من خلال توالي الأحداث الدولية وتطوراتها، أعتقد أنه من الصعب اليوم الحديث عن عولمة النيوليبرالية كإيديولوجية سياسية واقتصادية وقيم ترمز على مستوى الخطاب إلى قيم “القوة الناعمة”، بقدر ما يمكن الاقتصار بإدراج كل ما يقع كونيا، في إطار عولمة اقتصاد السوق بمنطق الأقوياء. ما يعيشه عالم اليوم لا علاقة له بحرية حركية السلع والخدمات ورؤوس الأموال، بل هو تحريك لا يعتمد على الحرية كقيمة جوهرية تؤطر حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية كونيا، بقدر ما يستند على القوة في المجالين العسكري (الحروب المباشرة وبالوكالة) والاقتصادي (العقوبات)، وهو المعطى الذي أشرنا إليه سابقا ب”عسكرة العولمة”. لقد أصبحت السياسة، كمفهوم يرمي نظريا إلى خدمة التنمية في كل المجالات المجتمعية على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية، إلى آلية لخدمة الشركات الكبرى متعددة الجنسيات والعابرة للقارات، وبالتالي إلى تسريع وثيرة تراكم الثروات في الشمال على حساب الجنوب.
إن التطورات التي تلت إعلان النظام العالمي الجديد تسببت بقوة في تكريس منطق الاستهلاك في اقتصاديات دول الجنوب، وحولت حكوماتها إلى مجرد مؤسسات رسمية للحفاظ على التوازنات العامة والسعي بكل السبل المتاحة لتحقيق قدرة الميزانيات على استرجاع الديون، والحصول على بعض المساعدات في الفترات الحرجة لجعل التنمية في خدمة الاستهلاك على حساب الإنتاج، والوقاية من المخاطر المهددة للاستقرار الحامي لمصالح أصحاب رؤوس الأموال.
وفي إطار هذا المنطق، تحتل منطقة الشرق الأوسط، كفضاء تاريخي تعاقبت فيه أحداث تطور الحضارة العربية الإسلامية، إلى محور أساسي في السياسات الدولية للقوى العظمى. فمع هدم جدار برلين، ارتبط حدث الإعلان عن النظام العالمي الجديد ببلورة وتنفيذ حملة إعلامية قوية روجت لعبارات ومفاهيم جديدة ووازنة لتأطير التفاعل السياسي الكوني، والتي نذكر منها أساسا “عولمة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان” و”بناء الشرق الأوسط الجديد” و”الفوضى الخلاقة” و”أسلحة الدمار الشامل” و”منع انتشار الأسلحة النووية”، و”منع استعمال الأسلحة الكيماوية”، و”حرمان دول الجنوب من الصواريخ الباليستية ومنع تطويرها”….إلخ.
في إطار هذه الحملة الإعلامية القوية، تم إسقاط نظام صدام حسين بعد نعته بالديكتاتور واتهام بلاده بتوفرها على أسلحة الدمار الشامل، وتم استغلال الترويج لغياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية لإسقاط الأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن، ليبقى مشروع بناء الشرق الأوسط الجديد معلقا بالتفاعلات الدولية والإقليمية المرتبطة بالملفات الأربع “السوري” و”الفلسطيني”، و”الإيراني” و”اليمني”.
فعلا، لا زالت هذه الملفات معلقة بسبب عودة روسيا بقوة إلى طاولة المفاوضات الدولية مدعومة بجمهورية الصين الشعبية، خاصة بعدما نجحت في تشكيل محور مقاوم صحبة النظام السوري والإيراني وحزب الله وكوريا الشمالية. لقد سبق أن أشرت أن أساس تشكيل هذا المحور هو المصلحة وليس الإيديولوجيا، وهذا المعطى يمكن أن يكون مجرد وسيلة احتكمت إليها روسيا من أجل الضغط على الغرب وتحويل ما ستحدثه من تفاعلات وتراكمات إلى منافذ قد تمكن من رسم خريطة جديدة للمصالح على مستوى العالم في إطار اقتصاد السوق، خريطة تتيح بناء توازنات جديدة ترضي القوى العظمى، وتهيئ ظروف الحسم النهائي في مقومات مشروع “الشرق الأوسط الجديد”.
لقد تتبع العالم ما سمي بالضربة الثلاثية للأهداف السورية (من طرف أمريكا وفرنسا وبريطانيا)، وصرح وزير خارجية روسيا أن بلاده لم تعد ملزمة أخلاقيا بعدم تسليم الجيش السوري منظومة الصواريخ المتطورة (إس 300) للتصدي لأي عدوان قادم، وشنت إسرائيل ثلاث هجومات بعد ذلك في عشرة أيام ولم يتم مواجهتها بأي صواريخ متطورة، وتم التصريح فيما بعد بما ينم عن وجود نوع من التراجع رسميا عن القرارات الروسية السابقة.
لقد تم التصريح أن روسيا لم تسلم بعد هذه الصواريخ إلى النظام السوري (في مقابل اقتراب تركيا من الحصول على صورايخ “إس 400” المتطورة)، وأن نظام الأسد قد نجح في استخدام الأسلحة المتوفرة لديه في مواجهة ما سمي بالعدوان الثلاثي. كما تناثرت الأخبار هنا وهناك كون روسيا لا تريد أن تنجر إلى حرب عالمية ثالثة خاصة بعدما دشنت مشروع الجسر التاريخي الخاص بجزيرة القرم الذي طالما حلم به الإمبراطور القيصر. إنه موقف مشابه لما عبر عنه سابقا وزير خارجية أمريكا كيري في جوابه على أحد قيادات المعارضة السورية قائلا له: هل تريدون أن ندخل في حرب مع روسيا من أجلكم.
لقد فعل الرئيس الأمريكي ترامب قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ومارست إسرائيل عربدة في سوريا وبنيامين نتانياهو في زيارة رسمية لروسيا القيصرية، وبالغت بدون مبالاة في سفك دماء الفلسطينيين. بالموازاة، يتابع الرأي العام الازدواجية الأمريكية في التعامل مع التطورات في العراق خاصة ما يتعلق بالتدخل الإيراني به، بحيث يتم التلويح عبر وسائل الإعلان وكأن القوى العالمية متفقة في شأن التعاون من أجل بناء هوية شيعية في العراق مخالفة للمنطق الخميني (شيعة مسالمة بدون مشروع توسعي). في نفس الوقت، يزداد الضغط حدة على إيران من أجل تقليم أظافرها بعد خروج الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي. إن نجاح ترامب في تفاوضه مع رئيس كوريا الشمالية لا يمكن أن يتم بدون تزكية روسيا، ويمكن أن يشكل التراب الكوري الشمالي بديلا للشركات الأمريكية التي ستغادر إيران. كما أن الموقف الأوروبي الموحد اتجاه هذا الحدث البارز لا يمكن أن يكون مناوئا لبناء الشرق الأوسط الجديد، ولا خارجا عن منطق مبدأ “رابح-رابح” العالمي. ففي حالة استمرار تعنت النظام الإيراني بعد القضاء النسبي على التطرف السني، فليس مستبعدا أن يتحقق نوع من التوافق ما بين الغرب وروسيا في شأن اقتسام المصالح ومناطق النفوذ، توافق قد تضطر من خلاله روسيا على التخلي على حليفها إيران، لتبقى مسؤولية الحفاظ على مصالح الشعب الإيراني وشعوب المنطقة بمدى استعداد نظام آية الله تغيير منطق تعامله السياسي مع دول وشعوب المنطقة الممتدة من المحيط الهادي شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، على أساس إعادة بناء الهوية الشيعية على أسس جديدة.
الجمعة 02 رمضان 1439 هج/ 18 ماي 2018.