تُصاب السياسة، ويُصاب العمل السياسيّ الحزبيّ بالأمراض عينِها التي يُصاب بها المجتمع والأسرة والمدرسة وغيرُ هذه من التكوينات والمؤسسات الاجتماعيّة ؛ إذِ السياسةُ وجْهٌ من وجوه الفعاليّة الاجتماعيّة، وفي اشتغالها تكثيفٌ لسائر عوامل الاجتماع وتعبيرٌ عن مستوى تطوُّرها وعن درجة عافيّتها أو بؤسها، ولكن، إذا أمكن القول- مع كثيرٍ من التحفُّظ والنسبيّة-إنّ مجتمعاً ما قد يتعايش مع أزمةٍ من أزْمات مؤسّساته، لايتأذّى منها إلاّ بمقدار، ولا يَعْرِض له منها ما يضطرب به توازُنُه، يمتنع الاعتقاد بأن ذلك يصدُق، أيضًا، على أزمة السياسة فيه؛ إِذ هذه ممّا لا يمكن التعايشُ معه أو استيعابُه لتوقٌّف باقي مناحي الحياة الاجتماعيّة على السياسة، وبالتالي، على استقامة أوضاعها ونظام اشتغالها.
وكما أنّ الأمراض تُلمّ بالسياسة في نطاقها السلطويّ، أي حين تمارسُها سلطةٌ حاكمة على غير القواعد التي عليها مَبْنى السياسة، بمعناها المدنيّ الحديث، فتكون في حينها سياسةً غيرَ سويّة (مَرَضيّة)، ويُحتاجُ معها إلى علاجها من أدْوائها؛ حفظا للنظام الاجتماعيّ العامّ، والحقوق والحريّات، واستعادةً لشرعيّةٍ ومقبوليّةٍ مفقودتيْن، كذلك تٌلِمّ الأمراض بالسياسة في نطاقها المجتمعيّ، كعملٍ سياسيّ وتنظيميّ، حين ينزاح هذا أيضا عن قواعده المدنيّة المألوفة، فيتولّد منه ما يجافي المطلوب والمنتَظَر من الحزبيّة السياسيّة، ممّا يُحتاج معه-هو أيضًا- إلى علاج للداء؛ صوناً للعمل السياسيّ وأدواره ووظائفه واستعادةً لحُرْمته المنتَهَكَة وترميماً لشرعيَّته المشروخة. وليست المماثلةُ، هنا، بين أمراض السلطة وأمراض الحزبيّة تَعسُّفيةً، أو غيرَ متكافئةٍ في ميزان المسؤوليات؛ ذلك أننا لا نعثر على فارقٍ كبيرٍ بين الاستبداد، و التسلّطيّة، والديكتاتوريّة، والكلاّنيّة (التوتاليتارية)؛ وهي أمراضٌ تستبدّ بالسلطة، و(بين) المركزية البيروقراطية، والقُصوويّة Maximalisme ؛ وهي أمراضٌ تستبدّ بالعمل الحزبيّ؛ ذلك أنّ من جوف هذه الأمراض في العمل السياسيّ الحزبيّ تنمو مشاريع السلطة الاستبداديّة والديكتاتوريّة، وتتربّى أجيالٌ من العاملين في حقل العمل الحزبيّ على ثقافةٍ مغلقة، مكْفَهِرّة، نابذة للآخر، وشديدة التشرنُق النرجسيّ على يقينياتها !
أنفقنا زمنًا طويلاً لم نعرف فيه من نقدِ السياسة سوى نقد السلطة، أي نقد السياسة حين تمارسها نخبةٌ حاكمة، فيما أشحنا النظر عن نقد سياسة القوى الاجتماعيّة والحزبيّة: المعارِضة والموالية، وتجاهَلْنا الحاجة الحيويّة إليه بما هو (النقد) إرادةُ تصويبٍ وتصحيح وإعادة بناء. نظرنا إلى السياسة بعينٍ واحدة لا بعينيْن، فاختزلناها في نصابٍ اجتماعيٍّ واحد منها. والنتيجة؛ زادت أوضاعُها المَرَضيّة استفحالاً (في نطاقها الحزبيّ)، حتى أننا صحوْنا، فجأةً، على حقيقة اختفاء العمل الحزبيّ، أو ضموره واضمحلاله التدريجيّ! والأنكى أنّ الغالب على نقّاد السياسة (السلطويّة) الانتماء إلى مؤسّسات حزبيّة تنخرها الأمراض وتفتك بجسمها التنظيميّ، من دون أن تُلقيَ بالاً إلى داخلها المتهالك، فتتولاّهُ بالتصحيح والتصويب ! هكذا ترى النقّاد أولاء يمتشقون أسلحةَ النقد في وجه أمراض السلطة والسياسات العامّة، فيما هُمْ يُعْرِضون عن إتيان النقد نفسِه في حقّ العمل الحزبيّ.
ومن النافل القول، إنّ لأمراض العمل السياسيّ الحزبيّ أسبابًا عدّة لا تقبل الاختزال في واحدٍ منها بدعوى أنه السبب الرئيس؛ فما قد يُحْسَب سبباً رئيساً في تجربةٍ ما من العمل الحزبيّ، قد لا يكون كذلك في تجربة أخرى، أو حتى قد يبدو ثانويًّا أو مساعداً. وعلى ذلك، ما من مهْرَب من الأخذ بفرضيّةٍ للتحليل أخرى مبناها على أنّ أسباب الأمراض الحزبيّة (أسبابٌ) متعدّدة، متداخلة ومتراكبة، من جهة، ومتفاوتة الآثار والمفاعيل، تبعًا للاختلاف بين تجارب العمل الحزبيّ، من جهة ثانية. ولقد يرتّب علينا العملُ بهذه الفرضيّة نهجَ مقاربةٍ تركيبيّة لظاهرةٍ هي نفسها، في تكوينها، مركَّبة من جملةٍ من العوامل المتضافرة التأثير. وهكذا نذهب إلى الاعتقاد بأنّ مقاربةً تحليليّةً شاملةً وعميقة لأمراض العمل السياسيّ (الحزبيّ) تمتنع من دون البحث في أسبابها الاجتماعية-الطبقيّة، والسياسيّة، والإيديولوجيّة، والثقافيّة، والقيميّة…، لتأثير هذه العوامل في البنى والفعاليات الحزبيّة، من جهة ولترابُطِ مفاعيلِ ذلك التأثير من جهة أخرى. وإذا كان الحديث فيها معزولةً مما يقتضيه منطقُ البحث والمنهج، فإنما غير معزولة عن بعضها في واقعها المادّي أو، قل، إنّ فعلها وتأثيراتها متبادلة وحاسمة في تكوين عِلل السياسة.
التفكير في بؤس العمل الحزبيّ وما اعتورهُ من خَلَلٍ مَرَضيّ، اليوم، يقتضيك التفكير في بؤس أوضاع الطبقة الوسطى، في مجتمعاتنا العربيّة، بما هي البيئة الاجتماعيّة للعمل السياسيّ، وقوّة التوازن الاجتماعيّ والسياسيّ الرئيسةُ في أيّ مجتمع؛ ويقتضيك التفكير في ظاهرة الانسداد في النظام السياسيّ وما تُلقيه هذه من نتائج وآثار على الحياة السياسيّة العامّة ، ولك أن تقول الشيءَ نفسه عن علاقة أزمة العمل الحزبيّ بتهالك أوضاع النقابات والمنظمات الشعبيّة، أو بمزاحمته في أدواره من قبل ما يُسمّى – على غير بيِّنة- مؤسسات المجتمع المدنيّ، وعوامل أخرى ذات آثارٍ فيها متفاوتة. وهكذا يجد الباحث في المسألة نفسه أمام حزمةٍ من العوامل والأسباب المتنوّعة تفرض نفسَها عليه في مسعاه إلى تجلية المسألة وتعليل المعضلة.