(قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. ).

      إذا كان التيار السلفي الجبري المعادي للحداثة قد اعتمد على النص الديني المقدس أو من قام على تفسيره وتأويله من فقهاء العصور الوسطى, فكذلك تيار العقل وحرية الإرادة والمناصر للحداثة لم يخرج عن هذه لقاعدة أيضاً. لذلك دعونا ننظر في هذا التيار من الخطاب الإسلامي التنويري وآلية تفكيره ومرجعياته الفكرية.

     (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ . ). (1).

     جاء شيخ إلى علي بن أبي طالب عند الإعداد لمعركة صفين يسأله قائلاً: (أكان المَسيرُ بقضاء الله وقدره). فكان رد علي عليه ( لعلك تظن قضاءً واجباً وقدراً حتماً, ولو كان الأمر كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد ولما كانت تأتي من الله لائمة لمذنب ولا محمدة لمسيء. وهذا رأي إخوان ألشياطين وعبدة الأوثان. وشهود الزور. وخصماء الرحمن. وأهل العماء عن الصواب في الأمور, إن الله أمر تخيراً وانهى تحذيراً, ولم يكلف جبراً, ولا بعث الأنبياء عبثاً.).(2)

     هذا هو موقف أمير المؤمنين من الجبر, والعقل وحرية الإرادة. فليس هناك قضاء واجب , ولا قدر حتم, وإنما هناك إنسان حر في اختياره وإرادته, وما أوامر الله في نصه المقدس إلا من باب التخيير, وما النهي عند الله إلا نذيراً لهذا الإنسان ونهيه عن فعل الشر وظلم الناس, وما التكليف عنده إلا تخيراً وليس جبراً على الإنسان, ومن يقول أو يمارس غير ذلك فهو ليس بمسلم. فجوهر الدين كما يفهمه أصحاب العقل وحرية الإرادة هو ما جاء في النص المقدس ذاته: (يأيها الذين آمنوا إركعوا واسجدوا واعبدوا بكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون, وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم من حرج.).(3). وعلى هذا الأساس في عدم الإحراج في الدين يأتي هنا موقف “ابن الجوزي” في التقليد الذي يبطل العقل وحرية الإرادة حيث يقول: ( في التقليد إبطال لمنفعة العقل, لأنه خُلق للتدبير والتأمل, وقبيح من أعطي شمعة ليستضيء  بها أن يطفئها ويسير في الظلام.).

     هذا هو الفرق بين أن تأخذ العقل شعلة للمعرفة بكل معطياتها وبالتالي تستطيع عبره أن تؤكد ذاتك كإنسان قادر على معرفة ورسم الطريق الدال على مصالحك في خيرها وشرها, وبين أن تطفئ هذه الشعلة وتسير في ظلمة قاتمة وتترك أمر قيادتك للآخر الذي سيأخذك إلى ما يريد هو أو ما اعتقده هو الصح, أو ما تشتهيه مصالحه. فالفرق شاسع إذن بين النور والظلة…بين المعرفة والجهل .. بين العقل والنقل. وأخيراً بين أن تكون حراً في اختياراتك أو مجبر عليها

     إن السير على هدّي العقل وحرية الارادة في تاريخ الدولة العربية الإسلامية لم يأت من فراغ, بل جاء متكئاً على النص المقدس ذاته, هذا النص الذي أعطى شرعية التفكير والتدبير في أمور الحياة للإنسان وفي مقدمتها الإيمان بالله ذاته, حيث لا جبر عليه في حريته: ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن, ومن شاء فليكفر.).(الكهف – 29)  وأيضاً: ( قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه, وإن ظل فإنما يظل عليها, وما أنا عليكم بوكيل.),(يونس -108) , مروراً بالتأكيد على حرية الإرادة في أمور الحياة, واعتبار أن كل ما يصيب الإنسان هو من عند الإنسان ذاته: ( ذلك بما قدمت أيديكم والله ليس بظلام للعبيد.).  آل عمران – 182).) وصولاً إلى حرية العقل والتفكير التي لم تخلوا سورة من القرآن إلا وأكدت عليها, ومنها أول آية نزلت وهي: (إقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الإنسان من علق, إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم…).)  سورة العلق). وعلى هذا الأساس  انطلق القدرية عموماً والمعتزلة على وجه الخصوص منذ السنين الأولى للدعوة يؤكدون على أهمية العقل بالنسبة لمعرفة الحق والباطل. فهذا القاضي “عماد الدين عبد الجبار أحد شيوخ المعتزلة في كتابه (طبقات الاعتزال), يقول عن أهمية العقل بالنسبة للدين والدنيا معاً: ( لأن به يُميز بين الحسن والقبيح, ولأن به يُعرف الكتاب حجة, وكذلك السنة والاجماع, وربما تَعجب بعضهم من هذا الترتيب, فيظن أن الأدلة هي الكتاب والسنة والاجماع فقط, أو يظن أن العقل إن كان يدل على أمور فهو مؤخر, وليس الأمر كذلك, لأن الله لم يخاطب إلا أهل العقل, لأن به يعرف أن الكتاب حجة, وكذلك السنة والاجماع, فهو الأصل في هذا الباب.). (4).

     من هذا الفهم السامي للعقل ودوره في فهم الدين والدنيا, جاء نضال أهل العقل في تاريخ الخلافة الإسلامية, وفهمهم لضرورة تسخير العقل كي يبحث عن حلول لمستجدات الحياة التي لم يرد فيها نص مقدس, أو حديث, أو إجماع, وذلك عبر فتح باب الاجتهاد القائم على استخدام العقل. بل إن أصحاب العقل وحرية الإرادة من شيوخ المعتزلة قد أكدوا على (الفكر قبل ورود السمع), بعد أن عرفوا كيف كان الكذب والتدليس والتزوير في وضع الحديث أو تأويل النصوص المقدسة خدمة لمصالح شخصية أوسياسية. وهذا ما أشار إليه أحد شيوخ المعتزلة وهو ” ابراهيم النظام” بقوله: (وكيف نأمن كذب الصادق, وخيانة الأمين, وقد ترى أن الفقيه يكذب في الحديث, ويدلس في الإسناد, ويدعي لقاء من لم يبلغه, ولولا أن الفقهاء المحدثين والرواة الصلحاء المرضيين يكذبون في الأخبار ويغلطون في الآثار, لما تناقضت آثارهم ولا تدافعت أخبارهم.). (5).

     لا شك أن العقلانيين المناصرين للحداثة من القدريين (أهل العقل والعدل),  قد اتخذوا من تجربة الخليفة “عمر بن الخطاب في فتح دلالات النص على الواقع المتغير والمتبدل درساً في التشريع لمقتضيات العصر, وهو الذي فتح باب الاجتهاد في مسائل المؤلفة قلوبهم, والسرقة في عام الرمادة, وتوزيع أراضي سواد العراق على ألمقاتلين حجة ودليلاً لما آمنوا به . فعمر كان رائداً في استخدام العقل وفتح دلالات النص على ما يخدم الإنسان ويراعي تطور حياته ومستجداتها. وهذا ما نسميه في فكرنا المعاصر ( الحداثة), أي منح الإنسان القدرة على استيعاب مستجدات المرحلة التاريخية المعيشة, والبحث عبرها عن السبل والوسائل القادرة على تجاوز عقبات تحقيق مصالح الإنسان في حريته وعدالته ومساواته, وتأكيد إنسانيته في كل مرحلة تاريخية.

     إن هذا الموقف الحداثي في تاريخ الخلافة الاسلامية وخطابها الديني الذي واجهه كما بينا سابقاً الخطاب الجبري الرافض لدور عقل الإنسان وإرادته, وأراد لهذا الإنسان أن يطفئ ضوء الشمعة التي مُنحت له كي يستضيء بها, ليبقى أسير الوهم والظلام والامتثال والاستسلام الذي رسمه له فقهاء السلطان منذ بداية العصر الأموي عندما اعتمد الأمويون على الجبر وناصروا شيخه الموالي لهم ” جهم بن صفوان” الذي تراجع عن مواقفه وانتقد سطة الأمويين وفسادهم وموقفهم المعادي للموالي, فقدم حياته ضحية لمواقفه هذه,  علماً أن الجهمية في مواقفها الجبرية الأولى المعادية للفكر والعقل معاً  والمؤيدة للسلطات الاستبدادية لازالت سائدة حتى اليوم

     إن الجبر في كل مدارسه السلفية عند ( الحنابلة والأشاعرة والماتريدية  والوهابية.. ), يريد حملته الاجتماعيون للواقع دائما أن يكون تحت سيف النص المقدس الذي اختاروه من بين نصوص ألقرآن وفسروه وأولوه ليس (وفقاً لأسباب النزول بل وفقاً لعموم اللفظ), بعد أن نسخوا ما يخالف النصوص الجبرية من نصوص قدرية لا تتفق ومصالح من هم تحت أمرتهم. فهذا الغزالي يقول عن مسألة النسخ: (يجوز نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقران لأن كل ذلك من عند الله.), ناسياً أو متجاهلاً بأن الرسول لم يأمر بكتابة الحديث أصلاً, وأن هناك آلاف الأحاديث الموضوعة على لسان الرسول, متجاوزاً في ذلك الغزالي ومن مارس النسخ على هواه, حدود الله ودوره في عملية النسخ هذه وهو القائل” ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها.). (لبقرة- 106),وذلك خدمة لمصالح أنانية محددة, متجاهلين مصالح الناس, ومتجاهلين من خلال تمسكهم بجبريتهم حالة حركة وتطور وتبدل الواقع الذي هو في حالة سيرورة وصيرورة مستمرتين, وأن مصالح الناس وحاجاتهم ليست ثابتة, بل هي مفتوحة على المطلق. وللحقيقة نقول إن الغزالي نفسه ورد عنده ألف حديث ضعيف كما تذكر بعض المصادر.

     إن الفهم الديني للحداثة هو الفهم الذي يقر بأن النص الديني المقدس في حالة صدام مع الواقع دائماً  في حركته وتطوره وتبدله, وهذا يتطلب من الفقهاء وعلماء الدين العقلانيين البحث دائماً عن حلول لمستجدات الواقع, كي تتحقق حالة التوازن المطلوب بين مصالح الناس وبين النص المقدس.

     يظل الموقف العقلاني / الحداثي للخطاب الإسلامي في تعامله مع النص المقدس موقفاً حضارياً – حداثياً, طالما هو قادر على فتح هذا النص على دلالاته لإنسانية المطلقة, والبحث في مخزونه عن كل ما يخدم حرية الإنسان وإرادته وتحقيق مصالحه اللامحدودة, والقدرة على التطابق مع قضايا الحياة المعيشة في كل مرحلة تاريخية تمر بها الإنسانية. ففي مثل هذا التعامل العقلاني مع النص المقدس, سيشكل هذا النص بالضرورة في مجتمعنا العربي قوة تحفيز روحية وعملية للجماهير, واستلهاماً للحس الوطني, بعيداً عن الوعظ  والتكرار واجترار ما قاله أو مارسه السلف حتى القرون الهجرية الثلاثة الأولى, على اعتبار أن هذه القرون الثلاثة هي من يمثل الإسلام الصحيح فكراً وممارسة.

     ملاك القول : إن في مرتكزات الخطاب الديني الإسلامي الحداثي كما يراها النص الديني الدال على حرية الإنسان وإرادته, وكما يراها فقهاء الشعب وليس فقهاء السلطات ألاستبدادية, هي أن الدين في معطياته العامة عبادات ومعاملات, وإذا كانت العبادات علاقة خاصة بين الفرد وربه, وحدودها هي حدود الله وأحكامه, ولا دخل لأحد فيها, كون الله وحده هو من يعرف دواخل الإنسان وسرائره إن كان مؤمناً به أو كافر من جهة, ثم إن كل ما يؤديه الإنسان من طقوس دينية هي لله وحده وليس لعباده كما (الصيام لي وأنا أجزي به) من جهة ثانية, لذلك ليس هناك من سلطة دينية في الإسلام تجبر الناس على اتباع هذه الفرقة الناجية أو تلك, سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر, وما للخليفة أو القاضي أو المفتي أو لشيخ الإسلام من سلطة فهي سلطة مدنية كما يقول الشيخ “محمد عبده”. )إذ لم يجعل الإسلام لأحد من هؤلاء سلطة على عقائد الناس وتقرير الأحكام).(6).

     أما بالنسبة للشق الثاني وهو المعاملات (التشريع), فإنها تخص الناس أنفسهم في الدرجة ألأولى ممثلة في القوانين المدنية والجنائية والأنظمة السياسية ولاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغيرها من علوم وضعية, فالناس هم الذين يقررونها بمحض إرادتهم, وبما يتفق ومصالحهم العامة والخاصة, وبما لا يتعارض معها, وبمقتضى العقل والعلم بكل ما تعنيه هذه العبارة من معنى, والناس وحدهم من يقررون تطبيق حدودها أو يسقطونها أو يعدلون فيها أو يضيفون إليها ويطورونها وفق المفهوم السابق وفي ضوء متغيرات الزمان والمكان, فحدود القاتل والمقتول والسارق والمسروق والظالم والمظلوم وهي حدود الناس, وهم وحدهم من يقرر تقاسمها عقوبة ومثوبة. فحدود المعاملات في النص المقدس محدودة وهي لا تتجاوز عشرات ألآيات جاءت مطابقة لزمن نزولها, في ذلك العصر, وهناك أمور كثيرة فرضها الزمن والتاريخ على الفرد والمجتمع لا بد من البحث عن حلول لها, والناس (أدرى بأمور دنياهم.).

     إن ممكنات الإسلام الروحية والأخلاقية والعملية والحضارية اليوم, كما يقول الكاتب والباحث “عبد الرزاق عيد” تكمن في تجديدها.فعندما تصبح الوطنية هي أساس النشاط الديني, وليس الحاكمية والإمارة وتطبيق الشريعة كما فسرها وفهمها التيار السلفي الجبري. وكذلك عندما يصبح العداء للمستعمر (الغرب) كونه مستعمر وليس مسيحي كافر, وعندما يكون العداء للدولة ليس على علمانيتها وإنما على ظلمها للرعية وفساد حكامها وتفريطها بالأوطان وحقوق الأمة والمواطنة, وعندما تصبح كل مكونات الدولة بكل أطيافهم الدينة مواطنين لا يقيمون وفقاً للفرقة الناجية, أو وفقاً لكونه مسلم مؤمن ومسيحي كافر, وعندما تصبح المرأة نصف المجتمع ولم تخلق من ضلع ناقص, وعندما نفهم الديمقراطية على أنها آلية عمل وبناء لمشاركة كل أبناء الوطن وليست فكراً غربياً أو وضعياً  تغريبياً كافرا,وعندما يفهم الدين على أنه نص مقدس جاء لمصلحة الإنسان وخيره وعدالته ومساواته, وأن الاختلاف في تفسيره وتأويله يجب أن يأتي بناءً على خدمة مصالح المجتمع, وليس لخدمة قوى اجتماعية محددة تعمل على توظيف النص الديني خدمة لمصالحها, عندها سيكون الإسلام حداثياً وسيتمكن الإسلام والإسلاميون من إيجاد مجال مشترك مع كل مكونات المجتمع أو أطراف الأمة, فالسماء كما يقول “عيد” لا تظللهم وحدهم, بل تظلل الجميع, وللسماء وحدها حق تقرير المصير يوم الحساب.

 

لنشرة المحرر  الكاتب والباحث  : د.عدنان عويّد  من سورية

 

 

 

الهوامش
1- الأنعام- 104
2- حسن ابراهيم حسن- تاريخ الدولة الإسلامية- القاهرة – 1991 – ج1– 244-345.
3- الحج- 77و78.
4-الثقافة الجديدة – العدد 27- 1997- ص 48.
5- المصدر نفسه – ص 46.
6- محمد عبده- الأعمال الكاملة-  جمع وتحقيق ” محمد عمارة” بيروت- المؤسسة العربية للدراسة والنشر- 1974 – ص285-286.

 

 

 

‫شاهد أيضًا‬

الخلاف والاختلافأو الفصل بين الواحد والمتعدد * الدكتور سعيد بنكراد

عن موقع سعيد بنكراد  يميز المشتغلون بأصول الفقه عادة بين أربعة مستويات في تناول النص ومحاو…