إذا نظرنا إلى الواقعية كرؤى أو مواقف ذهنية تؤمن بدور التجربة والخبرة الاجتماعية في معرفة حياة الإنسان وما يحيط به من ظواهر عبر تاريخه الطويل, فسنجد إرهاصتها الأولية لدى كثير من الشعوب, ممثلة في أقوال بعض منتجي أساطيرها أو لدى حكمائها الأولين, كما هو الحال مثلاً في رد ” أناناتبشم” على “جلجاميش” في (ملحمة جلجاميش) عندما عجز “جلجاميش” عن إيجاد سر الخلود, حيث قال له “أناناتبشم” مواسياً: (متى بيننا بيتاً دام إلى الأبد!؟, ومتى صنعنا ختماً دام إلى الأبد..!؟.). فمثل هذه المقولات الدالة على دور التجربة والخبرة في معرفة طبيعة الحياة وقوانينها, كثيراً ما نجدها في ملاحم الشعوب القديمة وأساطيرها كما أشرنا.
أما إذا نظرنا إلى الواقعية كموقف فلسفي, فيبدو أنها جاءت عبر سياقها التاريخي كرد فعل على الفلسفة المثالية التي كانت تمجد المطلق والمجرد والغيبي والجبري والمستبد, والمؤمنة بكل تياراتها بأن الواقع يأتي بعد الفكرة التي تعتبر منبع الحقيقة مهما يكن مصدر هذه الفكرة (ما وراء الطبيعة – الروح- الفطرة- البنية النفسية- العقل المجرد..الخ.), مخالفة إياها – أي الفلسفة المثالية – في نظرتها إلى العالم الخارجي والإنسان. فالفلسفة الواقعية تؤمن بالنسبي والملموس والعياني وحرية الاختيار, وأن الواقع المادي المحسوس هو مصدر الحقيقة, وأن الحواس هي أداة المعرفة, أو الوسيلة التي توصلنا إلى هذه الحقيقة.
عموماً إذا كان “أفلاطون” هو مؤسس المدرسة الفلسفية المثالية, والذي تأثر في أفكاره, أو قال بما يؤيدها, أو يقاربها فيما بعد, العديد من الفلاسفة والمفكرين الغربيين, أمثال جورج باركلي, ودافيد هيوم, وكانت, وغيرهم الكثير أيضاً ممن آمن بالتأمل العقلي واعتقد بأن عالم الفكر يسبق عالم الواقع. فإن ” أرسطو” يعتبر رائد الواقعية كتيار فلسفي, حيث جاء فيما بعد أيضاً, العديد من الفلاسفة الذين أسسوا على أفكاره , أو قالوا بما يقاربها أو شبيهاً بها, أمثال القديس توما الأكويني, وفرانسيس بيكون, وابن رشد, وابن حزم , وابن خلدون, وجون لوك, وديكارت وغيرهم الكثير من الذين كانوا واقعي النظرة, تجريبي النزعة, يقرون بأهمية الإحساس في تشكيل المعارف للوصول إلى الحقيقة, مثلما كان لمسألة الربط بين العلم والتطبيق العملي وللتربية في نظر بعضهم الدور الكبير والفاعل في إعداد الفرد لحياة سعيدة, , وبذلك جاء الواقع عند جميعهم سابقاً على الفكر.
الفلسفة الواقعية إذاً, هي التي تقر في المحصلة بأن معرفتنا بحقائق الواقع تتزايد بالاكتشاف والتحليل الموضوعي والتفسيرات العلمية, فالظواهر تسير وفق قوانين طبيعية/ موضوعية, ودور الإنسان فيها هو الكشف عن هذه القوانين والتحكم بها وتسخير آلية عملها لمصلحته.
مبادئ وأسس منهج الفلسفة الواقعية المعاصرة
في عصرنا الحاضر وأمام ما انتاب الحقيقة عموماً والفكر وتياراته على وجه الخصوص من ضياع وتهميش وتداخل تحت ظل النظام العالمي الجديد وأنظمة القهر والاستبداد في العالم الثالث, وأهمها ذاك التداخل الذي حصل لتيارات الحداثة بكل تجلياته والفلسفة العقلانية من ضمنها, مع تيارات ما بعد الحداثة, ليتشكل تياراً فكرياً هجيناً (ما بعد حداثوي), غابت فيه ملامح العقلانية والمثالية معاً, لتسود فيه رؤى فكرية يغلب عليها طابع الفوضى الفكرية, والعبث, واللامعقول, والتجزيئية, واللاأدرية, وعدم الإيمان بجدوى القيم الأخلاقية الجوهرية, والتمسك بالشكلي, والدعوى إلى النمذجة التي تحاول أن تجعل من الظاهرة وفي مقدمتها الإنسان, ذرة معزولة عن غيرها من الظواهر ليس لها لون أو طعم أو رائحة, إلا لون وطعم ورائحة ما يخدم مصالح قادة هذا النظام الكوني الجديد وأنظمة القهر والاستبداد.. الخ.
من هنا وأمام مواجهة هذه الحالة من اللامعقول, يفرض علينا المنطق والواجب تجاه (إنسانيتنا), ضرورة التمسك بما هو إيجابي, وإعادة إنتاج ما من شأنه أن يعيد إنتاج إنسانيتنا, وبخاصة الفكر التنويري بعد تنقيته من جراثيم ما بعد الحداثة والغيبية والامتثال والاستسلام والجبر, ونفض غبار الجهل عنه, وكل ما اعتراه من تفاهات فكرية هدامة وتخريبية أرادت النيل من جوهر الإنسان خلال مئات السنوات الماضية, والرغبة في استمراريةهذا الإنسان في حالات ضياعه, واغترابه واستلابه إلى وقتنا الحاضر. هذا ويأتي في مقدمة الجهود الايجابية التي يجب أن تبذل الآن من أجل إعادة الإنسان إلى جوهر إنسانيته, هي رد الاعتبار للفلسفة العقلانية, ومحاولة إغنائها برؤى فكرية جديدة تضفي عليها طابعاً أكثر عقلانية وعلمية تتناسب وتحديات المرحلة الراهنة, منطلقين من إعادة التأسيس لمبادئ وقواعد أكثر علمية وعقلانية لفلسفة واقعية معاصرة تتناسب وطبيعة التحديات المعصرة, يمكننا تحديد أهمها بالتالي:
(1) إن للظواهر قوانينها الخاصة بها والتي تتحكم بآلية عملها. وهي موجودة بشكل مستقل عن الإنسان تؤثر فيه ويؤثر فيها. وتأثيره فيها يأتي بعد ملاحظتها واكتشاف قوانينها وآلية عملها.
(2) إن الإنسان في طبيعته ليس ضرورة فحسب, بل وحرية أيضاً, وهنا تكمن استقلاليته النسبية عن الضرورة وبقية الظواهر الأخرى المحيطة به, وقدرته على التحكم فيها وتسخيرها لمصلحته.
(3) الظاهر بمجموعها ومن ضمنها الإنسان ذاته, ليست ثابتة جامدة في معطياتها, بل هي في حالة سيرورة وصيرورة دائمتين, أي هي في حالة حركة وتطور وتبدل وتشكل دائم, وهذا بالتالي ما يمنحها نسبيتها وينفي إطلاقيتها, ويؤكد أن حقيقتها تقوم دائماً على معرفة ناقصة.
(4) الفلسفة العقلانية النقدية المعاصرة لا تؤمن بوجود قوى فطرية موروثة خلقت مجردة عن تاريخ الإنسان قبل الولادة, بل تؤكد على أن الإنسان محكوم بتأثير البيئة الطبيعية والاجتماعية على تفكيره وسلوكياته, دون أن تنكر أن هناك استعدادات وراثية أولية لعبت فيها تلك الظروف الدور الأساس على وراثة الإنسان.
(5) الفلسفة الواقعية النقدية المعاصرة تؤمن بأن الفرد هو أساس الكيان الاجتماعي, وأن المجتمع ما هو إلا مجموعة الأفراد, وعليه فإن حرية الفرد لا يمكن لها أن تتحقق إلا في حالة تمتع الفرد بجميع الامتيازات والحقوق الخاصة, وهذا لا يتم إلا بانعتاق الإنسان وتخليصه من كل ما يعيق تطوره وتطور المجتمع معاً, وذلك عبر تجاوزه للكثير من المحرمات السلبية التي يفرضها المجتمع والدولة معاً على تفكيره وتصرفاته.
(6) لا تقر الفلسفة العقلانية النقدية المعاصرة بالأخلاق المعيارية المسبّقة, والتي غالباً ما تسلبه حريته وإبداعاته, وإنما تقر بنسبية الأخلاق وضرورة مواءمتها للمرحلة التاريخية المعيوشة, فهي ضد القوالب الأخلاقية والفكرية الجامدة التي غالباً ما تدخل الإنسان في عوالم (دنكوشيتية) تحد من انعتاقه ومن تطور ونمو إنسانيته.
(7) العقل الإنساني في معطيات الفلسفة العقلانية النقدية المعاصرة ليس معطىً بيولوجياً تقوم آلية عمله بشكل مستقل عن مجموع علاقات الإنسان مع المحيط الاجتماعي والطبيعي الذي يتفاعل وينشط فيه, بل هو مجموعة الرؤى والأفكار والمعارف والمهارات التي شكلها الإنسان عن طريق إدراكه وحواسه وتجربته الفردية والاجتماعية تاريخياً, وراح يرفض أو يتبنى من خلالها ما يناسبه أو ما لا يناسبه من أفكار وسلوكيات وفقاً لطبيعة المرحلة التاريخية التي يعيشها, والتي غالباً ما تفرضها طبيعة مصالحه الخاصة والعامة.
(8) تؤمن الفلسفة العقلانية النقدية المعاصرة بدور وأهمية التربية في تدريب الإنسان وإكسابه المهارات النظرية والعملية القادر من خلالها على التفاعل بإيجابية مع الواقع الذي يعيش فيه, وحالات تبدل وتطور هذا الواقع.
(9) الفلسفة العقلانية النقدية المعاصرة فلسفة ترفض تقسيم العالم بشكل تعسفي وجذري إلى مادة وصورة.. روح ومادة, فللجانب الروحي عندها أهمية في إغناء الجانب العملي, على الرغم من أن البداية للفعل, (في البدء كان الفعل كما يقول فاوست) والعكس صحيح بالنسبة لتأثير الجانب العملي على الجانب الروحي, فالعلاقة بين طرفي المعادلة جدلية, والروح عندها هي المعرفة المكتسبة بالخبرة والتجربة وما تولده لدى الإنسان من مهارات ذهنية, وإحساسات داخلية تتجلى في شعوره بالحب والكره, والجمال والقبح تجاه الظواهر التي تحيط به ويتعايش معها.
هذه هي أبرز القواعد التي ترتكز عليها الفلسفة العقلانية النقديةالمعصرة في عالمنا المعاصر برأيي, والتي تشكل المنطلقات الفكرية لكل تفكير عقلاني تنويري يرمي إلى تجاوز عقلية وثقافة الجمود والتكفير والزندقة ورفض الأخر, إضافة إلى عقلية وثقافة المجتمع الاستهلاكي بكل ما تحمله من تفرد سلبي, وعهر, وتنمية للغريزة على حساب العقل وقتل لروح الإنسان وإبداعاته, وبالتالي العمل على نمذجته.