معروف تاريخيا عن المغرب أن موقعه الجغرافي قد جعل منه مركزا للاتقاء الحضارات والثقافات. غير أن هذا الالتقاء لم يكن دائما تلقائيا، سلسا ومتوازنا؛ بل بالعكس، فقد اتسم، في كثير من الحالات، بالعنف وتميز باستعمال القوة العسكرية من قبل الدول الغازية. فموقع المغرب قد جعله عرضة للأطماع الأجنبية، حيث تعرض لغزو متكرر، انتهى، في كثير من الأحيان، بالاحتلال.
ولا شك أن الاحتلال يفرض علاقات تأثير وتأثر غير متكافئة بحكم علاقة الغالب بالمغلوب. وأعتقد أن درجة التأثر بالمحتل (والأجنبي، بصفة عامة) وبثقافته وحضارته، هي التي جعلت من موضوع الاستلاب (السياسي والفكري والثقافي) مبحثا من مباحث التاريخ المغربي، قديمه وحديثه.
ليس الهدف من هذه الإشارة التاريخية، تحديد إطار هذا المقال ومجال رؤيته ولا إعلان لنوعية مقاربة هذا الموضوع؛ وإنما هي فقط للتأكيد على أن موضوع الاستلاب ليس جديدا، سواء من حيث الإشكاليات التي يطرحها أو من حيث المقاربات التي تتناوله بالتحليل والدراسة.
وبالتالي، فأنا أعلن، منذ البداية، بأنني لن أغوص في التاريخ، لا قديمه ولا حديثه(فلا مؤهلاتي العلمية تسمح لي بالخوض في تعقيداته ولا المقام يتسع لذلك)، وسأكتفي بإثارة الانتباه إلى بعض الظواهر التي أصبحت ملفتة (ومقلقة، أيضا) في مجتمعنا، ولها علاقة وثيقة بما أسميته في العنوان أعلاه الاستلاب المشرقي.
أتذكر أننا، في الستينيات والسبعينيات (وحتى الثمانينيات) من القرن الماضي، حين كنا نناقش، كتلاميذ وطلبة وأساتذة، مسألة المثاقفة كمفهوم وتمثل، كان النقاش، غالبا ما يتحول إلى نقاش فكري وإيديولوجي، موضوعه الاستلاب الفكري والثقافي. وكان يطرح هذا الموضوع في علاقة مع الغرب.
وقد عشت، شخصيا، هذا النقاش كتلميذ ثم كطالب، قبل أن أنخرط فيه من موقعي كأستاذ بالثانوي، مؤطرا للنقاش وموجها له، إما بمناسبة حصة من حصص تحليل النصوص أو حصة من درس اللغة والتعبير(langage et expression). وكان الاتهام يوجه دائما للغرب وللنخبة الفرنكوفونية التي كانت تتهم بالتبعية والاغتراب.
ولم يكن موضوع الاستلاب الفكري والثقافي، يطرح فقط في الثانويات والكليات؛ بل كان يشكل هاجسا لدى النخبة اليسارية المغربية التي كانت تنتقد، ليس فقط التبعية الاقتصادية للغرب، وإنما أيضا التبعية الفكرية والثقافية. فقد كان هذا الموضوع يناقش في اللقاءات التأطيرية والتكوينية داخل التنظيمات اليسارية.
ودون الخوض في التعريفات الأكاديمية لمفهومي المثاقفة(acculturation) والاستلاب(aliénation)، أكتفي بالقول بأن المثاقفة تعني التفاعل بين ثقافتين أو أكثر، يترتب عنه تغيير عميق أو سطحي، يمس، بهذا القدر أو ذاك، الأنماط الثقافية الأصلية السائدة في إحدى هذه الثقافات أو في جميعها، حسب قوة التفاعل ودرجة التأثير والتأثر المتبادل بين هذه الثقافات.
أما الاستلاب، فأعني به الانسلاخ، الفردي أو الجماعي، عن الذات والهوية الثقافية الأصلية والانغماس في ثقافة الآخر؛ مما يعني التبعية لهذا الآخر كثقافة وكحضارة. وهذا الآخر لم يكن يعني في الوعي المغربي، في الفترات المشار إليها أعلاه، سوى الغرب.
لكن المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والتربوية…التي طرأت على مجتمعنا المغربي، قلبت كل الموازين، وأصبحنا، اليوم، نعيش في مجتمع يعرف نوعا آخر من الاستلاب الفكري والثقافي؛ إنه الاستلاب المشرقي.
وهو، في نظري المتواضع، أخطر من الاستلاب الغربي؛ ذلك أن الثقافة الغربية كانت تشكل بوابة على العالم الخارجي. وكان الانفتاح على هذا العالم الخارجي (العالم المتقدم) يساهم في إثراء الثقافة المغربية ويعزز تنوعها وتعدد روافدها؛ كما كان يرفع من مستوى نخبنا السياسية والثقافية والفكرية. ويعود الفضل للفكر الغربي ومناهجه في تعرفنا على بعض القيم الكونية من قبيل الحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية والفكرية التي تضمن حرية الرأي وحرية الاعتقاد، الخ.
لا أدري إن كان هناك دراسات علمية وأكاديمية رصينة لظاهرة الاستلاب المشرقي؛ دراسات تتناول الظاهرة من الناحية السوسيولوجية أو السيكولوجية أوالسوسيو-ثقافية أو السوسيو-سميائية أو السيميو-ثقافية أو غير ذلك من فروع العلوم الإنسانية.
لكن الساحة الإعلامية والثقافية لا تخلو من مساهمات تقارب هذا الموضوع من هذه الزاوية أو تلك. فليس من الصعب أن تعثر، هنا أو هناك، على مقال (أو أكثر) أو على حوار (أو أكثر) يتناول جانبا من جوانب الاستلاب المشرقي ببلادنا. وأسوق، هنا، كمثال، مقالين صدرا على التوالي في 16 مايو 2015 و22 أبريل 2016. المقال الأول لـ”يوسف الفاسي” بعنوان “الشباب المغربي والاستلاب السياسي المشرقي” (مدونات عربية)؛ والمقال الثاني لـ”جمال أبرنوص” بعنوان “المغرب والمشرق: من تجليات الاستلاب الممأسس”(ماروك بريس). وبالنسبة للحوارات، أشير إلى حوار مع الكاتب والمفكر “إدريس هاني”، نشر بموقع “زابريس” بتاريخ 23 يوليوز 2012، تحت عنوان “الوهابية في المغرب”، وحوار آخر مع الأستاذ “يوسف حنانة”(باحث في الفكر الإسلامي وفي تراث الغرب الإسلامي)، نشر بموقع “أنفاس” بتاريخ 16 فبراير 2016، تحت عنوان “المذاهب الوهابية والإخوانية خربت المعمار المذهبي بالمغرب وجعلت المغاربة يعيشون استلابا دينيا”.
ولست أقصد بهذه الإحالات إعطاء مساهمتي المتواضعة هذه صفة البحث الأكاديمي أو إضفاء مسحة علمية عليها. فهي لن تخرج عن إطار مقالة الرأي، شكلا ومضمونا.
وأشير إلى أنني سأقتصر، في الجانب المتعلق بالاستلاب الفكري، على الحديث عن انتشار الفكر الوهابي وفكر حركات الإسلام السياسي؛ والأصح المذهب الوهابي والمذهب الإخواني(من الإخوان المسلمين)؛ وهي مذاهب أتتنا من الشرق؛ فالمذهب الوهابي أتانا من العربية السعودية؛ أما المذهب الإخواني، فقد جاءنا من مصر (ويجب أن لا ننسى المذهب الشيعي الذي أصبح له حضور أيضا في المغرب). وفي ما يخص الجانب المتعلق بالاستلاب الثقافي، فسوف أحصر اهتمامي في أحد مظاهره المادية (أي المرئية)؛ ألا وهو اللباس، خاصة عند النساء.
تجدر الإشارة إلى أن النظام المغربي، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، شجع، منذ سبعينيات القرن الماضي، ولحسابات سياسية ضيقة، على انتشار الفكر الوهابي والفكر الإخواني. وقد كان الهدف من ذلك، هو مضايقة الفكر التقدمي ومحاربة المد اليساري؛ خاصة وأن القمع الممنهج الذي كان مسلطا على قوى اليسار، وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لم يكن يزيدها إلا تجذرا وترسخا في المجتمع المغربي.
و منذ ذلك التاريخ، عرفت المنظومة التعليمية المغربية، خاصة في مادة التربية الإسلامية، انحرافات وانزلاقات نحو الغلو والتشدد، بفعل اختراق المذاهب الوافدة من الشرق العربي. وهكذا أصبحت تطفو على السطح مظاهر غير معهودة في التدين المغربي وسلوكيات وممارسات اجتماعية غريبة على مجتمعنا.
ومع المدة، تغلغل الفكر الوهابي والفكر الإخوابي في المجتمع المغربي وفي مؤسساته الدينية (المساجد) والتربوية (المؤسسات التعليمية). وقد نتج عن هذا التغلغل، حسب الأستاذ “يوسف حنانة”، تخريب المعمار المذهبي بالمغرب، بعد أن عاثت، في هذا البلد، المذاهب الوافدة من المشرق فسادا وإفسادا، فأصبح المغاربة يعيشون استلابا دينيا حقيقيا (انظر حواره المشار إليه أعلاه).
ويكفي المرء أن يستحضر نوع الخطاب الذي انتشر قبل أحداث 16 ماي الأليمة(2003)، ليدرك مدى تغلغل الفكر المتطرف الدخيل على بلادنا. لقد ساد، قبل الأحداث الإرهابية المذكورة، خطاب متطرف، كان يُروَّج له على منابر عدد من المساجد وفي المنشورات التي كانت توزع أمام الجوامع، بالإضافة إلى أن بعض الصحف “المستقلة” لم تكن تتحرج من نشر مقالات وحوارات لبعض دعاة الفكر الأصولي المتطرف وبعض أصوات السلفية الجهادية. هذا، دون الحديث عن مرور بعض دعاة الفكر المتطرف المغاربة في “الجزيرة” القطرية التي كان لها انتشار واسع في المغرب في تلك الفترة.
وقد كاد الاعتدال أن يختفي من الخطاب الديني ويترك المجال للخطاب التكفيري. كما أن الوسطية، التي ميزت التدين المغربي والتراث الفكري والثقافي الإسلامي بالمغرب، توارت إلى الخلف لفائدة الحركات الدعوية، الوهابية منها والإخوانية، التي عملت على نشر الغلو والتشدد والتعصب والتزمت والتحجر والانغلاق الفكري… في كل ما يتعلق بالدين، لا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات والمعتقدات.
فحتى المؤسسات الدينية الرسمية لم تسلم من هذا الاختراق. لذلك، نجدها تصدر فتاوى تناقض التوجه الرسمي للدولة وتخالف دستور المملكة، كما حدث، مثلا، مع فتوى المجلس العلمي الأعلى (فما بالك بالمجالس العلمية المحلية التي يعج بعضها بمعتنقي الفكر الوهابي أو الإخواني) بقتل المرتد، بينما دستور 2011 يقر بحق السلامة الجسدية والمعنوية لكل فرد.
فأن يتجرأ الرجل الثاني في الأمانة العامة لهيئة الإفتاء (وهي هيئة رسمية، وهنا مكمن الخطورة) على تكفير حزب وطني عريق (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) والمنتسبين إليه، لهو دليل على قمة الجهل (الجهل بالتاريخ وبالأخلاق العلمية والسياسية وبعلماء الاتحاد الأفذاذ وبالتضحيات الجسام التي قدمها هذا الحزب من أجل الوطن) والجهالة (أليس من السفه والطيش تكفير حزب، كان من رواده علماء من عيار محمد بن العربي العلوي وعمر الساحلي وبن الصديق ومحمد الفرقاني وغيرهم؟) ودليل على ذروة الانغلاق والتزمت. فالسيد “محمد الرواندي” أعطى الدليل بأنه من الحاقدين على الاتحاد الاشتراكي حين قال بأن هذا الحزب “لا مستقبل له، لأنه حزب غير المتدينين (لا صلاة ولا صيام)” (انظر جريدة “الوطن الآن”، الخميس 28 مارس 2013).
وتخال “الرواندي”، هنا، خصما سياسيا (وقد يكون الأمر كذلك؛ فربما ينتمي أو على الأقل يتعاطف مع حركة إسلامية سياسية ومذهبية معينة، بما فيها الوهابية، أو مع حزب يزعم المرجعية الإسلامية) يستغل الدين لتصفية الحسابات السياسية (كما يفعل الشيخ “أحمد الريسوني” في بعض فتاواه، مثلا)؛ بينما هو عضو بمؤسسة دستورية وهيئة علمية للإفتاء، يفترض في أعضائها الحياد والنزاهة الفكرة والدقة العلمية.
وهذا الرجل الذي لا تتعدى شهرته ردهات المجلس العلمي الأعلى ودار الحديث الحسنية، قد تهجم على بعض الشخصيات الاتحادية التي، مهما فعل، لن يقدم ولو جزءا يسيرا من الخدمات الجليلة التي قدموها لبلادهم بكل إخلاص وتفان ونكران الذات، بينما هو يجتهد (ومن داخل مؤسسة رسمية) في إهدار دم المخلصين والمكافحين من أجل رفعة الوطن وتقدمه في مجال الحريات والحقوق الفردية والجماعية وفي مجال الثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان… حتى ينعم المواطن المغربي بالكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
يطول الحديث عن الاختراق الذي حصل في مؤسساتنا الدينية والتربوية من قبل المذاهب الوهابية والإخوانية الوافدة علينا من المشرق العربي، خاصة بعد الطفرة النفطية. فالمغرب، الذي عُرف، كشعب وكدولة وكنخب، بتفرده في صنع خصوصياته الثقافية والفكرية والروحية والسياسية، قد صنع لنفسه، خلال قرون، تجربة إسلامية بعيدة عن المشرق. لكننا ندرك، اليوم، أنه قد أصبح مخترقا من قبل تيارات فكرية متطرفة ومذاهب متشددة وتوجهات طائفية ، بشكل يهدد، من جهة، وحدته المذهبية التي عرف بها لقرون؛ ومن جهة أخرى، بشكل يجعل البلاد مهددة بفقدان خصوصيتها وهويتها السياسية والثقافية؛ ذلك أن التيارات التي أتحدث عنها، تريد أن تعود بنا سنين ضوئية إلى الخلف، فكريا وسياسيا وحقوقيا وثقافيا…
وفي هذا الجانب بالذات (أي الثقافة)، لن أتحدث عن غزو الكتب والمنشورات الشرقية للمكتبات المغربية، ولا عن هيمنة النصوص الشرقية في مقررات التربية الإسلامية واللغة العربية (وهو ما أسماه “جمال أبرنوص” الاستلاب الممأسس)، وإنما سأكتفي بأحد تجليات التعبير الثقافي؛ ألا وهو اللباس؛ وذلك من أجل إبراز التغيير الكبير الذي طرأ على طريقة لباس فئات لا يستهان بها من المغاربة. لقد أصبحنا نلاحظ في شوارعنا وفي مؤسساتنا الدينية والتربوية وفي مكاتب إدارتنا وفي أسواقنا…لباسا لا علاقة له بما عهدناه في ثقافتنا المغربية. لقد تم غزو المغرب بألبسة تعبر عن الانتماء الحركي أو المذهبي للذين يحملونها. وهو نموذج صارخ للاستلاب الثقافي الذي يعيش فيه هؤلاء.
وسوف أقصر حديثي، هنا، عن لباس النساء لكونه أصبح يثير ليس فقط الفضول والاستغراب، بل أيضا حتى التقزز والنفور، خاصة وأنه يتميز، في الأغلب الأعم، بالقبح والبشاعة، شكلا ومضمونا. إنه لباس يلغي إنسية المرأة وآدميتها. فأنت، حين تراها في الشارع (وحيدة أو مع زوجها)، تخالها خيمة متحركة، خاصة إن كانت بدينة بعض الشيء، لا هوية لها إلا لباسها الدخيل على مجتمعنا. ويمكن القول بأنك ترى شيئا متحركا ولا ترى إنسانا يمشي في الشارع، خاصة وأن هذا النوع من اللباس الذي أعنيه، هو ذاك المصحوب بالنقاب الذي لا يشمل الوجه فقط، بل وأيضا الكفين والرجلين (نوع من الكفن الذي تتحرك به وفيه صاحبته على الأرض) . ويزيد شكل اللباس ولونه الأسود المنظر إثارة وغرابة.
فالمرأة المغربية التي اختارت (أو فُرض عليها من الزوج أو الأسرة) أن ترتدي هذا اللباس الغريب على ثقافتنا، فهي تعلن، من جهة، انتماءها لأحد التيارات الدينية المتطرفة التي ابتلي بها مجتمعنا؛ ومن جهة أخرى، تعلن تفريطها في هويتها لفائدة هوية أجنبية، غريبة عن الهوية المغربية الأصلية والأصيلة. وبمعنى آخر، فإن لباسها الدخيل يلغي ليس فقط هويتها كامرأة مغربية؛ بل يفقدها حتى هويتها الآدمية. فهذا النوع من اللباس يساهم في تشييء المرأة؛ أي يجعلها مجرد شيء.
وتجدر الإشارة إلى أن النساء اللواتي يرتدين هذا اللباس، يعتقدن بأنه لباس ديني (إسلامي)؛ والإسلام منه براء. فهو لباس لبلدان غرب آسيا (الشرق الأدنى). وربما لهذا السبب يسمى باللباس الأفغاني؛ لكنه لا علاقة له بالدين الإسلامي، وإنما هو لباس تقليدي لتلك البلدان(وحتى لباس أهل الجزيرة العربية لا يمثل بالضرورة ما يسمى باللباس الشرعي)؛ غير أنه يُسوَّق على أنه لباس إسلامي (شرعي)؛ وارتداؤه على هذا الأساس، هو الاستلاب بعينه، استلاب ثقافي وديني.
أقر أنني كلما شاهدت هذا اللباس في مكان عام، إلا وتقفز إلى ذاكرتي صورة الحايك المغربي الذي ، إلى عهد قريب، كان يُلبس في الصويرة وشفشاون وبعض البوادي، والذي لم يعد له وجود، فيما أعتقد؛ وتطفو إلى الذاكرة، أيضا، صورة الجلباب المديني الأنيق، مع اللثام التطواني (أو لنقل الشمالي) أو اللثام الرباطي أو اللثام الفاسي، أو غيرها من الحواضر. وتبقى الملحفة الصحراوية حاضرة برونقها وتميزها، فتنسينا بعض الوقت في بشاعة “العباية” وتوابعها الواردة علينا من الشرق الأدنى عن طريق الشرق العربي.
ويجب الاعتراف بأننا لا نعاني فقط من الاستلاب الديني الذي تعمق بانتشار قنوات تليفزيونية تابعة لدول الخليج، همها الأساسي، هو ترويج الفكر الديني المتطرف؛ بل هناك استلاب آخر تساهم فيه القنوات التليفزيونية أيضا، وبتمويل من دول الخليج كذلك. وتمثل هذه القنوات نموذجا صارخا للإعلام المنحرف الذي ينشر ثقافة الميوعة والانحلال. ويأتي على رأس هذه القنوات روتانا و MBC المدعومة من قبل أمراء السعودية. فيا لَلْمفارقة !!! التزمت والتشدد داخل البلاد وتمويل قنوات الميوعة والتفسخ والانحلال، التي تبث برامجها من خارج السعودية وتغطي العالم العربي، بل العالم كله حتى تصل إلى الجالية العربية والمغاربية عبر العالم.
والمغرب ليس في منأى عن تأثير هذه القنوات المائعة. فلها في مجتمعنا مشاهدون مدمنون على برامجها، خاصة بين جمهور الشباب من الجنسين وبين النساء.
خلاصة القول، فنحن أمام ظاهرة استلاب فكري وثقافي من الخطورة بمكان. وتكمن هذه الخطورة في كون هذا النوع من الاستلاب يقوم على المشترك (الدين الإسلامي، الثقافة العربية، مفهوم الأمة…). فحين التفكير في واقعنا المغربي الحالي، نلاحظ أن أشياء كثيرة قد تغيرت للأسوأ في مجتمعنا بفعل انتشار الفكر الرجعي المتزمت الذي أتانا من المشرق العربي. ويعبر هذا الفكر عن نفسه بطرق مختلفة، سواء فيما يتعلق بالتعبد أو بطريقة اللباس أو بطريقة التفكير. فيكفي، مثلا، أن ننظر إلى ما أصبح عليه الحرم الجامعي، لندرك بأن مؤسساتنا الجامعية لم تعد فضاء للحوار والجدل والتعبير الحر، بل أصبحت مجالا لترويج الفكر الأحادي. ويكفي أيضا أن نقارن بين صورة لهيئة التدريس في واقعنا الحالي وبين صورة لنفس الهيئة تعود للماضي، لندرك كم رجعنا إلى الوراء، خاصة إذا ما تأملنا لباس المدرسات.