في المفهوم:
الثقافة الشفوية في سياقها العام, هي مجموعة الآراء والأفكار والمبادئ والرؤى والقصص والحكاية والأمثال الدينية والوضعية بما تتضمنه من مواقف سلبية أو إيجابية تجاه علاقة الإنسان بنفسه أو بالمجتمع, أو كل ما يحيط به في الطبيعة والمجتمع. وهي ثقافة أُنتج معظمها في الزمن الماضي, ولم تزل تُجتر وبتداولها الناس فيما بينهم للتعبير عن قضياهم الحياتية اليومية المباشرة في الفكر والممارسة, على اعتبارها قيماً (معيارية) ناجزة استطاعت أن تختزل التجربة الإنسانية وتضبط وتوجه في عصر إنتاجها حياة الفرد والمجتمع, وهي قادرة على تحقيق هذا الضبط والتوجيه في العصور اللاحقة كونها جزء من الفردوس المفقود.
إذن, الثقافة الشفوية بتعبير آخر: هي في معظم جذرها وأصولها وامتدادها ثقافة الأجداد (الأسلاف) الذين لم يتركوا شيئاً للأخلاف إلا وقالوا به, وحددوا الحلال فيه والحرام, ومارسوا جرحهم وتعديلهم على نمط شخصياتهم السلبية منها والايجابية فكراً وممارسة , ليس لعصرهم فحسب, بل ولكل العصور اللاحقة, أي اعتبار ما قالوا به ومارسوه هو المنطلق الوجودي والمعرفي لكل ما هو تال.
قبل الدخول في سمات وخصائص هذه الثقافة, لا بد لنا من التطرق قليلاً لجذور هذه الثقافة في تاريخنا العربي, حيث نجد لهذه الثقافة جذوراً تمتد في عمق تاريخنا, وظلت فروعها وأغصانها تمتد عبر السنين اللاحقة للدعوة الإسلامية لتعرش على وعي أبناء هذه الأمة حتى اليوم. علماً أن الدعوة الإسلامية جاء في صلب ما جاءت من أجله, هو إنهاء هذه الثقافة الشفوية وتحولها من ثقافة (الفم إلى ثقافة القلم) مع أول آية نزلت على الرسول (إقرأ) من جهة أولى, ولتضع حداً لتمسك الناس بما كان يفعل آياءهم بعجره وبجره من جهة ثانية,. إلا أن قوة الماضي ممثلة بما كان يفعل آباءهم ظلت مسيطرة تحت شريعة (هكذا وجدنا آباءنا يفعلون), مع تأكيدنا للدور الذي تمارسه السلطات الاستبدادية في تاريخنا السياسي التي ساهمت في تسييد هذا النمط من الثقافة الماضوية التقديسية, بهدف تجهيل الناس والحجر على عقولهم, حيث وجدت هذه القوى المستبدة بسياسة التجهيل هذه سر بقائها واستمراريتها في السلطة. الأمر الذي دفع هذه السلطة عبر تاريخها إلى محاربة الثقافات الإبداعية التي وجدت فيها خطراً يهدد مصالحها إن كان أثناء قيام الدعوة الإسلامية من قبل كبار كفار مكة, أو من قبل الكثير من الخلفاء ومشايخ السلطان عبر تاريخ الدولة الإسلامية حتى تاريخ دولنا المعاصرة. كما سيمر معنا في هذه الدراسة.
الجذور التاريخية للثقافة الشفوية في تاريخنا العربي:
(وبعث في الأميين رسولاً منهم).. وهذا دليل قاطع على أن العرب في الجزيرة العربية على أقل تقدير لم يكونا أصحاب كتاب, أي كانوا مجتمعاً قبلياً جاهلاً (لم تتفش) فيه معرفة القراءة والكتابة ما يتعلق بالثقافة الإبداعية القائمة على القلم والكتاب والتفكير والتحليل والتركيب, ومن يجيدونها كانوا قلة قليلة, وهم على اطلاع بهذا الشكل أو ذاك على كتب الديانتين اليهودية والمسيحية كما يبدو كالراهب “بحيرة” وغيره القليل أو النادر ممن كان يكتب المعلقات ويعلقها على جدار الكعبة, وما تبقى من الذين اشتغلوا على المعرفة كان يشتغلون عليها شفهياً, وفي مجالات محدودة تتعلق بأخبار الأولين وأساطيرهم, وبالنسب والحسب, كالراوية (ابن جماد) على سبيل المثال لا الحصر. لذلك كانت هناك إشكالية كبيرة بالنسبة لتاريخ العرب والإسلام فيما يتعلق بمصداقية أو عدم مصداقية ما نقل إلينا من أخبار وصلتنا عبر التراسل الشفوي عن طريق هؤلاء الرواة حتى عصر التدوين الذي تم تحت عين السلطة الحاكمة بزمن الخليفة “المنصور” (136- 158 هـ), حيث يذكر السيوطي نقلاً عن الذهبي أنه في سنة 143 للهجرة, أشرع علماء الإسلام في هذا العصر بتدوين الحديث والفقه والتفسير, فصنف ابن جريج بمكة, ومالك (الموطأ) في المدينة, والأوازعي في الشام, وحماد بن سلمة في البصرة, وسفيان الثوري في الكوفة, وصنف ابن اسحق المغازي, وابن حنيفة الفقه والموقف من الرأي, .. ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس,([1]) .
نعود لنقول: إن الثقافة الشفوية قبل عصر التدوين انعكست أثارها سلباً على حياة العرب والمسلمين سياسياً وعقديا واجتماعيا, بسبب ما جرى من تزوير وسوء تفسير وتأويل وأسباب تنزيل للنص الديني المقدس بشكل خاص خدمة لمصالح شخصية أو سياسية أو مذهبية, طال أكثر ما طال أحاديث الرسول التي لم تزل آثارها قائمة حتى هذا التاريخ.
عموماً نستطيع القول عن هذه الجذور الثقافية الشفهية وتأثيرها على حياة العرب والمسلمين, وخاصة ما يتعلق منها بتاريخ العرب بكل مضامينه العقدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية, منذ بدء الدعوة الإسلامية, حتى هذا التاريخ بشكل خاص: إن الرسول نفسه لم يأمر بجمع القرآن قبل وفاته, حيث ظلت الآيات سائبة وموزعة بين صدور بعض الصحابة, وبين ما كتب منها على الجلد والعظم وورق البردي وعظام الجمال والحجارة وغير ذلك.. نعم لقد ظل القرآن دون جمع وبتداوله الناس شفهياً لمدة /43/ عاماً حتى أمر عثمان بجمعه وتقعيده. علماً أن مسالة جمع القرآن شابها الكثير من الغموض والشك, ما بين مصادر تقول بأن أبو بكر هو من أمر بجمعه, والبعض يقول عمر بن الخطاب هو من جمعه, وآخرون يقولون الذي جمعه هوعلي بن أبي طالب, وهناك من يقول بمصحف فاطمة, و مصحف حفصة, وأن مصحف حفصه هو المصحف المعتمد حتى هذا التاريخ.. إلخ, مع تأكيدنا أن القرآن عندما جمع, ظلت إشكالات أخرى متعلقة في قراءة النص الديني منها: لعدم وجود تنقيط , وبالتالي عدم التمييز بين الـ (ن- ت- ث و ج- ح- خ ) إلخ. وهناك أيضاً غياب لعلامات الترقيم, ومعرفة حالات الوقوف عند القراءة, وغياب للكسرة والضمة والفتحة والشدة, كل ذلك ساهم في خلق قراءات كثيرة للقرآن, حيث كان يقرأ على عشرة قراءة, ثم اختصرت إلى سبعة, أما الحديث, فالرسول الكريم أيضاً لم يأمر بكتابته ولا أقول جمعه, حيت اعتبر الرسول أن كل ما يقوله أو يمارسه هو من روح القرآن الكريم, ولا يريد لأمته أن تأخذ دينها من غير القرآن, إلا أن الذي حدث, أن الأحاديث راحت توضع وتسيل بمئات الألوف, وأخذ الناس يتداولون معظمها شفهياً بينهم عبر التاريخ, بالرغم من أن هناك علماً خاصاً بالحديث وضع فيما بعد مع مرحلة عصر التدوين منذ منتصف القرن الثاني للهجرة, لتقصي الصحيح من الكاذب في هذه الأحاديث, وهذه بادرة تسجل لعلماء الحديث حقيقة. بالرغم أيضاً من الموقف المذهبي الذي سيطر على صحة ما نقله أو رواه هذا الشخص أو ذاك من أحاديث بغض النظر عن متن الحديث وصحته. وما وضعت كتب الجرح والتعديل إلا من أجل ذلك ومن منطلق مذهبي.
إذن, إن أهم مصادر المعرفة في تاريخ العرب, وهي العقيدة المقدسة, ظل التداول فيها شفهياً بين الناس لفترة زمنية طويلة, واقتصرت قراءة وتفسير وتأويل وضبط هذه العقيدة من قبل القلة القليلة أيضاً من الفقهاء وعلماء اللغة, والذين غالباً ما دخل القسم الأكبر منهم وخاصة الفقهاء وكتبة التاريخ عباءة السلطة, حيث راحت توظف هذه العقيدة وسيرة رجالها (كتابة أو تدوين الحديث. وتفسير وتأويل النص القرآني, وكتابة التاريخ) لمصالح هذه السلطة السياسة أو تلك. وظل (التاريخ) مثلاً عند من راح يدونه, هو تاريخ السلطة, أو تاريخ الخلفاء والأمراء والملوك.
إن الملفت للنظر هنا, أنه, مع بداية التدوين, في منتصف القرن الثاني للهجرة, وظهور رجال النحو واللغة’ ظل الجانب الشفهي يمارس قوته على النحات ورجال النحو أنفسهم بشكل خاص, حيث كانوا يلجأؤون إلى الصحراء لأخذا صحة دلالات الكثير من الألفاظ وطريقة لفظها كما ينطق بها ابن الصحراء آنذاك, واعتبار ما ينطقه هذا البدوي هو الصحيح. كما أن كل من قام بتدوين السيير والمغازي وأخبار العرب في بداية الدعوة وفتوحاتها, اعتمدوا على الأخبار الشفهية والرواة والتراسل, لذلك يقول ابن حنبل : (إن من حضروا المغازي وأسباب نزول القرآن قد ماتوا). وهذا القول فيه تشكيك في مسألة صحة أو عدم صحة ما كتب في المغازي وحتى أسباب النزول.
نقول: مع عصر التدوين, أي منذ منتصف القرن الثاني للهجرة بدأ القلم يأخذ دوره عند الكثير من علماء الدين والفلاسفة , وخاصة في مجالي التفسير والتأويل للنص المقدس, ومع القرن الثالث للهجرة بدأت سيطرة التيار العقلاني على الساحة الثقافية, فراحت تترجم كتب الفلسفة من التراث اليوناني, وخاصة في عصر المأمون الذي أصدر مرسوماً عند توليه الخلافة أمر فيه تبني العقل وسيلة في فهم الدين وشرح نصوصه المقدسة, حتى راح هو نفسه يتكلم في مسألة خلق القرآن ويرد على أهل النقل الذين يقولون أنه كلام الله. وظل باب العقل والثقافة الإبداعية مفتوحاً إلى زمن المعتصم والمتوكل. ولكن مع وصول (الواثق) إلى الخلافة, بدأ المشروع الفكري العقلاني يُحارب من جديد ويتراجع مع إصدار مرسومً من قبل الخليفة المتوكل يُحرم فيه استخدام العقل في المعرفة, وأن كل من يستخدمه هو كافر وزنديق ويجب أن يحاسب على فعلته, وأُخرج شيخ النقل ابن حنبل من سجنه, وتشكلت محاكم للتفتيش لكل من يتداول كتب الفلسفة أو يشتغل عليها, أو يقول بالعقل وحرية الإرادة. بيد أن هناك مراحل تاريخية لاحقة تم فيها تنشيط الجانب العقلاني في الثقافة الإبداعية, إلا أنها محدودة كما هو الحال عند وصول البويهيين إلى السلطة في منتصف القرن الربع للهجرة, حيث راحت تنشط حركة الفكر الفلسفي والاشتغال عقلياً على قضايا تفسير العقيدة وربطها بالعلم الوضعي, كما هو الحال عند ابن سينا والفارابي والكندي وإخوان الصفا, وغيرهم الكثير, حتى رحنا نجد مؤلفات فيما يسمى اليوم بعلم “لأنتروبولوجيا” وهي دراسات ظهر فيها الجانب العقلاني والتنويري واضحاً من خلال دراستها لحياة الإنسان وعلاقته بالبيئة وما تتضمنه من دراسات في علم النبات والحيوان, كما درسوا قضايا تختص بمسألة العقيدة والبعث ويوم الحساب وغير ذلك, هادفين من ذلك استخدام ثقافة القلم – العقل – في الخطاب الإسلامي وإظهار أن الدين ليس ضد العلم والتعلم وتسخير العقل. كما ظهر هذا التوجه الفكري فيما بعد في المغرب العربي, وظهر هناك عمالقة الفكر العقلاني كابن رشد وابن حزم وابن خلدون وغيرهم, إلا أن هؤلاء لم يسلموا أو تسلم كتبهم أيضا من سلطة التيار السلفي, ففي عهد ” هشام بن الحكم” الذي استأثر بسلطانه حاجبه “المنصور بن ابي عامر” , المتوفى 393هـ, وهو الذي عمد إلى مكتبة والد هشام الحكم, وعزل عنها كل كتب الفلسفة والمنطق والنحو وحرقها أمام أهل العلم والدين. وفي عهد “يوسف بن تاشفين” حارب الفلاسفة و حرق كتبهم, وقرب منه السلفيين المتشددون. وهذا الموقف المعادي للعقل ظل سائداً بعد سيطرة المماليك والعثمانيين على الخلافة, , وما كتاب أبي حامد الغزالي “تهافت التهافت” إلا رداً على هؤلاء الفلاسفة والعقلانيين وهو الكتاب الذي رد عليه ابن رشد بكتاب تحت عنوان “تهافت التهافت”. هذا وحتى كتب ومواقف المتصوفة الكبار الذين قالوا بوحدة الوجود, لم يسلموا على حياتهم من أصحاب هذا التيار السلفي ومنهم الحلاج والسهروردي وذو النون وغيرهم.
عموماً يظل موقف ابن حنبل ومدرسته السلفية بكل امتداداتها التاريخية إلى اليوم هو الأكثر سيادة وفعالية, وهو المنظر الأكثر حضوراً وقوة في محاربة هذا الفكر العقلاني, وتركيزه على النقل بدل العقل, وما تأكيده على أن الحديث الضعيف عنده أهم من العقل, إلا دليلاً على فرض وتجذير تيار الثقافة الشفهية, واعتبارها المصدر الأول للمعرفة, إي اعتماد ثقافة الفم بدلاً من القلم, وبالتالي مع هذه الثقافة التدميرية أوقف باب الاجتهاد وتحريك العقل, وظل ما أنتجه ابن حنبل والشافعي والمالكي والحنفي, أي (تيار أهل السنة والحديث), وكذلك ما أنتجه أهل البيت وفقهائه في مجال الفقه والموقف من الدين والدنيا هو المصدر الرئيس,الذي ظل يحكم الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية حتى اليوم في الكثير من الدول الإسلامية التي تتبع المذهب السني والشيعي معاً.
مع انتهاء الخلافة الإسلامية وبدء ظهور الأحزاب السياسية المعاصرة, كالإخوان المسلمين, والقوى القومية واليسارية, بدأت تظهر الأيديولوجيات الوضعية الخاصة بها, والتي راح يُضفى عليها مع كلمات وخطب وأقوال قادة هذه الأحزاب, أو أقوال الملك أو الأمير الرئيس صفة التقديس, وتحولت إلى نمط من الثقافة الشفوية نستطيع تسميتها بـ (فقه القائد). أي تحول فقه القائد في طريقة تناوله واستهلاكه من قبل عناصر الحزب والمنظمات التابعة لها, أو من قبل الخطباء السياسين ومثقفي السلطة, إلى مواد تثقيفية تدخل في نطاق الثقافة الشفوية, التي تُتلى عليهم في اجتماعاتهم ومؤتمراتهم الحزبية والنقابية وندواتهم الثقافية وكلمات وخطب سياسيهم, من خلال الاستشهاد بها, كأقوال ورؤى لا يأتيها الباطل من فوقها أو تحتها لدى الكثير من عناصر تنظيم هذه الأحزاب ومسؤولي هذه الدولة اوتلك. هذا إضافة إلى ظهور الكثير من الكراسات التي تعمل عل تفسير وتحليل هذه الأيديولوجيات الوضعية وما يصرح به قادة هذه الأحزاب والملوك والمراء والرؤساء, حتى أخذت مع الأيام حالة الثبات والجمود والتقديس. وكان من نتائج هذا التحجر انهيار الكثير من هذه الأحزاب وأيديولوجياتها في الساحة العربية, ومن لم ينهار تبين عجزه الفاضح في التعامل مع ما سمي بثورات الربيع العربي فكراً وممارسة. هذا العجز الذي تجلى واضحاً لدى المعارضة والموالاة معاً.
سمات وخصائص الثقافة الشفهية:
تمتاز الثقافة الشفهية بجموعه من السمات والخصائص أهمها:
(1) هي ثقافة ماضوية, أنتجت في الزمن الماضي في معظمها, وغالباً ما يطغى عليها الطابع الديني في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية, كون الدين كان ولم يزل هو المصدر الوحيد للمعرفة, وحتى الثقافات الوضعية التي أنتجت في ذلك الوقت وخاصة الفلسفية منها إضافة إلى علوم الطب والكيمياء والتنجيم وغيرها, ظلت محكومة بالدين أيضاً, وهو الذي يحلل ويحرم التعامل مع هذه الظاهرة العلمية أو تلك.
(2) هي ثقافة جماهيرية, أو بتعبير آخر, هي ثقافة ظل يعاد إنتاجها واستهلاكها من قبل الجماهير الواسعة, فغالباً ما تجد الناس في كافة مفردات حياتهم اليومية يستشهدون بمقولاتها وقصصها وحكاياها وأمثالها الشعبية, خدمة لمصالحهم اليومية المباشرة, أو لإعطاء الفكرة التي يقولون بها أو العمل الذي يمارسونه المصداقية والشرعية, في المنزل والسوق والجامع والدائرة وغير ذلك من أماكن تواجدهم.
(3) هي ثقافة تعتمد كثيراً على إيراد نص قرآني او حديث أو رأي صحابي او فقيه, إضافة إلى إيراد قصص وحكاية الصحابة والتابعين وتابعي التابعين, كونها الأكثر قدرة على غرس المعلومة المراد توصيلها للمستمع, لذلك لا نستغرب أن نجد أحد مشايخ الدين يقول: إن القصص والحكاية جنود مجندة سخرها الله لنا كي نعلم بها الناس الدين.
(4) هي ثقافة تركز كثيراً على القيم الأخلاقية, وخاصة قيم السلف الصالح, الذين أسسوا بناء الدولة الإسلامية وحضارتها. وبالتالي هذه القيم تشكل الفردوس المفقود بعد أن راحت تتخلى عنها الأجيال اللاحقة, أو تجاوزه الزمن. وإذا أرادت هذه الأمة أن تعود لمجدها وعزتها, فهي لن تعود إلا إذا عادت إلى القيم الأخلاقية تلك, (ولن يُصلح حال هذه الأمة بعد أن فسد أمرها إلا بما صلح به أولها.).
(5) حازت هذه الثقافة على صفة التقديس, كون معظم مكوناتها مرتبط بالدين, وأكثر من أسس لها هم رجال الدين الذين ضبطوا علم الجرح والتعديل الذي وضعوه لتحديد ما هو غث وما هو سمين في هذه الثقافة, وبالتالي فكل خروج عن سمينه أو صحيحه هو بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
(6) هي ثقافة تقوم على التراسل (العنعنة), كون أصلها شفهي, وخاصة ما يتعلق منها في الحديث النبوي وأقوال الأئمة.
(7) هي ثقافة تحاصر الإبداع والمبدعين, الذين يريدون التجديد في علوم الدين والدنيا, وبالتالي يعتبر هؤلاء المجددون بنظر دعاة هذه الثقافة منحرفين إذا ما حاولوا طرح أفكار لا تتفق مع ما هو ثابت ووثوقي في هذه الثقافة, إن كان لدى المذاهب أو الفرق الدينية, أو لدى الأحزاب ذات الأيديولوجيات الوضعية.
(8) هي ثقافة تعالج تناقضات المجتمع وصراعاته الطبقية القائمة على الاستغلال, من منظور أخلاقي, يقوم على وجود الضمير والوجدان لدى هذا الفرد أو الجماعة, عندما يمارس أو يمارسون عملاً صالحاً, والعكس صحيح. فهم يطالبون الأفراد والمجتمع بضرورة التمسك بأخلاق التضحية ونكران الذات والإثار والمحبة والتسامح, كما مارسها السلف الصالح الذين حققوا بها العدالة والمساواة بين الناس كما يدعون, وغالباً ما يتخذون من بعض الرموز الدينية قدوة للحاكم والرعية أيضاً في نشر العدل بين الناس, دون أن يضعوا في حساباتهم خصوصيات كل مرحلة تاريخية من حيث ظروفها الموضوعية والذاتية ومكوناتها الاجتماعية وحدودها الجغرافية, ودرجة تطور المجتمع فيها أو تخلفه.
(9) هي ثقافة تدعو إلى التسليم والامتثال لكل ما أنتج من معارف أقرها السلف في القرون الهجرية الثلاثة الأولى, أو ما جاء في فقه (القائد) في الأنظمة السياسية المعاصرة, وبالتالي هي تعمل على محاربت الحرية الفردية والإرادة الإنسانية والرأي الآخر.
(10) هي ثقافة ذات توجهات أيديولوجية مغلقة, تعتبر الحقيقة قد أعطيت في الزمن الماضي مرة واحدة وإلى الأبد, وعلينا أن نعمل دائماً على إعادة إنتاجه, ولي عنق الواقع كي ينسجم معها. وهي ثقافة ضد النسبية والحركة والتطور والتبدل.
على عموماً نقول في هذا الاتجاه بالنسبة للثقافة الشفوية, هي ثقافة فرضت عبر تلك السنين الطويلة من سيادتها العقل الإيماني على المواطن العربي, بحيث لم يزل النص المقدس ممثلاً بـ (القرآن والحديث, وأقوال الأئمة والفقهاء وكبار مشايخ السلفية والقادة السياسيين المعاصرين), يشكل المرجع المعرفي والسلوكي للفرد والمجتمع, أي هو الحكم أو المعيار على أقوال الناس وسلوكياتهم وبالتالي استغلاله والاحتماء به دوماً. إضافة لاستغلال الخوارق والخرافة, ومواجهة العلم والانتقال من الخاص إلى العام في التعاطي مع أحداث التاريخ والواقع, والانخراط بالموروث, والمحافظة على الشكليات, والتمسح بالرحمة والتسامح, وعند الضرورة أو عندما تسنح الفرصة التمسك بالجهاد انطلاقا من التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا ما ساهم في خلق حالات من الفوضى الفقهية في مسألة الوجوب والإباحة, وبين المعرفة والإباحة, ففي كلا الحالات نجد النص (المقدس) وأقوال الأئمة وفقه القائد سيد الموقف في الحكم أو التبرير, مع غياب فاضح للضبط المنهجي وللر أي الآخر, وبالتالي وجود سيولة وتسيب عقلي تجدهما غالباً في الحكم على الشيئي الواحد بالإباحة أو التحريم عند فقهاء العقل الشفوي.
الثقافة الشفوية والسلطة:
ظلت السياسة في تاريخ الدولة العربية الإسلامية تتحكم في المسألة الثقافية, وقد أشرنا في موقع سابق إلى مرسوم الخليفة المأمون في الدعوة إلى تبني العقل في الخطاب الثقافي, وإلى مرسوم الخليفة الواثق في تحريم استخدام العقل والاعتماد على النقل في هذا الخطاب, وقد عاني الكثير من رجال الفكر المهتمين في قضايا الدين والدنيا من توابع هذين المرسومين في عصرهما وكل العصور اللاحقة حتى تاريخه. حتى رحنا نجد في الفكر السلفي تيار قائم بذاته يعمل على تبرير فساد السلطة وضرورة الحفاظ عليها وعدم الاعتراض أو الاحتجاج على أوامرها, وهو التيار المدخلي, هذا التيار الذي شكل الحصن الحصين لاستمرا السلطات الفاسدة باسم الدين منذ العصور الوسطى حتى اليوم.
إن السلفية المدخلية لا تختلف في نهجها حقيقة عن كل التيارات السلفية الأخرى, فهي التي تطالب بعدم الخروج على الحاكم المسلم أو معارضته وإن كان فاسقاً, ولا إبداء الرأي والنصيحة له في العلن, ويعتبرون ذلك أصلاً من أصول العقيدة عند أهل السنة والجماعة, وهذا ما يقول به ابن حنبل : (فإن من غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخرة أن يبيت ولا يراه إماماً عليه براً كان او فاجراً, فهو امير المؤمنين.)|([2]). أما الباقلاني فيقول: ( إن الإمام لايخلع لفسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود.).([3]). وعلى هذه المواقف الفقهية (المقدسة) تجاه السلطة, نجد هذا التيار السلفي في صيغته المعاصرة يقول : إن الاعتراف بالحاكم المسلم والولاء له لا يكفي إذا لم يتم الاعتراف بمؤسسات الدولة الأخرى, مثل منصب المفتي مثلاً والمؤسسات الدينية, ممثلة بالأزهر أو وزارات الأوقاف. وعدم الخروج على فتاوى هذه المؤسسات وعلمائها الرسميين. كما يعتبر هذا التيار أن الجماعة المسلمة هي الدولة والسلطان, لذلك تشن هجوماً حاداً على الجماعات الإسلامية المعارضة للسلطة الحاكمة وتعتبرها خارجة عن الجماعة ومفرقة لصفها, فمحاربتها هي للحفاظ على وحدة الأمة, أي الدولة وسلطتها.
إذن بهذا الموقف السلفي الرجعي ألامتثالي, فرضت السلطة فرضاً على الناس, وفرض معها الثقافة الشفوية الاستسلامية الامتثالية بإسم الدين. وبهذه الثقافة أقصي الفكر العقلاني الإبداعي وثقافته القادرة على بناء الفرد والمجتمع بناء عقلانيا عبر تاريخ الدولة العربية الإسلامية , وتاريخ دولها المعاصرة اليوم
الثقافة الفردية الإبداعية:
إن ما يقابل الثقافة الشفهية الامتثالية المحاربة للعقل وحرية الإنسان, هناك الثقافة الفردية الإبداعية التي تشكل العتلة النهضوية لتسييد هذا العقل وهذه الإرادة, فمن خلال هذه الثقافة الإبداعية ومنتجيها وحامليها ومروجيها ومستهلكيها, التي ضحى قسم كبير منهم براحته وسعادته , بل حتى بحياته من أجل الحقيقة وتطبيقاتها في حياة الإنسان, قامت الثقافة المعبرة عن القيم الإنسانية النبيلة بكل مفرداتها في الماضي والحاضر, وسيظل أمرها في المستقبل أيضاً. فلولا هذه الثقافة الإبداعية العقلانية, لما كان هناك تطور في حياة الإنسان ولما وصلت المجتمعات إلى ما نحن فيه اليوم من علم على كافة مستوياته. كم كان لسقراط وكوبرنيك وغاليلو وهارفي وابن رشد, وابن سينا وجابر بن حيان والفارابي, ولعلماء الذرة والميكانيك وعلم الاجتماع والفضاء والزراعة وغيرها من علوم, كان للفرد المبدع فيها الدور الكبير في صيرورة هذه الحياة وسيرورة تقدمها؟. نعم أنها ثقافة العقل والقلم مقابل ثقافة الفم والنقل.. إنها ثقافة الحياة مقابل ثقافة الموت .
سمات وخصائص الثقافة الفردية الإبداعية:
(1) هي في سياقها العام ثقافة إبداعية, مستقلة إلى حد بعيد عن السلطات الحاكمة, ومناقضة للثقافة الشفهية, كونها تعتمد كثيراً على القلم والعقل.
(2) هي ثقافة حرة أيضاً كونها غير مقيدة بأيديولوجيا, وإن تقيدت في أية أيديولوجية, فهي تعمل دائماً على جعل هذه الأيديولوجيا وعياً مطابقاً يجب أن تنسجم دائماً مع خصوصيات الواقع دون الخضوع له كلياً, وإنما بمساحة الحرية التي تمتلكها, قادرة على إنتاج فكر تقدمي عقلاني يعمل على تطوير الواقع وتنميته. لذلك هي ثقافة تجديدية تنويرية ضد الثبات والإطلاق والتجهيل.. أي هي تؤمن بالنسبية وتعتمد كلياً على العقل النقدي.
(3) هي ثقافة تؤمن بالعلمانية, وتعتبر الدين مكون أساسي من مكونات الثقافة والحضارة معاً, وله دوره في تربية أفراد المجتمع على قيم الفضيلة التي ينادي بها, ولكن يجب أن لا يدخل الدين في السياسة, فالدين لله والوطن للجميع, هذا إضافة لكونها في هذا الاتجاه العلماني أيضاً, تؤمن بأن الإنسان سيد نفسه وهو وحده القادر على تحديد مشاكله وتحقيق مصيره, إنها ثقافة ترفض تقديس الأشياء إذا ما تحول هذا المقدس إلى النيل من حرية الإنسان والحجر على عقله وفقده لجوهر إنسانيته.
(4) هي ثقافة تؤمن بالديمقراطية كحل لخلق توازنات في المجتمع في كل مستوياته, فعلى المستوى الاجتماعي تحقيق المساواة بين الذكر والأنثى, و على مستوى الاقتصاد تحقيق الثروة الوطنية بشكل عادل بين أفراد المجتمع, وعلى مستوى السياسية تحقيق المشاركة الشعبية في إدارة الدولة, والتعددية وتداول السلطة. وعلى المستوى الثقافي العمل على نشر وتعميق وتجذير ثقافة التنوير والعقل, وما تتضمنه هذه الثقافة من تأكيد على العدل والمساواة واحترام الرأي والرأي الأخر وحرية الإعلام.
(5) هي ثقافة تعتمد كلياً على المناهج العلمية في البحث وتقويم الظواهر, وبالتالي هي ضد التقويم العاطفي والوجداني للظواهر, أي هي ضد الذاتية المفرطة والارتجال والمواقف المسبقة والكسل العقلي. وبالتالي هي مع الفهم الجدلي والتاريخي للظواهر, أي هي تؤمن بالحركة والتطور والتبدل, مثلما تؤمن بالعلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون والجزء والكل والداخل والخارج, وأن أحوال الناس تتغير وتتبدل كما يقول ابن خلدون بتبدل نحلتهم من المعاش.
د.عدنان عويّد كاتب وباحث من سورية