التنوير العربي وإخفاقات النهضة
التنوير كمفهوم عام، هو توق نحو المستقبل، ورفض للتشرنق في النزعات العرقية والسياسية والفئوية والمذهبية، والغلو والتعصب وهو تغليب للتسامح وقبول الآخر. وهو في النتيجة توجه إلى الأمام. وضمن مقولاته “أن البشر يولدون أحرارا، متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون”. ورغم أن جذور التنوير تواجدت في معظم الحضارات بمدلولات مختلفة، تمثلت بدعوات التسامح الديني، وقبول قوانين التطور، واحترام الرأي الآخر، إلا أن استخداماتها المعاصرة، ارتبطت بعصر الأنوار الأوروبي وقيام الدولة الحديثة.
ارتبطت حركة التنوير الأوروبية، بالمرحلة الرومانسية التي بشرت، بأفكار جسدتها لاحقا الثورتان، الفرنسية والانجليزية. وقد اخترقت هذه الحركة مختلف الأنشطة الفكرية والثقافية والفنية والإبداعية بأوروبا. وعبرت عن ذاتها في أشكال مختلفة، رمزية وسيريالية وتجريدية وواقعية، تبعا لطبيعة المرحلة، ولمساحات الحرية المتاحة، وأيضا بمستوى النمو الاجتماعي والسياسي، والمناخات التي سادت في حقبة الانتقال نحو الثورة الصناعية، وما سبقها من كشوف جغرافية.
وكان الفيلسوف الانجليزي، روجرز باكون من المؤسسين للحركة، بإنكاره للاعتقاد الشائع، بأن الأشياء وجدت كما هي قائمة، موضحا أن للظواهر الطبيعية أسبابا يجب التفتيش عنها. وبرز باسكال وديكارت، وهما فيلسوفان ربطا الوجود بالفكرة، وفي نفس الحقبة نشر دانتي ملحمته الشهيرة الكوميديا الإلهية. ومن جانب آخر، شهدت القارة الأوروبية حركة واسعة للإصلاح الديني، قادها مارتن لوثر وجون كالفن. وأكد العالم الايطالي جاليلو، من جديد نظرية كوبر نيكوس في دوران الأرض حول الشمس. وفي عام1777، اخترع جميس وات المحرك البخاري، فاستبدلت المراكب الشراعية بالبخارية. وتحول العلم من الميدان الروحي إلى الميدان العملي والصناعي.
وأثناء تلك الحقبة، أديرت الأوضاع الاجتماعية في معظم أنحاء أوروبا على قاعدة الحق الإلهي، حيث عاني الشعب من الظلم، مما دفع بمونتسكيو للاهتمام بالبحوث الحقوقية والموضوعية التي تحدد علاقة الحاكم بالمحكوم، حيث جعل من كتابه “روح القانون” مرجعا هاما في أصول التشريع. ودفع ذلك بمفكر فرنسي آخر هو جان جاك روسو لإصدار كتاب “العقد الاجتماعي” الذي طالب بأن تستند العلاقات بين الحاكم والمحكوم، على أسس تعاقدية. وفي تلك الحقبة أيضا، وتألق نجم الأديب وفيلسوف فولتير، الذي أعلن حربا لا هوادة فيها ضد التصلب الديني.
لقد وجدت هذه الأفكار في فرنسا أرضا خصبة للدعوة للتغيير فوضعت بذورها فيها، فكان أن انتصرت الثورة الفرنسية على الحكم المطلق، وأقرت الحريات السياسية والدستور. تحددت مفاهيم الدولة الحديثة، فالأمة وحدها مصدر السلطات، وأقرت حقوق الأفراد في الاعتقاد، وحرية الكلام والتعبير، وأن الملكية الفردية مقدسة لا يجوز انتزاعها إلا إذا قضت المصلحة العامة ذلك، ولقاء تعويضات مالية.
بدأ عصر التنوير العربي، أثناء مقارعة السيطرة العثمانية. وجاء فكره في شكل مناداة بالوحدة وإزالة الفروق بين المذاهب الإسلامية، وتحرير العقل من الخرافات والأوهام، ودعم العقائد بالأدلة والبراهين، والتخلص من قيود التقليد وفتح أبواب الاجتهاد، ومناهضة الاستبداد. وبرز بين رواده، جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومحمد فريد وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد والشيخ طاهر الجزائري والشيخ حسين الجسر ومحمد علي كرد وعبد الحميد الزهاوي ومحمد رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان ومحمد بيرم التونسي والطاهر بن عاشور ورفاعة رافع الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي، وكثير غيرهم…
ومع بداية القرن التاسع عشر، برزت حركة أدبية وفكرية وسياسية واسعة، بالمشرق العربي، وأنشئت الجمعيات العلمية. فقد قام بطرس البستاني بترجمة التوراة إلى العربية، وألف معجم المحيط، ومعجم قطر المحيط، ودائرة المعارف في سبعة أجزاء. وقام سليمان البستاني بترجمة إلياذة هوميروس للعربية شعرا. وألف ناصيف اليازجي مجمع البحرين. كما نشطت الحركة الصحفية، فصدرت الوقائع المصرية في عام 1838م، وكان من أوائل المحررين فيها الشيخ رفاعة الطهطاوي، وشارك في تحرير هذه الصحيفة الشيخ حسن عطار، والشيخ أحمد فارس الشدياق، والسيد شهاب الدين والشيخ محمد عبده.
وتوالت الصحف العربية في الصدور. ففي مصر، أصدر عبدالله أبو السعود عام 1866 صحيفة وادي النيل، وأصدر إبراهيم المويلحي نزهة الأفكار عام 1869، كما أصدر ميخائيل عبد المسيح جريدة الوطن. وأصدر رزق الله حسون أول صحيفة عربية في إستنبول هي مرآة الأحوال، عام 1855. وفي بيروت أصدر إسكندر شلهوب جريدة السلطنة، وخليل خوري جريدة حديقة الأخبار عام 1858. وأصدر أحمد الشدياق عام 1860 جريدة الجوانب في الأستانة، وفي العام نفسه أصدر المعلم بطرس البستاني نفير سوريا. وفي العراق أنشأ مدحت باشا، والي بغداد صحيفة الزوراء، تنطلق بلسان الولاية. وتولى السيد محمود شكري الألوسي تحرير القسم العربي منها. وصدرت في تونس الرائد التونسي، كصحيفة رسمية أسبوعية تبناها محمد الصادق، الباي الثالث عشر لتونس.
كما برزت اتجاهات اجتماعية ودعوات فكرية إلى التحديث، بدأت مع جمال الدين الأفغاني الذي دعا لوحدة المسلمين، وإزالة الفروق بين المذاهب الإسلامية، وبتحرير العقل من الخرافات والأوهام، ودعم العقائد بالأدلة والبراهين، وفتح أبواب الاجتهاد، وأنشأ مع الشيخ محمد عبده في عام 1884، في باريس جمعية العروة الوثقى، داعيا المسلمين إلى النهوض ببلدانهم، والتحرر من الاستبداد والاضطهاد السياسي الداخلي.
تأثر بموقف الشيخين، الأفغاني ومحمد عبده، عدد كبير من المفكرين العرب والمسلمين من الأجيال اللاحقة، بينهم من لعب أدوارا هامة في الحياة السياسية والفكرية، مثل مصطفى كامل ومحمد فريد وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد والشيخ طاهر الجزائري والشيخ حسين الجسر ومحمد كرد علي وعبد الحميد الزهاوي ومحمد رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان ومحمد بيرم التونسي والطاهر بن عاشور وكثير غيرهم.
لكن الوطنية في مصر ارتقت وتعززت مع رفاعة رافع الطهطاوي الذي دعا إلى أن يكون الوطن “مكان سعادتنا العامة التي تبنى من خلال الحرية والفكر والمصنع”. وقد تحدث عن رابطة وطنية، مصدرها اللسان. فأبناء الوطن هم تحت إمرة ملك واحد وينقادون لشريعة واحدة وسياسة واحدة. وجاء عبدالرحمن الكواكبي من بعده في كتابه “طبائع الاستبداد” حاملا على الحكم المطلق والجهل، موضحا أن الاستبداد أساس المساوئ، لكونه ينفي العلم ويفسد الدين والأخلاق والتربية.
اعتبر الكواكبي العرب أمة واحدة، ورأى أن الأمة قد يجمعها نسب أو وطن أو لغة أو دين. وأن اللغة العربية هي الرابطة الأولى بين العرب. إنه بذلك يعيد التأكيد على المفهوم التراثي للأمة، لكنه في نفس الوقت يؤكد على أن الأمة تربطها روابط جنس ووطن وحقوق مشتركة.
وقد لقيت كتاباته قبولا واسعا، على مستوى الوطن العربي بأسره، وقد ساعدت على تنمية الوعي وظهور الاتجاهات الوطنية التي أسهمت في بروز نوازع التحرر والاستقلال عن سيطرة العثمانيين، بالنصف الأخير من القرن التاسع عشر، واستمرت في مقارعة الاحتلال الأجنبي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
وباختصار، يمكن القول إن عصر التنوير أسهم في انبعاث الوطنية الحديثة، التي ارتبطت بمنهجين. الأول، تغلغلت فيه الآراء الغربية في الوطن والحرية والدولة، وعبر عن إعجاب بالتراث، وقرن ذلك بالفكر السياسي الحديث. أما النهج الآخر، فكان النهج العربي المتمثل في اليقظة العربية، والذي أكد على أن العرب أمة واحدة لها خصائصها، وأن العربية هي الرابطة الأساسية، مشددا على الصلة الوثيقة بين الإسلام والعروبة، ذاهبا إلى القول إن الإسلام قام وازدهر بهم، وإن السبيل لنهضتهم لن يتحقق إلا بعودتهم للعب الدور القيادي في مسيرة النهضة. وقد تطورت هذه الرؤية نظريةً وممارسةً مع البدايات الأولى للقرن العشرين، مسهمة في اندحار الهيمنة العثمانية، وبروز حركات التحرر الوطنية، التي رفعت شعاري الحرية والاستقلال.
ويبقى السؤال، لماذا حقق عصر الأنوار الأوروبي أهدافه، واستمر يتقدم بثبات، جاعلا من القارة الأوروبية مركزا للعالم، في حين فشل التنوير العربي. بمعنى آخر، لماذا نجح مشروع النهضة الغربي، وفشلنا نحن؟.
تزامنت اليقظة العربية، مع انهيار الطبقة الرأسمالية المحلية، وغياب الطبقة المتوسطة بفعل الصعود الكاسح للاقتصاد الأوروبي، وتدمير الصناعات الحرفية في حوض المتوسط بسبب توافد المنتجات الأوروبية رخيصة السعر للأسواق المحلية، واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، ما أدى إلى تراجع أهمية عدد من الموانئ العربية، التي كان لها دور في رفد اقتصادات مصر وبلاد الشام.
لم يبق في الساحة من بإمكانه قيادة العمل الوطني في مراكز النهضة سوى بقايا العالم التجاري والفئات الريفية والوجاهات، وقد تصرفت جميعاً، كوريث للثقافة التقليدية المحلية وليس كحامل للواء التنوير. لتعيش حالة انفصام مركبة. فهي لم تتمكن من القطع مع الماضي، ولم تعلن موقفاً محدداً تجاه ثقافة المستقبل.
ولأن الأفكار لا تنتج من فراغ، بل هي في المبتدأ والخبر استجابة لواقع موضوعي، يمنحها المشروعية وصفة التقدم. فإن قوى التنوير تلقت ضربات عنيفة، كادت أن تودي بمشروعها. فقد صدمتها قوة شبكة العلاقات البطركية، وحدت من انطلاقتها. كما أنها، واجهت احتلالا كان احتلالا كولونياليا. فشلت ثورة عرابي، وأجبرت الطبقة المتوسطة على توقيع اتفاقية عام 1936، بين سعد زغلول والبريطانيين، وعجزت عن إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ووقعت معاهدة بارتسموث بين العراق والبريطانيين في نهاية الأربعينيات.
لم تتمكن قوى التنوير من مواصلة مهمتها التاريخية. فمن جهة شعرت، نتيجة لارتباطها العميق، بالثقافة التقليدية بخطر التغريب كمدمر لقيم حضارتها، ومن جهة أخرى غمرها شعور بالحاجة للتحديث. وهكذا حاولت المواءمة بينهما. وقد تمكنت من تحقيق بعض النجاحات، كبعث اللغة وتكييفها تكييفا جديدا منسجما مع متطلبات التجديد الثقافي والتقاني، وإيقاظ الروح النقدية.
يضاف إلى ذلك، إن اليقظة العربية، بما هي مشروع للنهوض، جاءت بعد انقطاع طويل لحضور الأمة، إثر اجتياح التتار والمغول العاصمة العباسية بغداد ولمراكز الإشعاع العربية. بمعنى أنها لم تكن نتاج صيرورة وتراكم تاريخي. لقد كانت مشروعا وافدا من الغرب، لم تجر تبيئته. ولذلك بات صدى واهنا لتحولات دراماتيكية في المجتمعات الأوروبية، ونقلا مشوها، عاجزا عن الارتقاء بمهمته لمستوى يستوعب المحركات الذاتية، وينطلق من التربة الوطنية. فكان أداؤه وجه آخر، للعجز عن المبادرة والإبداع، وتعبيرا عن ضحالة الفكر، وهشاشة الهياكل الثقافية والفكرية والاجتماعية السائدة.
وقفت مشاريع التنوير موقفاً ضبابياً ومرتبكاً من مسألة الدولة المدنية. وقعت أسيرة لحظة في التاريخ، فجاء خطابها عاطفياً ومشحوناً بتوتراتها. ولذلك، التزمت بموقف سلبي من الدولة الوطنية، ولم تقدم جواباً شافياً لمفهوم الأمة. تأثرت بالتنظير الأوروبي حول هذه المسألة، لكنها حين التزمت بها وطرحتها كسبيل للخروج من مأزق التخلف، اقتصرت أدبياتها على عنصر واحد هو اللغة، وغاب الحديث عن الجغرافيا والمواطنة والدولة المدنية.
وكانت مواقفها أيضا مرتبكة، من عناصر النهضة، الحرية والعدالة. فبدلا من ربطهما معا في برنامج سياسي واحد، جرى تغليب أحدهما على الآخر، بل ووضعا في بعض المراحل التاريخية، في حالة تعارض مع بعضهما.
ففي حين كان شعار الحرية، هو المحرك للكفاح ضد العثمانيين، والاستعمار الغربي لاحقا، فقد تأسس النظام العربي، بعد الحرب العالمية الثانية، على قاعدة الصراع بين العناصر اللازمة للنهضة، بدلا من التفاعل الخلاق بينها. وكان الصراع في الخمسينيات والستينيات، في المجتمع العربي، بين عناوين النهضة: بين الحرية وبين العدل. فقد كان المفكرون المتأثرون بالمعسكر الشرقي تغلب فكرة العدالة على الحرية، العكس صحيح بالنسبة للمتأثرين، بالمنهج الغربي في الحكم، حين تغلب الحرية على العدل.
انتهت حقبة من التاريخ، بسقوط الاتحاد السوفياتي، وهيمنة اليانكي على العرش الأممي. وكان دورنا من جديد هامشيا. أنسقنا لمهرجان ”نهاية التاريخ”، وبلوغ المجتمع الإنساني، مرحلة ”النظام العقلاني” على الطريقة الفيبرية. وعاد الحديث عن الليبرالية والنظام الغربي، والديمقراطية باعتبارها مثلاً وقيماً جديدة، رغم أنها سادت في الغرب لما يقرب من قرنين ونصف، منذ اندلاع الثورة الفرنسية.
مكمن الداء إذا، في هذا السياق، وضع عناصر النهضة، في مواجهة بعضها. ووضع المواطن بين خيارين، أحدهما يصادر حرية المواطن، والآخر يصادر الوطن والمواطن، ويفتتت المفتت. يواجه الاستبداد بالتفتيت، ويقع كثير من المثقفين في حبائل التنظير الهادف لإضعاف الأمة. عنصر نهضوي في مواجهة عنصر نهضوي آخر، الحرية في مواجهة التنمية والعدالة.
لن تستقيم معادلة التنوير ومواجهة إخفاقات النهضة إلا بإعادة الاعتبار، لعنصري النهضة: الحرية والعدالة. وكلاهما يتطلب نبذا لسياسة الإقصاء، وحقا في تكافؤ الفرص، وإسهام الأمة في صناعة مقاديرها، ضمن علاقات تعاقدية، تؤكد على تجاوز التفرد، وتغلب لغة القانون.
خلاصة القول، إن المقاربة بين مشروعي التنوير الأوروبي والعربي، تشي بأن الأول هو نتاج صيرورة تاريخية، وجد حاضنة اجتماعية قادرة على النهوض به، وتحويله إلى أمر واقع، بعد انتصار الثورتين الفرنسية والإنجليزية. أما التنوير العربي، فافتقر إلى التراكم، وغياب حاضنة اجتماعية مستقلة، قادرة على الأخذ به ونقله من حالة التنظير والتبشير، إلى الممارسة.
بمعنى آخر، لم يواجه التنوير الأوربي، أية معوقات تحول دون انطلاقه. لقد جاءت التطورات التاريخية، لتعضده، وتأخذ به ، في حين كان التنوير العربي، ضحية انسداد تاريخي في الواقع العربي، عطل من تحقيق النهضة، وحال دون قيام الدولة المدنية. وكانت أحد أوجه فشله، هو استمرار هشاشة الهياكل الاجتماعية، وبقاء شبكة العلاقات القديمة على ما هي عليه.
رغم مرور أكثر من نصف قرن، على فشل مشروع التنوير العربي، فإن أسباب إخفاقاته لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. فالمجتمعات العربية بقيت رهينة لحالة الانسداد التاريخي، التي أشرنا لها. وانتكاسة مشاريع النهضة، لم تؤد إلى مراجعة نقدية، ولم ينتج من رحمها مخاض ولادة جديدة. على النقيض من ذلك تماما، مارست القيادات الحاكمة، عملية تجريف سياسي، حال دون بروز مؤسسات المجتمع المدني. وحين حدثت الاحتجاجات التي عمت عددا من البلدان العربية، خلال العامين المنصرمين، كانت العفوية وغياب البرامج السياسية، أهم ملامحها.
صحيح أن الحراك الشعبي العربي جعل الأمة، على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة. إلا أن تطورات الأحداث، تؤكد بما لا يقبل الشك، أن العناصر التي قفزت إلى السلطة في معظم هذه البلدان، في بنيتها وأفكارها، في حالة تعارض مع مفهوم التنوير وقيام الدولة المدنية، والنتيجة أن غياب البرامج السياسية، وعدم وضوح أهداف التحرك الذي عرف بـ “الربيع العربي”، قد غيب الطابع الحداثي في هذا الحراك.
ففسيفسائية تداعي هذا الحراك، جعلت من المتعذر وعي المسوغات الحقيقية لاندلاعه، والتعامل معه بنسق واحد. ومن غير شك، إن أوضاع البلدان العربية، غير متماثلة في واقعها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وذلك يعني بالضرورة اختلاف الأدوات، والمبررات التي أدت إلى اندلاع الحراك في كل بلد. فليس الاستبداد وحده، هو مبرر ذلك، وهو أيضا ليس الفقر. فهناك بلدان يرتفع فيها سقف الحرية، ولكنها تعاني من الفساد والفقر، وهناك بلدان أخرى يطغي فيها سقف الاستبداد ولكنها في وضع أفضل بمستوى معدلات الدخل مقارنة بغيرها من الأقطار العربية.
ذلك يعني، أن هناك أسباب مركبة، لاندلاع الثورات، تختلف في مسوغاتها من بلد لآخر. ولعل أكبر محرض على اندلاعها في وقت واحد هو ما يمكن وصفه بموسم الهجرة إلى الثورة، اقتباسا من عنوان الرواية الرائعة “موسم الهجرة للشمال” للراحل الطيب صالح. بمعنى أن العامل الرئيس لاندلاع هذه الحركة، في هذا التوقيت بالذات هو التأثير والتأثر… بين بلدان جمعتها اللغة والتاريخ والجغرافيا والمعاناة المشتركة.
وبغض النظر، عن النتائج التي انتهى إليها هذا الحراك، فإن الحاجة تبقى ماسة لفكر التسامح، وللتنوير والدولة المدنية. “أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.
عن موقع التجديد العربي
يوليوز 2013