إذا كانت العلمانية في سياقها العام هي اعتبار الواقع والعقل هما طرفي سلسلة حياة الإنسان بكل علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية, فإن العلمانية في أبسط صورها من الناحية الدينية, – على اعتبار أن الدين جزء من مكونات هذه الحياة الإنسانية الروحية -, هي فصل الدين الذي يعتبر عند لكثير من حملته الاجتماعيين كـ (أيديولوجيا) تحمل معايير ثابته ذات طابع مقدس صالحة لكل زمان ومكان, عن السياسة وتركها لشؤون الناس واختياراتهم كما تذكر الآية الكريمة: (وأمرهم شورى بينهم), سورة الشورى: آية 38. فهي أيضاً في هذا السياق البسيط, ترمي إلى فصل الدين عن تفسير وتأويل الكثير من القضايا العلمية المتعلقة بالطبيعة والمجتمع قضايا خاصة بجهد الإنسان وقدراته على كشف القوانين الموضوعية التي تتحكم بهذه الظواهر, انطلاقاً من قول الرسول الكريم في حديث تأبير النخل: (أمور دنياكم أنتم أدرى بها).
إن الدين جاء قبل كل شيء دعوة أخلاقية : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). هذا إضافة لكونه دعوة عقيديّة, أي دعوة إلى التوحيد (قل هو الله أحد…), ورفض الشرك بالله. وهي دعوة تقوم على الإقناع بالحسنى وليس بالقوة, (إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.) (النحل125)). وعدم إكراه الناس في الدين. (أفأنت تكره الناس على أن يكونوا مؤمنين.) (يونس99).
أما الآيات التي تحدد الأحوال الشخصية في الزواج والطلاق والإرث وآيات الجزاء المتعلقة بالسرقة والغش والتعدي على الآخرين فهي بمجموعها لا تتجاوز الـ (124) آية. وبعد حذف المكرر منها, تصل إلى (84 آية). ومع ذلك يطغى الجانب الأخلاقي على القانوني أيضاً في التعامل مع المخطئ من باب التسامح والعفو كما تذكر الآية الكريمة: (وإن تعفوا وتصفحوا فهو خير لكم).
إن القرآن إذاً لم يكن كتاباً علمياً أو كتاب سياسة أو كتاباً يدعو إلى تقديسٍ الأشخاص وتأليههم, أو كتاباً يدعو إلى رفض العقل والتمسك بالنقل, أو تحكيم العاطفة والركون إلى التصورات المثالية (الغيبيّة) في تحليل آليات عمل الطبيعة والمجتمع, بدل البحث في آلية عمل قوانين الطبيعة والمجتمع, أو يدعو إلى قمع الإرادة الإنسانية ودفع الإنسان للخضوع والاستسلام لقدره من باب الجبر واللوح المحفوظ, أو غير ذلك من آراء وأفكار جبرية بشر بها العديد من فقهاء وعلماء الدين. وبالتالي اعتبار ما قاله أو قرره هؤلاء العلماء منذ العصور الوسطى, وفقاً لمناهجهم التي تجاوزها الزمن هي أمور مقدسة أيضاً, قد جبت النص المقدس ذاته (القرآن) وأقصته, وفّرضت علينا التمسك بها كونها أقوال أهل السلف الذين لم يضلوا الطريق الصحيح, وهم كالنجوم الهادية, بغض النظر عن كل صراعاتهم, وما تحقق من سفك لدماء المسلمين في عصرهم بسبب هذه الصراعات التي تهدف إلى تحقيق مصالح أنانية ضيقة لا تخدم الدين ومقاصده الإنسانية التي جاء من أجلها,.!!.
إن الإنسان في ديننا الإسلامي هو خليفة الله على الأرض, كلفه الله بهذه الخلافة كي يعمر هذه الأرض ويعمل الخير لدنياه وآخرته وفقاً لمقاصد الدين الإنسانية, ووفقاً لظروف العصر التي انوجد فيها هذا الإنسان, وهذه الخلافة لا تعطى لجاهل وأمي ومسلوب العقل والإرادة والتفكير, أوالمسير كأعمى البصر والبصيره من قبل غيره.
إن ما يهما هنا هو التأكيد على أنه: في الإسلام لا يوجد عند قوم سلطة دينية (كنسيّة) بوجه من الوجوه، والسلطة الدينية في الدين هي سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وما للخليفة أو القاضي أو المفتي أو الشيخ مهما يكن في الإسلام من سلطة على الناس إلا بالموعظة الحسنة. فالإسلام لم يجعل لأحد من هؤلاء من سلطة على العقائد وتقدير الأحكام من عنده, إلا بما يتفق ومقاصد الشرع ومصالح الناس،أو تجعل منه رجلاً مقدساً نزحف على ركبنا للوصول إليه أو نستنجد بكراماته عند الضيق. (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) (الزخرف -2). فالذين يخلفون هم بشر من لحم ودم يخطئون ويصيبون، وليسوا ملائكة مقدسين. (وما أنا إلا بشر مثلكم).
أما بالنسبة للموقف الفكري ألعقيدي العقلاني التنويري والجدلي من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, فقد حدده الشيخ الإمام “محمد عبده” بقوله الرائع: (نعم إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده، إلا أن ما ينعكس إلى مزايا عقله من مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكراً, وكل فكر يكون له أثر في داعية, وعن كل داعية ينشأ عمل، ثم يعود من العمل إلى الفكر, ولا ينقطع الفعل والانفعال بين العمال والأفكار ما دامت الأرواح في الأجساد, وكل قبيل هو للآخر عماد.). (1). أو بتعبير آخر: من المشاهدة الحيّة للظواهر, إلى التفكير المجرد بها, إلى ممارستها وفق حاجات الإنسان.
لنشرة المحرر د.عدنان عويّد كاتب وباحث – ديرالزور –سوريا
1- محمد عبده – الأعمال الكاملة – تحقيق محمد عمارة- ج2 – ص35- المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – 1979
الخميس 08 رمضان 1439 هح/ 24 ماي 2018.