحجم الأكبر من منظومته المعرفية، كما يستكشف من خلالها حالات السنن والقوانين التي تتحكم في الواقع، والتي تصبح بدورها مصادر لتوليد المعرفة وضبطها وأحكامها، ومن ثم اثراء الجدل بينها وبين تلك الحيثيات الجزئية، مثلما هو الجاري في البناء العلمي الطبيعي، أو بينهما من جانب وبين كل من مضامين العقل والنص من جانب اخر. أو أنها مع سائر حيثيات الواقع وجزئياته تشكل محوراً تنبني عليهما مظاهر تفصيل ما يجمله كل من العقل والنص.

هكذا أن استكشاف القوانين والسنن العامة من الواقع لا بد أن تسبقها المعرفة الجزئية لهذا الواقع.وأن عملية السبق هذه لا تجري من غير مولدات عقلية وكلية هي التي تضفي على المعرفة قيمتها ومصداقيتها مثلما أشرنا إلى ذلك من قبل.

وعلى العموم يمكن إرجاع سلطة التوليد التي تتحكم في العقل المثقف بشتى أصنافه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلى التجربة والخبرة البشرية بمعطياتها الموضوعية. فهذه الخبرة تتحول بشكل من الأشكال إلى مبادئ يستوحيها المثقف بفعل النظر إليها مباشرة، أو بفعل إتّباع من قام بتحويلها إلى تلك المبادئ المعرفية العامة. ففي كلا الحالين يكون المثقف حاملاً لمبادئ وأفكار هي نتاج النظر في تلك التجربة، والتي تعبّر تارة عن معطى تاريخي، وأخرى عن معطى حديث، وثالثة عن معطى يتصف بالعموم والشمول.

فالمثقف الماركسي وهو يستنسخ فكر ماركس إنما يعبّر عن الشكل غير المباشر من النظر في التجربة البشرية والتي يراها تسير وفق ما استخلصه هذا الفيلسوف من قوانين بعد اجلاء النظر في الواقع وصيرورته التاريخية.

والمثقف العلموي هو الآخر يرى أن التجربة البشرية المتمثلة بالنهج الذي اختطه العلم الحديث، والذي اثبت نجاحه الخلاق في العديد من النواحي، يكفي أن يُتخذ أصلاً مولداً للمعرفة الحقة في مختلف الأصعدة والمجالات. فهو بهذا يستند إلى ما حققته التجربة البشرية من نجاح على الصعيد العلمي ليجعل منها حلقة وصل للتعميم في جميع القضايا التي يتطلع إلى حلها الإنسان.

كذلك فإن المثقف العقلاني هو الآخر قد جعل من التجربة البشرية المتمثلة في عصر التنوير أساساً مولداً للنهضة المعرفية والإجتماعية، معولاً في ذلك على المبادئ التي نجح التنويريون في بثها ونشرها لدى أوساط المجتمع، كالعقلانية والحرية والمساواة والديمقراطية وغيرها.

والمثقف الذرائعي، كما يتمثل بالقومي، يرى في الأمة مزايا تشكل أصلاً مجرباً يُعتمد عليه في النهضة وتحقيق الامال التي تصبو إليها. فكثيراً ما يرجع إلى تجربة الأمة في صيرورتها التاريخية ليؤكد ما عليه قدراتها في تحقيق التطور والازدهار؛ مستخلصاً من ذلك مزاياها الخصوصية كمبادئ يستضيء بنورها؛ جاعلاً منها أصلاً يتكئ عليه لغرض إعادة تشكيل الحاضر بما يتفق وضرورات العصر الحديث. الأمر الذي يضطره إلى الاستعانة بالتجربة الغربية واستلهام مبادئها المعرفية ليكون قادراً على التفاعل مع الإشكاليات الحديثة ومواجهة الواقع الراهن.

أما التجربة البشرية التي يتطلع إليها المثقف الديني ويستلهم منها أفكاره ومبادئه فهي تتكون من رصيدين مهمين، أحدهما التجربة التاريخية التي نتج عنها تراثنا الإسلامي وما ينطوي عليه من صور تعبر عن بعض التشكيلات الناجحة في عدد من المجالات، كالمجال العلمي والأخلاقي والتربوي والسياسي، ومن ذلك التفكير في نظام الخلافة الراشدة كأصل يُعتمد عليه في الرؤية المتصورة عن طبيعة ما يكون عليه النظام السياسي والإجتماعي من مواصفات تبرز فيها صور العدالة والزهد والصفاء وحرية الرأي والنقد والشورى والتقويم وما إليها من مفاهيم مستخلصة من تلك التجربة الفذة لعصر الإسلام الذهبي. أما الرصيد الآخر فهو التجربة الحديثة المتمثلة بالدرجة الرئيسة بما حققه الغرب من نجاحات كبيرة في الكثير من المحاور بما فيها ما نحن بصدده من المجال المعرفي، فكان على المثقف أن ينتقي من المسالك والمفاهيم المعرفية ما شاء له، كما أنه كثيراً ما قام بالمزاوجة بين التجربتين المحلية والأجنبية.

وعليه لما كانت التجربة والخبرة البشرية مصدر توليد للمعرفة، فانها تمثل – بهذا الإعتبار – نقطة اسناد يلجأ إليها المثقف أو المفكر في موارد الأخذ والرفض والفهم والتوجيه والإسقاط والتأويل، مثلما يلجأ الفقيه إلى مرجعية البيان الماهوي ليحدد تلك الموارد من الأخذ والرفض والفهم وما إلى ذلك.

والمثقف لا يلجأ إلى التجربة البشرية بدواع ابستمولوجية معرفية علمية بحتة، إنما هو عرضة للمنعطفات الآيديولوجية ومنزلقاتها، بما فيها تلك التي لا تخرج عن إطار هذه التجربة ذاتها.فهو كثيراً ما ينحاز إلى تجربة حيال أخرى، والى واقع ضد اخر. وينطبق هذا الأمر على المثقف الديني، بحيث يزدحم عنده الدور الآيديولوجي كلما ازداد إحتكاكاً بالواقع، وعلى رأسه الواقع السياسي.

وبغض النظر عن البعد الآيديولوجي لحركة المثقف بشتى أصنافه؛ تظل المعايير التي يعتمدها في الغالب معايير مستمدة من التجربة البشرية، وهي مصاغة بشكل مبادئ وتصورات كلية تستهدف كلاً من الفهم والتوجيه والتوليد، فتوصف تارة بمبادئ التنوير والعقلانية، وثانية بمبادئ الثورة والتقدم والإشتراكية، وثالثة بمبادئ الحرية والليبرالية، ورابعة بمبادئ العلم والمعرفة المنظمة الاكاديمية، وخامسة بمبادئ الوحدة القومية كالذي روّج له القوميون العرب تحت شعار: الوحدة والحرية والإشتراكية.. وأخيراً بمبادئ العدل والمساواة والأخاء الإنساني… الخ.

فجميع هذه المبادئ والتصورات مشحونة بتجارب الواقع؛ مع ما فيها من انتقاءات تتضمن التقريب والاستبعاد. وبالتالي فالمثقف مدين في توليده المعرفي إلى تلك النماذج التي حققتها التجربة البشرية أو يُفهم أنها تدل عليها. فهو من ثم يعتمد على مثال ما من الواقع ليحتذي به، أو ليجعل منه مصدراً للتوجيه والتوليد المعرفي. لكنه في كثير من الأحيان لا يُخضِع هذا الواقع الخاص الذي يلجأ إليه، كنموذج يؤسس عليه رؤاه وتوجهاته، إلى التحليل والنقد. ومن ذلك أنه يخلط أحياناً بين الواقعين الغربي والمحلي فيسقط ما لدى الأول على الآخر؛ من غير أن يفكر جدياً بأهمية المكان ودوره وخصوصيته. كما كثيراً ما يقع تحت ضغط الواقع المعاش وتوجيهه بلا رؤية تاريخية -استشرافية تعمل على نقد الحاضر وعدم الاستسلام إلى ضغوطه وتغريراته، إذ لم يفكر بأهمية الزمان وإعتباراته، ولم يولِ التجارب التاريخية حقها من النظر، بل جعل تفكيره محصوراً ضمن دائرة الحاجات الزمنية ومتطلبات العصر. وبالتالي فإنه يفتقر إلى الرؤية الشمولية التي تأخذ كلاً من المكان والزمان بعين النظر والإعتبار.

وبعبارة أخرى، مع أن المثقف يعول على الواقع كثيراً في بناء وتكوين منظومته المعرفية؛ إلا أن الإشكال هو أن هذه العملية من البناء والتكوين تتم بصورة انتقائية بلا منهج محدد في الغالب. إذ ينتقي المثقف صوراً جزئية ليشكل منها مفاهيم كلية يعمل على تعميمها وإسقاطها بنوع ما من التعسف. أي أنه يمارس ما يشابه الدور الذي يمارسه الفقيه عندما يحول جزئيات النص إلى كليات عامة قابلة للإسقاط على مختلف أصناف الواقع.وبهذا الدور ليس المثقف محايداً في نظرته لما يجري أمامه من تجارب واحداث؛ طالما أنه يعيش أزمة تعكس ما يدور في الواقع من تناقضات وتغايرات. وهو لكي يعمل على حل هذه الأزمة يلجأ إلى الانتقائية الواقعية. فالبعض يرى أن ما حلله ماركس للواقع الرأسمالي الغربي وما انتهى إليه من تصورات إجتماعية وتاريخية يمكن أن يصدق على مختلف الأحوال والبيئات، وبهذا تصبح الإطروحة الماركسية قابلة للتبني في مواجهة الازمات التي يشهدها واقعنا المحلي والعالمي، سواء بسواء. وبعض آخر يرى أن ما تم فعله وإنجازه من تنوير وعقلانية في العالم الغربي منذ القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا يمكن اختزاله وتطبيقه على مجتمعنا، وذلك بالعمل على تحليل أفكارنا ضمن معيار مبادئ التنوير؛ فهي إما عقلانية أو لا عقلانية، وتنويرية أو ظلامية، وتقدمية أو رجعية… الخ. وبعض ثالث يعول على الواقع التاريخي كملجأ نلوذ به من أجل إعادة ترميم ما نالنا من صدأ الإنحطاط والفرقة والتشرذم؛ عبر إطروحة قومية تجمع شتات الأمة وطاقاتها. وأخيراً يرى البعض أن في التجربة الأولى للرسالة الإسلامية أعظم معين وسند يمكن الإتكاء عليه لغرض إصلاح واقع الأمة وإعادة دورها من جديد بمثل ما كانت عليه من قبل.

وقد جمع الأخير في انتقائيته بين الواقعين الغربي والإسلامي. بل كثيراً ما كان يداخل بينهما، سيما وقد غابت عنه ضوابط الانتقاء والمنهجية، سوى أنه يلبي في الغالب تلك الذرائعية التي تخدم المرحلة، كما يلاحظ ذلك لدى الرواد من المفكرين الدينيين. الأمر الذي أثر على طبيعة قراءته لنص الخطاب، لكنها في جميع الأحوال تختلف بنيوياً عن القراءة التي اعتمدها الفقيه – وغيره من مختصي الدراسات الإسلامية التقليدية – استناداً إلى البيان الماهوي، مما جعل القطيعة بينهما أمراً متحققاً فعلاً.

وإذا أردنا أن نختصر ما لدى المفكر الديني من مولدات معرفية؛ فيمكن التعويل على الإتساق العام في التشكيلة التي ربط فيها بين المصادر المعرفية الثلاثة: النص والعقل والواقع. فالنص لدى المفكر ذو تركيبة مجملة يفاد منه التوجيه عند التعامل مع الواقع، وكذا هو الحال مع العقل في قواعده الكلية الموجهة. أما الواقع فهو محل التفصيل الذي يتكون به العقل الثقافي. ومن حيث أنه عنصر تفصيل فهو محل بحث وفحص ومراجعة من غير انقطاع، خلافاً لما عليه الحال في المجملين الآنفي الذكر.

إن مثلث التوليد لدى المفكر الديني يستبطن – إذاً – جانباً من الوحدة والاتساق. فالموجهات العامة للنص، كمقاصد التشريع وغيرها، تتطابق مع قرارات الوجدان العقلي من غير تضارب. وهي أيضاً لا يمكنها أن تكون في تعارض مع الواقع. فبين الأخير والمقاصد وسائر الموجهات علاقة حميمة، بخلاف الحال فيما لو عكسنا القضية، كإن نعول – كما يفعل الفقيه – على تفاصيل النص ونطابقها مع الواقع بتفاصيله ومجملاته. فبين هذه وتلك لا بد من أن يظهر التعارض؛ ما لم يتم فهم النص فهماً آخر يبعد عن البيان الماهوي، ويقرب إلى المقاصد والموجهات الكلية.

وعلى العموم أن اللجوء إلى النص بحسب الفهم الماهوي كما يزاوله الفقيه؛ لا بد من أن يصطدم مع كل من الموجهات الكلية كما تتمثل بالمقاصد والواقع. وبالتالي لا غنى عن العمل بهذه القواعد وجعل العلاقة بين النص والواقع علاقة قائمة على الإجمال والتفصيل. الأمر الذي يميل إليه المفكر عادة. فرغم ممارساته الانتقائية، بل والتلفيقية أحياناً في مزاوجته للنص والواقع، كما يبدو من تعامله مع قضايا العلوم الطبيعية، فإنه رغم هذه التلفيقية يميل إلى قراءة النص قراءة مجملة وموجهة، ويشدد على أخذ التفاصيل من التجربة البشرية، خلافاً لمسلك الفقيه الماهوي.

وإذا عدنا إلى النتائج الأخيرة من المولدات والموجهات المعرفية لدى المفكر؛ فسنجد أنه يمكن اختصارها بأمرين معاً، هما موجهات النص ومولدات الواقع. أما الموجهات العقلية فتتبدد تحت موجهات النص كما في القيم، وتحت مولدات الواقع كما في الإرتباط السببي الذي تتضمنه التجربة أو الخبرة البشرية، ويظل للعقل التحليل والنقد.

وتعد منظومة القيم وخلافة الإنسان أهم موجهات النص لدى المفكر، كما تعد التجربة البشرية فيأبعادها الكونية والانسانية أهم مولداته الواقعية. فنحن – إذاً – أمام ثلاثةأبعاد يكامل بعضها البعض الآخر، وهي القيم والإستخلاف والتجربة أو الخبرة.

فالإستخلاف هو ما يستهدفه المفكر عبر تأكيد ضرورة العمل لاستثمار الطاقة البشرية في إصلاح ما عليه الأمة من أوضاع متردية في المجالات كافة. وأن التجربة البشرية موظفة لاستكشاف العوالم التي يمكنها أن تساعد على تحقيق تلك العملية من الإصلاح والإستخلاف. أما القيم فهي بطبيعتها ثابتة ومحافظة؛ غرضها منع التجربة من أن تضل طريقها لتحقيق ذلك الهدف المنشود.

إذاً بعد أن أتممنا حديثنا عن المرتكزات المعرفية لكل من المثقف والفقيه فإنه يمكن مقاربتها بالمقارنة حسب الرسوم البيانية التالية:

 

 

 

 

 

 

 

مصدر التعارض والقطيعة بين المثقف والفقيه

لا شك أن الخلاف في المرتكزات المعرفية بين المفكر والفقيه لا بد من أن يضع بصماته عليهما بشيء من التعارض والقطيعة في الرؤى. ومع أن ما يحصل بينهما من تعارض لا يعبر في جوهره عن وجود تقاطع ما بين المصدرين المعرفيين: النص والواقع، لكن هذين الأخيرين هما علة توليد ذلك التعارض، لا بحسب ذاتهما، بل لطبيعة الفهم القائم عليهما. وبالتالي فالتقاطع بين المفكر والفقيه يتحدد بحسب ما عليه شكل الآليات الإجتهادية ونوع الموجهات والمولدات المعرفية. فالبيان الماهوي الذي يمثل آلية الفقيه ومولده المعرفي لا يتفق مع الطريقة العقلائية التي يعتمدها المفكر في الاستفادة من التجربة البشرية كمولد للمعرفة ضمن إطار الموجهات الكلية للنص. فمثلاً أن الفقيه لا يقبل عادة الإعتماد على كشف الواقع عندما ينافي ما استنبطه من البيان الماهوي.ويشتد الرفض حين يكون ذلك الكشف معبراً عن إفرازات للتجربة الغربية. فهو مثلاً لا يتقبل قضايا من قبيل: الديمقراطية وحرية الرأي والتعامل مع البنوك وإعتبارات الوطنية والخصوصية والمساواة وجملة من قضايا المرأة وحقوقها وغير ذلك من المسائل العامة التي يضعها المفكر ضمن الإعتبار والقبول عادة.

كما أن العكس حاصل.فالمفكر يرى في إجتهاد الفقيه الكثير مما يصادم إعتبارات كل من المقاصد والعقل والواقع. فهو مثلاً لا يتقبل ما عليه أغلب الفقهاء من تحريم نحت التماثيل ورسم الصور البشرية والحيوانية والكثير من مسائل الفن والإعلام. وليس من المتوقع أن يرضى بما عليه الفقهاء من فتوى التعامل بالقروض في العملات النقدية طبقاً لمبدأ المثلية؛ مع ما قد يفضي إليه من ظلم في حق الدائن أو المدين، تبعاً لنواحي الهبوط والصعود في العملات.كما ليس من المتوقع أن يتقبل حكم بعض المذاهب الإسلامية في تحديد دية اصابع المرأة؛ بإعتباره لا يتسق مع كليات العقل ومقاصد الشرع في نفي التعسف والظلم، فتبعاً للرواية تم تحديد دية قطع اصبع واحد للمرأة بعشرة من الإبل، واصبعين بعشرين، وثلاثة اصابع بثلاثين، في حين اعتبرت دية قطع أربعة اصابع هي بقدر دية قطع اصبعين، أي عشرين من الإبل.وكذا من المؤكد أنه لا يقبل فتوى جماعة من الفقهاء في الحكم على بعض الأقوام والأجناس بكراهة التعامل معهم كما في البيع والشراء والتزويج، بحجة أنهم من الجن، كما هو نص الحديث الذي لا يتفق مع منطق الواقع ولا مع مبادئ التشريع ومقاصده.ومثله ما جاء عن إبن حنبل من فتوى عدم قبول شهادة البدوي على القروي.وكذا ما جاء في كتاب (الميزان) للشعراني تعليقاً على فتوى إبن حنبل في حلية صيد الكلب الأسود، حيث عللها بأن هذا الكلب هو شيطان، وصيد الشيطان رجس، لأنه لا كتاب له، ولو كان له كتاب لحل صيده.كذلك ليس من المتوقع للمثقف أن يثق بما يسلّم به فقهاء بعض المذاهب من أن هناك ميزة بايولوجية تمتاز بها المرأة القرشية عن غيرها، وهي أن سن اليأس لديها يكون متأخراً في المدة مقارنة بغيرها من النساء. وهو أيضاً لا يتقبل الفتوى التي لا تجيز للأعمى سماع صوت المرأة الأجنبية لأنه عورة. وكذا الفتوى التي تعتبر ولد الكافر نجساً تبعاً لأبويه بإعتبارهما نجسين بسبب الكفر، كما هو عليه أكثر فقهاء الإمامية.ومثل ذلك الفتوى التي تقول ولد الزنى كافر، والتي نسبت إلى عدد من الفقهاء، أو على الأقل أنه لا خير فيه وأنه شر الثلاثة، وأنه لا تقبل شهادته ولا تجوز إمامته، تبعاً لعدد من الروايات. وأعظم من ذلك أنه لا يتقبل عمل الفقهاء بالإطروحات المذهبية وتكريس مقالة الفرقة الناجية قبال ما يطلق عليه فرق الضلال، ومن ثم إبطال عبادات أهلها، وعدم الإعتراف لهم بالإيمان. وعلى هذه الشاكلة يمكن لحاظ مواقف المفكر أو المثقف من فتاوى الفقيه الخاصة بقضايا الدولة والسياسة والاقتصاد وما إليها، كفتاوى التمييز بين المسلم والكتابي خلافاً لمنطق المواطنة، وتقسيم العالم إلى دارين؛ دار إسلام وحرب. وإعتبار مطلق الكافر الأصلي هو حربي ما لم يدفع الجزية، وكشرط العصمة في الحاكم عند جماعة، والنسب القرشي عند جماعة أخرى، وكذا رفض التعددية السياسية، وتقييد صلاحيات المشاركة السياسية للمرأة مقارنة بالرجل.. الخ

على ذلك فإن المفكر يتحرك ضمن ثلاثة مسالك في موارد الرفض والقبول. فهو لا يعترض على نتاج الفقيه شرط أن يتجاوب مع التجربة البشرية ولا يتعارض مع حقائق الواقع وسننه. وكذا أن لا يكون خلاف مقاصد التشريع العامة، وعلى رأسها مبدأ العدل والمصلحة الإنسانية. كذلك أن لا يكون مخالفاً لكليات العقل ووجدانياته. فهذه الإعتبارات الثلاثة هي ذاتها عناصر التوليد والتوجيه لدى المفكر، وهي في مجموعها متسقة وموحدة.

***

أخيراً لا بد من الإشارة إلى العلاقة التي تربط بين العناصر الثلاثة الفاعلة: الفقيه والمثقف الديني والعلماني، حسب التقارب والتباعد وفقاً لما قدمناه من المرتكزات المعرفية.فطبقة المثقفين على عمومها تمتلك وسعاً ما يجعلها تتموضع في مستويات متباينة من حيث التقارب والتباعد فيما بينها، وكذا من حيث مقارنتها بالفقيه. فقد تجد من المثقفين من هو أقرب للإلتزام بإعتبارات الفقيه، وهو من هذه الناحية قد يكون تابعاً للفقيه أو مقلداً له أو ملتزماً بإشكاليات النظر والترجيح، وقد يكون له مسلك فقهي خاص، فيصبح مثقفاً فقيهاً. وفي الطرف الآخر قد يكون المثقف علمانياً لا يعترف بالنص كمصدر معرفي جملة وتفصيلاً، ولا بمقاصده العامة. وبين هذين الحدين المتضادين، أي حد الفقيه وحد العلماني، توجد درجات كثيرة يصعب حصرها وتحديدها، إلا أن فيها يتموضع المثقف الديني. فمع أن جميع المثقفين يلجأون إلى الواقع والتحليل العقلي كمولدات للمعرفة وإنتاج النظر، إلا أن ما يمتاز به المثقف الديني عن غيره من المثقفين هو أنه يضع نصب عينيه مصدراً آخر مهماً في التوجيه المعرفي، وهو ذلك القائم على النص، الأمر الذي يقربه من هذه الناحية إلى الفقيه، مثلما يكون إرتباطه بالواقع كمصدر توليد مقرباً له من سائر المثقفين. ولعل الأمر ذاته ينطبق ببعض الإعتبارات على الفقيه. إذ قد تجد من الفقهاء من هو أقرب للإلتزام بمسلك المثقف وإعتباراته، فيكون على هذا تابعاً للمثقف، وقد يحمل ذات المسلك الذي يحمله الأخير، فتصبح لديه نزعتان فقهية وثقافية، أي أنه يلجأ في مرجعيته المعرفية للتوليد إلى كل من النص والعقل والواقع. وهو على الطرف الآخر قد يكون مقيداً كلياً بمرجعية النص دون سواه من المصادر الأخرى، مثلما يلاحظ لدى الإتجاهات السلفية والإخبارية المغالية. ولا شك أن بين هذا النمط من الفقيه المتشدد وبين ذلك الفقيه الذي يتماهى مع المثقف؛ توجد درجات متفاوتة يتموضع فيها الفقهاء، وأغلبهم اليوم يقع في سلّم هذه الدرجات، لكن يظل إنشدادهم المبدئي إنما هو للإعتبارات التوليدية للنص من حيث الأساس، فهو مرجعهم الأول في تحديد الدائرة المعرفية، وعليه ينشأ الفهم والتوليد تبعاً للبيان الماهوي.

ويمكن تصوير العلاقة بين المثقف والفقيه بأنها دوائر متباينة من التقارب والتباعد؛ أبعدها تلك التي إحداها لا تكاد تكون مماسة لحدود الأخرى، مثلما هو حاصل بين الفقيه المتشدد والعلماني المتطرف، أما أقربها فهو التطابق، وذلك عندما يكون المثقف فقيهاً، وكذا العكس تماماً. لكن بين هاتين المرتبتين نجد تفاوتاً وتداخلاً في سائر الدوائر الأخرى لدى كل من المثقف والفقيه؛ قرباً وبعداً. ويمكن إبراز نماذج من الرسوم البيانية لهذا التفاوت، حيث نرمز للفقيه بمربع موسوم بحرف (ف)، وللمثقف بدائرة موسومة بحرف (م)، وذلك كالتالي:

 

المثقف والفقيه وقضية الإصلاح

لا حاجة للتذكير بأن أول ما يجب أن يلتزم به كل من المثقف والفقيه هو الإيمان والتقوى، فلا جدوى من الممارسة الإجتهادية لكل منهما إن لم تتأسس على هذين الركنين الثابتين.

نعود لنقول إن الفقيه بحاجة ماسة إلى إصلاح طبيعة ما يعول عليه من مرتكزات معرفية. فهو بحاجة إلى الإعتراف بمرجعية الواقع والوجدان العقلي كمصدرين معتبرين وأساسيين في التكوين المعرفي؛ بحيث لا تقل رتبتهما في الممارسة الإجتهادية عن مرجعية النص، وذلك ليتحول نمط هذه الممارسة مما هو ذو طابع ماهوي إلى وقائعي، وأن مكوناته المعرفية بحاجة إلى الموجهات الكلية العامة من المقاصد وغيرها.

وواقع الأمر أن هذا النهج المقترح هو ذاته الذي سلكه الخطاب الإلهي، بحيث لا يمكن عزله عن تأثير الواقع، كما لا يمكن فصله عن الموجهات الكلية.

أما ما يحتاج إليه المثقف الديني فهو الوضوح المنهجي والتخصص. ففي الإطار المنهجي هو بحاجة إلى تنظيم ما يبديه من وجهات النظر بحيث يضفي عليها القوالب المنطقية والاولويات المنهجية بشكل واضح وصريح. فهو معني باضفاء الطابع المنهجي على مرتكزاته المعرفية، فهو وإن جعل نصوصه التكوينية تتمثل بالواقع، ومارس آليات النظر والتكوين بنحو من العقلائية والنقدية، كما وجعل موجهاته الكلية عبارة عن مقاصد التشريع، وكذا مولداته عبارة عن التجربة البشرية.. لكن المطلوب هو المنهجة لهذه المرجعيات للكشف عن حدودها وقوانينها؛ دون إغفال كل من الضرورة الدينية ومتطلبات الواقع. ومن ذلك أنه بحاجة إلى التخلي عن الانتقائية المعهودة والأشكال المعرفية الجاهزة، وأن يبتعد ما بوسعه عن تأثير الميول الآيديولوجية عند المعالجة المعرفية.

أما في إطار التخصص فلا شك أنه ليس من العسير على المثقف أن يسلك هذا الإطار ليضارع به الفقيه بما يقدمه من جديد معرفي ضمن الدائرة الإسلامية. ونرى أن أقرب العلوم التي تتفق مع تطلعات المثقف هو ما يطلق عليه اليوم (علم الكلام الجديد). بل يمكن القول إن هذا العلم هو نتاج المثقف. فهو من جانب يشكل ثقافة لم تبلغ حد التخصص مثلما كان عليه الكلام القديم، وأنه يبحث في الاطارات الكلية التي لها مساس بقضايا الواقع المعاصر وعلاقتها بالنص، وبالتالي فإن أغلب مضامينه تقع تحت إهتمام المثقف الديني. فالمثقف كان وما زال يمارس دوراً كلامياً من النوع الجديد، وأنه بهذا أصبح ينافس الفقيه، لكنه بحاجة إلى تحويل ثقافته الكلامية إلى علم تخصصي، مع العناية بعلم الطريقة الذي يولي إهتماماً بمناهج الفهم الإسلامي والنظر في الكليات.

موقع فهم الدين /يحيى محمد

 

 

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…