أكثر المشكلات التي وقعت في الأديان (التوحيديّة خاصة)، خلال التاريخ، كان مأتاها من المأسسة الدينيّة (الكهنوتيّة) وبالتالي، من المأسسة السياسية للدين. وكلُّ تغيّر في الرسالة الروحيّة والإيمانيّة للدين، أي دين، بتحويله إلى سلطة يقوم عليها جسم إكليركي أو سياسيّ، أو بتحويله إلى مادّة للاستثمار السياسيّ من قبل هذا الفريق أو ذاك، إنما تولَّد من سيرورة من الكَهْنَتَة خضعَ لها (الدين) مِن قِبَلِ مَن انتدبوا أنفسهم لمهمة «تمثيله» والنطق «باسمه»، والتنزُّلٍ من نظامه منزلة الوسيط بين المؤمنين والنصّ الدينيّ؛ فهؤلاء ما اكتفوا بتقديم سردية خاصّة عن الدين، وفرْضها كرواية رسميّة، والطعن على مخالفيها بالابتداع والهرطقة فحسب، وإنما زادوا على ذلك بأن سمحوا لاحتكارهم التأويل أن يذهب إلى حيث يضع معايير للإيمان والفكر، ويقرِّر في من ينتمي إلى الملّة ومن يُعَدُّ خارجاً عنها! وبالتالي، رخّصوا لأنفسهم أن يأتوا أفعالاً كبارا مثل التكفير، باستسهال شديد، محرّضين الجمهور والسلطة على مخالفيهم من ذوي الآراء الأخرى، غير عابئين بالتّبِعات التي تنْجم من مثل ذلك التحريض، وخصوصاً في مجتمعات يمثّل الدين فيها ثقافةً جمْعية، ويسْهُل فيها انقيادُ الجمهور إلى أفكار التحريض، أو تجاوُب السلطة مع آراء فئةٍ ترغب في استمالتها وتسخيرها- مثل فئة رجال الدين أو فئة الفقهاء- أوعلى الأقل، كسب حيادها بالتنازل لها في أمور لا تدفع، هي كسلطة، ثمنها.

أسَّس هذا الضرب من الكَهْنَتَة، التي تقوم عليها سلطة وِصائيّة، لكلّ أنواع العبث والتلاعُب بالدين؛ وهكذا وقع النزول به من عليائه المطلق، وغاياته العليا في حفظ كرامة الإنسان، وعمارة الأرض (بناء الحضارة)، وبناء شخصيته على الأخلاق الحميدة، وتحقيق الوحدة داخل الجماعة المؤمنة والسلام بين الشعوب والأمم، إلى حيث ينغمس في مستنقعات الدنيويّ والنسبيّ، ويتسخَّر وقوداً في المنازعات من أجل الدنيا (السلطة، الثروة، المصالح). ولقد كانت هذه التلاعبات بالدين، دائماً، هي أمّ المشكلات فيه؛ لأنها زوّرت معناهُ، ودفعتِ الناس إلى الانقسام عليه بعد إذ كان مبدأ اجتماعهم ووحدتهم. وما كانتِ الكَهْنَتة، بوصفها سلطة «دينية» مفروضة، بشيء آخر غير الكلاّنيّة (التوتاليتاريّة) الدينيّة؛ حيث التدخُّل-من قِبل السلطة الوصائيّة الكهنوتيّة، في كل شيء: في الإيمان، في فهم النصّ والتعاليم، في ممارسة الشعائر، في السلوك والهيئة والملبس.. إلخ. ويؤدي ذلك، كما يَعْلم العارفون بالنظام الكلاّنيّ، إلى نوعٍ من التنميط الدينيّّ يُفْرَض بدعوى وحدة الجماعة الدينيّة وقيام أمرِها على نموذجٍ ذاتيّ فاصل تتمايز به من سواها من الجماعات الأخرى. ولكن أخطر ما يؤدي إليه (هو) وأدُ الاختلاف ومنْعُ التفكير بحرّية، وتسطيحُ الوعي، وترسيخُ قيم الكسل الذهنيّ بزعم الإشباع الذاتيّ من الحقيقة المطلقة، وتكريسُ التقليد، وإرهابُ المخالفين…إلخ. لذلك لا غرابة في أن تقود الكلاّنيّة الدينيّة، والتنميطُ الدينيّ، إلى الإرهاب الفكريّ المؤسِّس -هو أيضاًَ- للعنف والإرهاب.

على أنّ مَن يدقِّق النظرَ في المسألة يلْحظ أنّ مشكلة الوساطة والكَهْنتة في الدين لم تكن، يوماً، مشكلةً دينيةً أو قُل، لم تكن مشكلةَ تعاليم ونصوص نصّتْ عليها، بل كانت-وما برِحت حتى يوم الناس هذا-مشكلةَ الدين التاريخيّ، أي مشكلة الدين بعد انتقاله من لحظة النصوص والتعاليم إلى لحظة التطبيق التاريخيّ لها من قِبَل الجماعة المؤمنة وخاصةً، من قِبل الفئات التي تتصدَّر الكلام والتقرير في الشأن الدينيّ داخلها و«باسمها» كجماعة.

والطريقُ إلى المأسسة الكهنوتيّة وسلطانِ نفوذها الوصائيّ الضَّارب يمرُّ، حكماً، بفكرة حيازة الحقيقة المطلقة ورسوخ الفكرةِ هذه لدى مَن يحملونها. وكما زعمت جماعات دينيّة عديدة حيازة تلك الحقيقة، في اليهوديّة والمسيحيّة، فأباح لها»تمثيلُ»»الدين الصحيح» تكفيرَ بعضها أو تبديعه واتهامه بأنه هرطوقيّ، ممّا أدخلها في خِضمٍّ ممتَدٍّ من النزاعات جنح الكثير منها للعنف (وكانت الحروب الدينيّة في أوروبا ذروته الدراماتيكيّة)، كذلك حصل الشيءُ عينُه في تاريخ الإسلام؛ إذ لم تكن المعركة التي اندلعت على السلطة، منذ مقتل الخليفة عثمان، قد وضعت أوزارها حتى كانت معركة أخرى رديف قد انطلقت، ولكن هذه المَرّة على الحقيقة: حقيقة النصّ الدينيّ. وقد زعم كلُّ فريقٍ لنفسه أنها انتهت إليه وحده، وأنه -من دون سواه- على المحجَّة البيضاء لا يزيغ عنها، وغيرُه في ضلال يَهْمَع. ولَكَم كان دالاًّ أن يتعاظم اللجوء إلى حديث»الفرقة الناجية» من جميع أولئك الذين انخرطوا في معمعان الصراع على الحقيقة في الإسلام. ولكنّ المشكلة أنّ ما كان يبدأ بعنفٍ لفظيّ، من هذا التيار أو ذاك، في مقارعة الخصوم وتسفيه مقالاتهم والقدْح في رجالهم، كان ينتهي بعنفٍ ماديٍّ يأتيه الجميعُ ضدَّ الجميع باسم الواجب الدينيّ تجاه المنحرفين عن الدين.

 

الجمعة :23 رمضان 1439 هج/ 08 يونيوه 2018 .

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …