رحل مؤخراً المستشرق البريطاني – الأميركي «برنارد لويس» بعد عمر طويل أصدر فيه عشرات الكتب عن الإسلام تاريخاً وثقافة وفكراً ومجتمعاً. لم يكن «لويس» من جيل الاستشراق الكلاسيكي الذي اهتم بجمع النصوص وتحقيقها وتأويلها ، لكن يمكن النظر إليه أنه فاتحة الجيل الجديد من المستشرقين الذي اهتم بالموضوعات السياسية والتحولات الراهنة للمجتمعات الإسلامية، وقد ركز في كتبه على موضوعات الأقليات والصراعات الأهلية والحروب الدينية في التاريخ الإسلامي.
في هذا السياق اشتهر جدله مع المفكر الفلسطيني- الأميركي «إدوارد سعيد»، الذي اعتبر في كتابه الشهير «الاستشراق» لويس نموذجاً للكتاب الغربيين في تناولهم للإسلام من منطلق المركزية الثقافية غير الموضوعية إرادة الهيمنة المبنية على سلطة المعرفة الإقصائية، مضافاً إلى ذلك كله خصوصية الموقف السياسي للويس الداعم بقوة لإسرائيل والقريب من الأوساط الصهيونية المتطرفة.
بيد أن الأطروحتين الأساسيتين اللتين تمحورت حولهما أعمال لويس الفكرية هما: القول بالجوهر السياسي للدين الإسلامي من حيث بنياته العقدية والتشريعية بما يجعله عصياً عن القيم الحداثية والليبرالية بالمقارنة مع المسيحية واليهودية، والنظر إلى الصراعات الاستراتيجية الدولية من منظور الصراع بين الثقافات الذي يتركز في الصراع بين الحضارتين الغربية والإسلامية.
الأطروحتان مترابطتان لصدورهما عن نفس المنطلق الجوهراتي، أي النظر للإسلام بصفته نسقاً ثقافياً أحادياً مغلقاً خارج التاريخ لا يمكن أن يتأقلم ويتعايش مع العالم الراهن الذي صاغته المدنية الغربية الحديثة.
الأطروحة الأولى بسطها لويس بوضوح في كتابه «المفردات السياسية للإسلام» وفي كتاب «السلطة والإيمان» وقد بناها على أن ما يميز الإسلام داخل التقليد الإبراهيمي هو أنه منذ نشأته ديانة سياسية لا يمكن أن تقوم دون الدولة ولا مكان فيها للتمييز بين السلطة الدينية والسلطة السياسية بل إن المؤسسة الدينية غائبة في الإسلام لأن الشأن الديني مستوعب ومتضمن في الحقل السياسي.
الأطروحة الثانية ظهرت مبكراً في كتابات لويس (عام 1957) واشتهرت في مقالته «جذور الغضب الإسلامي».. (انتلانتيك مونثلي 1990) قبل أن يتبناها الكاتب السياسي الأميركي «صمويل هنتجتون»، ويستند إليها في قراءته للعلاقات الدولية ما بعد الحرب الباردة من منظور حرب الحضارات المتمحورة حول الصراع الثقافي ما بين الغرب والإسلام.
الغريب في الموضوع أن حركات الإسلام السياسي وإنْ دأبت على وصف لويس بالصهيوني المعادي للإسلام إلا أنها تشترك معه في الأطروحتين المذكورتين أي ازدواجية الديني والسياسي في الإسلام ومقاربة صراع الحضارات وتصادم الإسلام والغرب.
قبل أشهر بينت في مؤتمر دولي أن مقولة «الإسلام دين ودولة» الإخوانية هي في أصلها أطروحة استشراقية الغرض منها نعت الإسلام بالتعصب والانغلاق والاستبدادية والعجز عن التلاؤم مع القيم الديمقراطية الليبرالية، والحال أنها تقوم على مغالطة كبرى هي استنتاج السمة السياسية السلطوية للإسلام من تصوره الجماعي العمومي للدين في حين أن هذا الطابع الجماعي هو الذي حال عقدياً وتاريخياً دون ظهور مفهوم الدولة الدينية في الإسلام، أي الدولة المجسدة للدين والمعبرة عنه موضوعياً. ما أكده علماء الإسلام في العصور الوسيطة هو أن موضوع السلطة والدولة لا يبنى على أساس الشرعية الدينية لأن الدين هو محور الوجود الأخلاقي والمدني للمجتمع المسلم ولا يحتاج لقوة مؤسسية تحتضنه أو تعبر عنه، فمدار الدولة هو القوة والغلبة وهدفها حفظ الاستقرار والأمن وحماية الأمة، وهنا تندرج مقولة «حراسة الدين»، التي اعتمدها الماوردي في تعريفه للإمامة التي لا يمكن ترجمتها بمقولة الدولة الحديثة.
كما أن أطروحة صدام الثقافات التي تبنتها حركات الإسلام السياسي في نظرتها للنظام الدولي تصدر عن وهم مزدوج: إخراج الإسلام من التاريخ المشترك للمجتمعات الإبراهيمية المتوسطية الذي هو في قلب تفاعلاته الحية وإخراجه من حركيّة تشكل العالم الراهن الذي للمجتمعات المسلمة دور فاعل فيها. الإسلام الموضوعي المعيش ليس هو الإسلام الأيديولوجي المنكمش المغلق على نفسه والمناوئ للعالم، وإنما هو حصيلة تجربة ممارسة ونمط عيش مئات الملايين من المسلمين الذين يمارسون تدينهم ضمن قوالبهم الثقافية وسياقاتهم المجتمعية دون انفصام في الوعي أو اغتراب عن الواقع. الإسلام دين رحب له أفق معياري وتأويلي أوسع من القوالب الثقافية والحضارية، ومن الخطأ اختزاله في منظور أيديولوجي ضيق أو تحويله إلى ملف من ملفات المعادلة الدولية الساخنة.