مباشرة بعد وفاة والده وانتقال مقاليد الحكم إليه، أطلق ملك البلاد محمد السادس نموذجا تنمويا، يحذوه الأمل الكبير في أن يكون انطلاقة فعلية نحو التغيير الأمثل والمستقبل الأفضل، للبلاد والعباد. وبعد انصرام 15 سنة من اعتلائه العرش، أكد في خطاب افتتاح السنة التشريعية يوم 10 أكتوبر 2014، على أن المغرب محسود على مساره السياسي والتنموي، وعلى أمنه واستقراره، ورصيده التاريخي والحضاري. داعيا المغاربة إلى الافتخار بالوطن والاعتزاز بالانتماء إليه، ومضاعفة المسؤولين جهودهم وشحذ هممهم وعزائمهم من أجل رفع التحديات، استكمال البناء الديموقراطي، والانكباب على تجاوز الاختلالات، تعزيز المكاسب واستثمار الإيجابيات في اتجاه تحسين ظروف عيش المواطنين وتمكينهم من حقوقهم كاملة وحثهم على احترام واجباتهم…

      بيد أنه عاد خلال ثلاث سنوات في نفس المناسبة: افتتاح الدورة التشريعية يوم 13 أكتوبر 2017، ليقر بشكل صريح وواضح في إطار وقفة نقدية بفشل النموذج التنموي المعتمد، موجها دعوته إلى الحكومة والبرلمان ومختلف الهيئات والمؤسسات المعنية لمراجعته، واعتماد نموذج جديد يكون بمقدوره تجاوز نقط ضعف سابقه، مواكبة التطورات التي تعرفها بلادنا والاستجابة لمطالب المواطنين الملحة، مع كل ما يلزم من صرامة وحزم، مشددا على القطع مع مظاهر التقصير والتهاون في إنجاز مصالحهم، الالتزام بمتابعة المشاريع وتقويمها، تغيير العقليات والتحلي بالموضوعية، والتدشين لمرحلة جديدة وحاسمة تقوم على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.

      وكان طبيعيا توجيه انتقاداته للنموذج التنموي المطبق، لما شابه من نواقص صارخة خاصة في الشق الاجتماعي، أدى كثيرها إلى تنامي موجة الاحتجاجات الشعبية بوتيرة متسارعة في مختلف أرجاء الوطن لاسيما في منطقتي الحسيمة وجرادة وغيرهما من المناطق التي لم يصلها نصيبها من التنمية، في ظل تفاقم الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ضعف البنية التحتية وتفشي الفساد والاستبداد، الإقصاء والظلم والإهانة، ارتفاع معدلات البطالة والفقر والأمية والهدر المدرسي وتفاحش الغلاء وانتشار مظاهر البؤس والانحراف والجريمة، فضلا عن ضعف قدرة التنافسية الاقتصادية للمغرب… مما اضطر معه الملك إلى إحداث ما عرف ب”الزلزال السياسي”، الذي أسقط رؤوس عدد كبير من المسؤولين بينهم وزراء حاليين وسابقين، لثبوت مسؤوليتهم في تعطيل تنفيذ مشاريع تنموية هامة، وفي مقدمتها البرنامج الضخم “الحسيمة منارة المتوسط”.

      نعم فشل النموذج التنموي، لإخفاقه في معالجة مجموعة من الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وافتقاره إلى رؤية شمولية ومندمجة وخطة اقتصادية واضحة، وإلى التناغم والالتقائية اللازمين بين المخططات القطاعية، والتخطيط البعيد المدى. وفشل كذلك لغياب الحكامة الاقتصادية، وإلغاء الحكومات المتعاقبة البرامج الاستثمارية القطاعية لسابقاتها وإطلاق أخرى جديدة، سواء في التجارة أو السياحة أو الصناعة وغيرها، مما يكبد ميزانية الدولة خسائر مالية فادحة. لأجل ذلك وغيره كثير، تظل المسؤولية ملقاة على كاهل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والمؤسساتيين، الذين عجزوا عن صياغة أجوبة حقيقية للإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة بحدة.

       والنموذج التنموي ليس هو النموذج الاقتصادي كما يعتقد البعض، بل هو ما تقترحه الدولة من مشاريع بهدف تحقيق التنمية والتقدم والرخاء، ورفع الطاقة الإنتاجية وزيادة حجم الناتج الداخلي الخام، ولا يتوقف فقط على ما تضعه الحكومات من سياسات اقتصادية، وإنما يطال أيضا السياسات الاجتماعية والبيئية والثقافية، من أجل خلق الثروة وآليات توزيعها بين المواطنين بشكل عادل.

      فقد أمسى الشعب المغربي في حاجة إلى بلورة نموذج تنموي جديد، يلبي انتظاراته التي طال أمدها، إذ لم يعرف خلال السنوات الأخيرة سوى الانتكاسات وخيبات الأمل والاستياء والتذمر والإحباط. طفح الكيل، سئم الخطب الزائفة والوعود الكاذبة، ولم تعد “المسكنات” تجدي نفعا في تهدئة أعصابه. يريد نموذجا اقتصاديا حقيقيا، لا يقتصر فقط على “المغرب النافع” في المراكز والتجمعات الحضرية الساحلية كالدار البيضاء وطنجة وغيرهما، أو بالاستقرار المالي وحده واحتواء التضخم وضبط سعر صرف الدرهم، وآليات التمويل وجذب الاستثمارات بواسطة صناعة السيارات وقطع الغيار والطاقات المتجددة، وإنما يمتد إلى جميع أرجاء البلاد وخاصة منها الأكثر تضررا، على مستوى ارتفاع معدلات الفقر والأمية والبطالة… ويريد نموذجا تنمويا يكون بإمكانه تقوية البنية التحتية والحد من الفوارق الفئوية والمجالية والأجرية، ومنصفا للجهات في إطار “الجهوية المتقدمة”، من خلال إطلاق مشاريع اقتصادية واجتماعية، تساهم في خلق توازن تنموي وجذب الاستثمار، وتعود بالنفع العميم على سائر المواطنين.

      فالمغرب يعيش حالة احتقان وغليان، وقد تتطور إلى الأسوأ إن لم يتم تصحيح الاختلالات القائمة، وتحسين مستوى عيش المواطنين. وعلى حكومة العثماني استخلاص العبرة من “الزلزال السياسي”، للتعجيل بصياغة نموذج تنموي متكامل وفعال، باعتماد الخطب الملكية مراجع أساسية لسياساتها العمومية، وتعاون مع الخبراء الاقتصاديين والمعنيين الأساسيين، جاعلة ضمن أولوياتها الاهتمام بالعنصر البشري كرافعة أساسية للتنمية، لاسيما أن بلادنا تملك إمكانيات الاستثمار في اقتصاد المعرفة. السهر على تكريس الديموقراطية وتحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية، تطوير أداء الإدارة العمومية والرفع من مردوديتها. تفعيل مجلس المنافسة وفرض ضريبة على الثروة، مكافحة الرشوة والمحسوبية واقتصاد الريع والتملص الضريبي، مراجعة معاشات الوزراء والبرلمانيين والحد من تعدد التعويضات والأجور، التوزيع العادل للثروة، تنزيل مبدأ الحكامة، الشفافية في الصفقات العمومية، النهوض بالعالم القروي، توجيه الاستثمارات نحو القطاعات الحيوية كالتعليم والصحة والخدمات الأساسية الأخرى. إحداث هيئة مستقلة لتتبع سير المشاريع وتخفيف العبء على المجلس الأعلى للحسابات، وخلق فرص شغل تستوعب أعداد العاطلين الشباب، وتساهم في دعم الاستقرار وإرساء أسس السلم الاجتماعي…

 

الاربعاء : 09 ماي 2018.

 

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…