(*) ” من حق المواطن أن يتساءل: ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصلة، إذا كانوا هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر؟”
الملك محمد السادس ، خطاب العرش 2017
(*) ألكسيس دو توكفيل : « انتبهوا، لقد تحركت رياح التمرد ، أفلا تشعرون؟ »
يعرف الذين تابعوا كتابات وسيرة صاحب كتاب »الديمقراطية في أمريكا» ، أن المنظر الكبير ألكسيس دو توكفيل أطلق رسالة صريحة قبل التمرد الكبير في فرنسا في 1848، من على منبر الجمعية الوطنية – البرلمان – وسمى الأشياء بمسمياتها عندما قال:« انتبهوا، لقد تحركت رياح التمرد، أفلا تشعرون؟»…
يومها، لم يشعر جزء كبير من النخبة في فرنسا القرون الماضية بتلك الرياح، وواصلت اجتماعاتها الروتينية والمتشابهة ، إلى أن كان ما كان..
يتذكر الإنسان بالرغم من أنفه هذه القصة، وهو يتابع الاحتقان الوطني العام، وأشكال الاحتجاج التي تتوالى، بشكل صحي أحيانا، وبشكل يستوجب إخراج الترسانات الكبرى، في اللغة وفي آلات المواجهة..أحيانا أخرى.
وفي ذلك يثبت بما لا يدع مجالا لأي جدل ممكن، أننا نحن نعيش مع الأعراض ونفكر فيها ونتباحث حولها، أكثر مما نعالج الأعماق..
ما وقع أمام البرلمان المغربي مع الوزير لحسن الداودي، الذي انتهى بطلب الإعفاء، لا يقف عند تشابه المؤسسات:برلمان هنا وبرلمان هناك..
الإعفاء، هو خامس إعفاء بعد الوزراء الذين أطاحت بهم ملفات الحسيمة..
وبذلك هو السلسلة الثانية من فصل واحد في زمن الزلزال إياه، والذي لم يقدم بعد كل ما فيه.…
والإعفاء، هو أيضا خلاصة دخول الواقعي في الافتراضي، والافتراضي في الواقعي، بشيء من الجدلية التي تجعلهما معا يؤديان إلى التغيير السياسي، وتثبيت تقليد لم يكن يحدث في السابق: الوقوع من المنصب الحكومي لأسباب تتعلق بسوء حالة البلاد!
والإعفاء أيضا، أمر أكبر من علبة دانون.
كما كان حراك الريف العميق أكبر من سمكة سردين..
والحراك في جرادة أكبر من كيس من الفحم.
وليس هناك ما يدل على أننا نملك الإنصات إلى ما يقال
حتى ولو كان ذلك التنبيه التوكفيلي صادرا عن….. ملك البلاد نفسه!
قبل الزلزال ، كان قد تحدث عن الاحتقان
وانعدام الثقة
والفقر
واللامسؤولية
والابتعاد عن الصالح العام
والحروب الدسيسة في أركان المؤسسات التي تشكل مجتمعة ما نسميه الدولة….
هناك صمم مزمن ومع سبق الإصرار والترصد..
هناك هوة سحيقة تتزايد بين الفوق والتحت ..
بين الأعلى وبين الأسفل..
هناك تشققات تندلع من بين ثناياها حمم بركان صغيرة
على قدر التوجسات التي تطبع البلاد..تخبرنا بأن الطبقة السياسية لا تختلف عن طبقة الأرض، التي تكون فيها الزلازل أو البراكين ثاوية، في صمت التوجسات التي نحس بها..
وهي طبقة مع كل عناوين التردد والعجز، تبدو قادرة على »امتصاص« الزلازل!
وبناؤها له قدرة كبيرة على مقاومة.. الزلازل!
دوتوكفيل، وصف هذا الذي يحدث أمامنا، عندما تحدث إلى نخبة فرنسا ما قبل التمرد العام، ، بالهوة بين الشعب والنخبة،بين العماء السيادي للنخبة والطبقة التي تحكم قبضتها عليه بدون أن تحكم مستقبله!
وبين التبصر اليائس لشعب يتحرق بين ضلوعه التي أصبحت قضبانا..
دوتوكفيل قال لنا إن المشكلة :لا تكمن في بروز هذا الشخص أو ذاك»! بل في « وجود فئة سياسية وطبقة تحكم، وهي تجمع بين يديها النفوذ والجاه والسلطة، وتحتكر كل الحياة السياسية… فيما نجد اللاشيء في الأسفل».
تجولوا من اليمين اليمين إلى اليمين الجنين..
و انظروا إلى الخطأ وهو يتضاعف، كلما انسلخنا عن هذه اللوحة، وبحثنا في البعيد عن الظلال..
إذا سلطنا الأضواء على الأعراض
وتركنا المسببات..
نشير إلى الغاضبين وننسى أن المشكلة الحالية، هي العجز الواضح لنظام سياسي، أمام أجيال عفوية
قلقة على حياتها التي تتأجل كل يوم..ننسى أن اختيار الهجوم، المرن واللين تحت غطاء الدعوات العاطفية، يشير إلى تحميل المسؤولية للغاضبين وليس المغضوب عليهم..
والواقع أن عدم الثقة السحيق الذي يشعر به المغربي اليوم لا حد له..
عبر عنه الملك نفسه قبل سنة، وكان من الممكن أن يتحول إلى جدول أعمال سياسي
غير أنه تحول إلى جدل أعمال…!
هناك تعارض قيمي بين الاحتقار والاحتقان
شعب لا خيار له سوى أن يختار بين
الاحتقار – الذي تواجَهُ به تعبيراته العفوية والمفكَّر بها، ولعل أسوأها البحثُ عن مؤامرة ما وراء غضبه -
وبين الاحتقان، الذي يستنزفه هو أولا،
قبل الذين يوجه ضدهم..
وقد أعلن المغاربة أنهم يرفضون الاحتقار
والإهانة..كما تراءت لهم في الاستعراض الفاجر للسلطة ، وفي تعبيرات المسؤولين، وفي التحديات والتعريفات والمفردات المستعملة..
لقد بينت التوترات التي عبرت المغرب منذ عشر سنوات، أننا أمام تحولات كبرى
لكن بينت عن عجز في الخيال السياسي.. اللهم إلا في البحث عن معادلات
قصيرة المدى..
الحقيقة القائمة أننا لم نوسع خيالنا كطبقة سياسية، بما يجعلنا قادرين على خطوة باتجاه الفئات الواسعة..
دو توكفيل الراوي قال: هناك الآن طبقة صغيرة وطبقة واسعة مترامية الأطراف، كل تسير في اتجاه.. بعيدا عن الأخرى…
علما بأن ذلك لا يمنع الاصطدام بينهما!