(1)
تعاملت قطاعات واسعة من أهل الرأي والقرار، مع ما أفرزته شبكات الفايسبوك، تعاملا لاهوتيا.
وطرحت أسئلة ، هي أقرب إلى علم الكلام، منها إلى التفاعل السيوسيو ثقافي مع تحول « استعمالاتي« كبير في تاريخ البشرية.
ومن مظاهر هذه اللاهوتية الجديدة، سؤال: من أوحى للفايسبوك بهذا؟
وبعيدا عن التنجيم وقراءة »الكلافيي« في تفهم ملامح السؤالقبل الإقدام على مغامرة الجواب، لا بد من تحديد شيء
أساسي
هو أنه إذا كان الفايسبوك ، كأي اختراع بشري كبير وثوري، خلق »آلهته« وأنبياءه وبشره ، فإنه قد خلق -بالأساس- تاريخه الخاص..
لننظر إلى النار
أو إلى الكتابة
إلى البخار
أو إلى الشمعة
إلى الطباعة
أو إلى اليورانيوم..
هناك لحظات تتحول فيها الآلة إلى موضوع تاريخي بحد ذاته ،لا تكتفي بكونها أداة لصناعة التاريخ.
والحال اليوم، أن الطاقة التي نحن بصددها ، طاقة المعلوماتيات، هي طاقة لا تتبدد كما هو حال الطاقة المعدنية أو
المنجمية التي صنعت الصورة البشرية الأولى
أو الطاقة العلمية التي صنعت الثورة البشرية الثانية…
وعهما كانت رهن إشارة الإنسان،
الثورة الحالية تتبادل الأدوار مع الفاعل والمستعمل
إذ نحن أمام طاقة تتراكم، وكلما استعملناها زادت
لا تنفذ مثل الفحم الحجري في التاريخ الأول
و لا مثل النفط في التاريخ الحالي
لاهوتها ينحصر فيها ولا ينتقل إلى البشرية..
الذي يحصل، هو أن هناك تحولا رهيبا يحدث، مع الفايسبوك في الراهن المغربي…
: بالنسبة للحزبي الذي اعتاد الاجتماعات
والمجالس التي يتطلب عقدها شهورا
وربما سنوات
ثم الاجتماعات التي تتطلب أسابيع، اذا حافظت على انتظامها، يعطي الفايسبوك الفرصة بالاجتماع كل دقيقة
وكل ثانية مع ما يميزها عن الاسلوب المعتمد كليا على المورد البشري أو المادي الملموس:
-الراهنية
-الديمومة
– الفورية..
كما أن التلاحم، أو المحايثة تتم باستمرار: ففي الوقت الذي يكون على المناضل الحزبي الملتزم الحامل للهم التنظيمي، والحركي لأفكاره وشعبه، أن «يختلي» أو يقف لمدة على هامش الحركة والحيوية، لكي يفكر ويجد الحد الأدنى المشترك في تقييم اللحظة مع رفاقه، يكون الفاعل الذي ينخرط في لحظة الفايسبوك على تواصل ساخن، فوري، دائم ومستمر مع الحدث وتفاعلاته…
+ في الوقت الذي يقتصر التفكير التنظيمي على خلية محدودة في العدد رغم تنوعها السيوسيولوجي أو الطبقي أو الثقافي، يكون الباب مشرعا لكل تيارات الحالة العامة للتفاعل، وياتي التقدير والتقدير المضاد في زمن حي ، وحقيقي، عوض انتظار تفاعلات من خارج المنظومة المنخرطة..
+ قدرة التذويب التي يملكها الناظم الحركي الجديد لكل من يساير الحركة، و التي تفضي – القدرة- الى قدرة عملية هي تحويل حالة ذهنية إلى فعل شامل..
كما يحدث عندما يرتفع الغضب والسخط والتأزم، ويتحول الامر الي مقاطعة أو مسرية في الشارع!
والذين ينظرون إلى الفايسبوك على أساس أنه مجرد وسيلة باردة وجامدة، يفاجأون حقا بأن له القدرة على أن يتحول إلى حالة ذهنية، رافضة أو مسايرة..
على مستوى أكبر ، لم يعر الفاعل النظامي أي تفكير لتحول الفايسبوك إلى عرض سياسي دائم، تتفاعل معه القوى القادرة على الفعل والقرار..
وتتجاوب معه نسبيا أو كليا (لن نعطي التفاصيل بل كانت الفترة منذ2011 فترة التكريس العملي للفايسبوك كعرض سياسي، بعيدا أبعد عما يكون عن الوظيفة المنبرية)..
يتزامن ذلك مع تحول آخر، يمس بنية الفعل الاجتماعي وتعبيراته..
وهو دخول الشارع كفضاء حقيقي في العرض السياسي..
هناك شارعان الآن:
شارع افتراضي يتحول إلى شارع حقيقي
وشارع ذهني يتحول إلى ترجمة فعلية لهما..!
لقد كان ، من حسنات التفكير الفينومينولوجي لدى هوسرل أنه نبه إلى إمكانية صنع العالم المادي من العالم الافتراضي، وهو ما يحدث اليوم مع الظاهراتية العميقة التي تعتبر تعبير الانسان المغربي عن وجوده ، في واقع تعمل منظومته الكبرى فيه على تغييبه وتذويبه!
(2)
في صلب التحول، هناك سؤال الأمل البشري للفايسبوك:
هناك ملايين، 17 مليونا فيما أتذكر من المغاربة يزورون الفايسبوك،
إما يتأثرون به أو يؤثرون..
وفي خضم التفاعل، تجد فيه طقوسية لا تخفى عن العين:أحيانا تسير نحو صنع طقس إيجابي وأخرى سلبي ، إزاء التوجهات والقرارات ..
وفي صلب هذه الطقسنة، يجب الإقرار بأن الطبقة الوسطى تحتل صلب هذا النموذج، باعتبارها المستعمل الأكبر للتواصل الاجتماعي ونقل حالاته الذهنية..
والمقاطعة، يجب البحث عنها في المبنى كما في المعنى،
في الشكل كما في المضمون..
وإذا كان هذا الأخير، قد نال حظه من التفسيرات والتأويلات وأحيانا الانزلاقات، فإن الشكل ما زال يستعصي على المقاربة…
قلنا سابقا:
الشكل الجديد صار حزبا ، بحيث يتحلق حوله الآلاف
– الشكل الجديد صار حركية تفاعلية، في الزمن الحقيقي
– قلنا أيضا إن الفايسبوك أصبح عرضا سياسيا يتم من خلاله التفاعل، كما لم يحدث من قبل مع وسيلة من الوسائل، إن لم نقل إنه عوض المظاهرات والاحتجاجات في الشارع
– هذا الفايسبوك، اليوم يعفي النقاش السياسي من جزء من مخاوفه: الشارع يستدعي الرد الذي يثبت قوة الدولة الشرعية في الردع أو العنف، ويفتح المخاوف على ضفافها..
– لكنه في الوقت نفسه، أضاف مخاوف »به ميتافيزقية» إلى الفاعل السياسي، عندما يتحدث عنه كمجهول، أي كشكل من أشكال الاستشباح،التي تملك قردة خارقة تعجز معها أساليب التحليل العادية، فتفسح الطريق للتحليل الاستشبحي، والبحث عن «مؤامرة» ما، في العمل الفايسبوكي…
– الفايسبوك، في حاله الراهنة نوع من ترميم للثقة التي انعدمت في أشكال التعبير المعروفة، والتي اقترنت بسحنات، وبأسماء، وبتنظيمات لها ترتيب معين في ذهنية الناس. إنه شكل من أشكال تحيين الثقة في الروح أو الذهنية العامة، التي تعرب عن نفسها..
و تتأرجح سمعة الفايسبوك ، لدى الفاعل السياسي النظامي، بين الحجة والتشكيك، فهي تارة الحجة على أن تغييرات يجب أن تطال العمل التقليدي، إن لم يكن تغيير القيادات التقليدية حتى، وبين التشكيك في أن « جنا» رجميا يسكنه ويسيره حسب هواه..
وهي لاهوتية ، تتخذ أحيانا صيغا متضاربة:
المصدر المجهول الذي يقود البلاد والعباد إليه،
الصوت العميق، الذي يحيل على قوى غامضة تتربص بالبلاد الشر، إلى حين يتحول إلى مؤشر حقيقي على توجهات الرأي العام..
الاستمزاج، الذي لا تقبل به مراكز كثيرة في القرار الحكومي، هو الاستمزاج الذي يخترق الكل، …ويبني الثقة، لأنه يقدم في جانب كبير منه، حجة للغاضبين بأن يغضبوا ويمارسوا رد فعلهم أو فعلهم أو قراراتهم أو ما شاءوا ، بيقين أن ذلك متقاسم مع كثيرين…
صاحب القرار السياسي يستعمله، ويشك فيه
يزوره ويحذر منه
ينقله إلى الجماهير،
وفي نفس الوقت يشكك فيه..
يقبله ويبصق من بعد
يتعطر به، ثم يستنكر رائحته…
يعظ فيه، ثم
يعضه
يدخله ليقول كلامه
يخرج منه ليقول كلاما ضده..
لهذا يحتار من يرد شرنقة أو تنميط الفعل في الفايسبوك: لأن هناك 17 مليون سبب
وقصة
وحالة ذهنية
وحالة اجتماعية
وحالة وعي
وحالة تحليل..إنه موسيقى العصر، وهو في ذلك يخضع للتعريف، الذي وضعه الفيلسوف ايدموند هوسرل : كل نوتة لها صوتها
كل آلة لها صوتها
ولكل صوت جوهره الخاص
لكن لا نجد الجوهر العام للصوت إلا في العزف العام..هكذا هو الفايسبوك اليوم..
الخميس 17 ماي 2018.