في الآونة الأخيرة، جرى البحث في الإعلام بأنواعه ليس فقط عن الثقافة في ذاتها بل أيضاً عن علاقاتها بالدين والسياسة. والأقل بحثاً عن وظيفتها في التبرير أو النقد، في اعتبارها جزءاً من الدين أم في استقلالها المنهجي، في الجدل والرفض المتبادل أم في الحوار، في وجهة النظر الأخرى أم في الاتجاه المخالف. فكل ثقافة تحتوي على نقيضين، الرأي وضده. فإذا ما وصل أنصار ثقافة للحكم جعلوا مهمتها الرئيسة التخلص من الثقافة الأخرى، أحياناً عبر إعدامها وإحراقها وكأننا نعيش عصر ابن رشد وإحراق كتب الفلسفة. وإذا كان فريق في السلطة اعتبر الآخر خصماً، وإذ تحولت السلطة منه إلى الفريق الآخر عادى الفريق الأول منتقماً: نفعل بكم مثلما فعلتم بنا. وهذا ما حدث ويحدث في العديد من الأقطار العربية، حيث تسير الثقافة على ساق واحدة، فإذا تعبت تحولت للاعتماد على الساق الأخرى.. وخلال ذلك ترى الدولُ رؤية العالمَ بعين واحدة، ثم تغلقها كي ترى العالم بالعين الأخرى. وتتنفس برئة واحدة، ثم تخنقها كي تتنفس وتعيش بالرئة الأخرى.
ويمكن تفسير الأحداث على ذلك النحو منذ حقبة موسى عليه السلام وحتى عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. وربما من هنا نشأ الصراع بين فريقين، الإسلاميون والعلمانيون، السلفيون والمدنيون.. الأول يتنفس برئة واحدة هي التراث أو الماضي، والثاني يتنفس برئة واحدة أيضاً هي الليبرالية أو الحداثة.
إن انقسام الحياة الثقافية إلى تيارين متقاتلين، إسلاميين وعلمانيين، سلفيين وحداثيين، قدماء ومحدثين.. هي من الأسباب الرئيسة للضعف. إنها الثنائيات التي تملؤ حياة العرب الثقافية. والعلاقة بين الطرفين هي علاقة رأسية وليست علاقة أفقية أو تكاملية، علاقة علو وليست علاقة تقدم. لذلك من السهل أن يسيطر أحدهما على الثاني، فتنشأ لدينا مشكلة عدم تساوي الأطراف، سيادة الرجل على المرأة، الروح على البدن. ومن هنا تنشأ سيادة طرف واحد على العالم كما يفعل «سي السيد» مع «أمينة» في الثلاثية، كما ينشأ مجتمع القسوة والثأر والانتقام. الثقافة الأخرى ليست هي الثقافة التي يجب التطهير منها، ولا هي الاتجاه المناقض الذي لا يلتقي مع الاتجاه الأول، بل هي الثقافة البديلة، الثقافة الأخرى، والتي لا تصل إلى حد النقيض. لقد استطاع هيجل تحويل عقيدة التثليث، الأب والابن والروح القدس، إلى منهج جدلي: الموضوع، ونقيض الموضوع، ثم مركب الموضوع ونقيضه. وهكذا يمكن تفسير العلاقة بين اليهودية والمسيحية والإسلام في تطورها الجدلي التاريخي، فاليهودية الموضوع (دين الشريعة)، والمسيحية نقيض الموضوع (دين الروح)، والإسلام مركب الموضوع ونقيضه، أي أنها دين العدل وشريعة المجتمع.
العلاج إذن تاريخي طويل، وهو يتأتى أولاً على مستوى التصورات. فلا يتغير شيء في الواقع إن لم يتغير في الفكر أولاً. فالتصورات هي التي تحكم بالدرجة الأولى وليس النظم السياسية. لذلك يسهل في مجتمعاتنا الاتهام بالكفر والإلحاد إذا مس التغيير التصورات أي العقائد. ولذلك ربما ينبغي أولاً إحداث تغيير في تصورات الناس حول العالم، فهي التي تحكم بطريق غير مباشر وتحدد معايير السلوك وقواعده. لذلك فتح الإسلام باب الاجتهاد على مصراعيه رافضاً التقليد. فلكل عصر اجتهاده بعد إجماعه. والواقع له أولويته على الفكر: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن». فالأولوية للواقع على النص كما تدل على ذلك «أسباب النزول»، ووجود «الناسخ والمنسوخ». القدسية لمصالح المسلمين المتغيرة وليس للنص الثابت في شكله، المتغير في مضمونه. ومن ثم تتجاوز القضية تجديد الخطاب الديني إلى تجديد الفكر الديني عموماً.