وإذا كانت الدولة المعاصرة في الغرب نجحت اليوم، وقياسا إلى مساراتها الغنية في التحديث والدمقرطة والتنمية، نجحت في ضمان جودة العيش الكريم و الموازنة بين القانون والحرية،
فإن دول العالم الثالث والدول في طريق النمو لا زالت تجرب تمارين ثلاث، استكمال الوحدة الترابية وضمان الأمن القومي، و تحقيق التنمية، و تحقيق الديمقراطية.
من الطبيعي فالوتائر متفاوتة حسب شروط كل بلد وكل جماعة بشرية، ومدى إستعداد الأطراف الرئيسية المعنية بالتمارين الثلاثة أعلاه، أي المجتمع و الدولة في شخص النظام السياسي القائم.
يهمنا المغرب كثيرا، فكيف يتم تدبير التمارين الثلاثة؟
وهل يتحقق الإجماع بين مختلف الحساسيات حول هذه التمارين الثلاث التي تصب في النهاية فيما إنطلقت منه على أنه المصالح العليا للدول؟
ليس من شك في أن المملكة لا زالت لم تستكمل وحدتها الترابية إن على مستوى الجنوب والشمال، إذ ومنذ المسيرة الخضراء التي أسس لها الراحل الحسن الثاني ونجح عبرها في إسترجاع مناطق صحراوية، لا زالت الصحراء ( المسماة غربية في تداول الأمم المتحدة) موضع مطالبات من المملكة المغربية قياسا على الوقائع التاريخية والعلاقات بين القبائل الصحراوية والعرش العلوي على عهد السلطان محمد بن يوسف.
و يبدو أن مطلب الوحدة الترابية يوحد كل الحساسيات بالمغرب بغض النظر عن تدافعاتها و عن تفاوت رؤاها في قضايا خلافية أخرى.
يمثل هذا واحدا من أشكال التميز المغربي، ويعكس بجلاء كيمياء وحدوية ترسخت منذ الوجود الأمازيغي قبل 3000 سنة، فتفاعل أعراق وأجناس وأصول وشعوب مختلفة في المغرب الأقصى سمح بإنبثاق فكر وحدوي ووطني مميز.
لهذا ورغم أن تيارات سياسية يسارية وإسلامية عارضت نظام الحكم طويلا، فإنها إتخذت مواقف إيجابية من الوحدة الترابية ولم يسجل عنها معاكستها للمصالح الوطنية في باب إستكمال الوحدة الترابية.
وليس من شك أيضا في أن المملكة تقوم منذ منتصف التسعينيات بجهود كبيرة في التنمية.
صحيح أن سلوكا غير معقول يستمر في الحدوث ويرتبط بالجمع بين السلطة والثروة من طرف فاعلين متعددين وعلى رأسهم ما يعرف في الأدبيات السياسية بمؤسسة المخزن، إلا أنه لا يمكن نفي الجهود التي تبذل على مستوى تحسين ظروف عيش المواطنات والمواطنين إن على مستوى البنيات التحتية أو على مستوى الدخولات الفردية.
والظاهر أن هاته الجهود تعترضها مزيد من المعيقات أدت إلى فشلها وفشل النموذج التنموي برمته وهو ما أقر به الملك نفسه كأعلى سلطة.
ما الذي يجب القيام به إذن؟
يبدو أن هذا هو السؤال المركزي الذي يجب طرحه وبإلحاح؟
لماذا نجحت الدول الغربية في الوصول إلى جودة العيش الكريم في الوقت الذي تعجز الدول النامية، ومن بينها المغرب، عن تحقيق نموذج تنموي ناجح وفعال؟
لا تنمية دون ديمقراطية.
لا يتعلق الأمر بمجرد شعار سياسي مناسباتي، إنه المعادلة السياسية التي حكمت السلوك السياسي للدول الغربية، فهي الإجراء المسطري الذي حرك الإرادة السياسية للشعوب والأنظمة في الغرب.
لا تنمية دون ديمقراطية،
هذه إذن هي المعادلة التي يجب أن تنكب الدولة والطبقة السياسية بالمغرب اليوم على تفعيلها؛ ذلك أن مجمل التكتيكات والخطط التي اتخذت منذ الإستقلال كانت في العمق لتعطيل هذه المعادلة، وكل أشكال الديمقراطيات التي أتخذت تحت ضغط أو جوابا عن الظروف والشروط والملابسات السياسة القائمة هي التي عطلت الديمقراطية وبالتالي التنمية.
في 2018، لم يعد مسموحا الإستمرار في التجريب وفي التدبير بالتجريب، و بتقنيات إطفاء الحرائق وتدبير الأزمات،
ولم يعد مقبولا من الأحزاب السياسية أن تستمر في لعب ألعاب صغيرة لا ترقى إلى مقام المصالح العليا الوطنية.
كما لم يعد مقبولا أن تستمر الحكومات والنقابات العمالية في التراشق وفي المزايدات دون ربط التدافع الإجتماعي بفلسفة عاقلة.
إن الألعاب الصغيرة و المدافعات السوريالية التي يحفل بها الحقل الحزبي خصوصا بالمغرب اليوم تضعف ثقة وأمل الأجيال القادمة في بيئة سياسية سليمة وفي أمل بسياسة حقيقية.
إنه لصغير جدا وغير مقبول جدا أن ينشغل فاعلان سياسيان حكوميان بضربات متبادلة تحت الحزام، أحدهما يشيطن الآخر و الثاني يضربه إقتصاديا، في الوقت الذي يبني طرف خارجي، تتعارض خطاطته الدينية والعقدية مع الخطاطة الدينية والسياسية للمملكة، أنفاق تحتية لتهديم الوحدة الترابية والوحدة الدينية والمذهبية للمملكة المغربية.
وإنه لغير عادل كليا أن تحتكر فئة قليلة نسبة كبيرة من الثروات ومن عائدات التنمية في الوقت الذي تعيش طبقات واسعة ظروفا إقتصادية وإجتماعية صعبة، بل وصعبة جدا.
في 2018، لم يعد معقولا أن تستمر البلاد في إنتظارية مفتوحة في عدد من الأوراش، صحيح أن قضية الوحدة الترابية تعطل عددا من المخططات وتجعل العقل السياسي للمملكة مشدودا وغير مرتاح وغير صافي الدهن، كما ترهن طريقة و شروط صياغة الميزانيات والمال، ومع ذلك لا بد من جرأة في تحريك بعض الملفات، فالبطالة، ولا سيما بطالة وصلت مستويات مرتفعة، ونسب العزوف عن الزواج وصلت أرقام مخيفة بحوالي 8 ملايين شابة غير متزوجة، ونسب الفقر إرتفعت منذ حوالي عقد من الزمن و أرتفعت أكثر منذ 2011، ونسب الهشاشة تطورت منذ قرار تحرير الأسعار ورفع الدعم العمومي، والحكم بإسم الدين وسع من سلة اللامتدينين واللاأدريين والملحدين،
ونسب الجريمة إرتفعت بشكل كبير إرتباطا بإرتفاع نسب الفقر والهشاشة،
وبالمقابل،
لا يجب نفي الجهود الكبيرة في باب البنيات التحتية وتوسيع سلة الحريات و تخفيض سلة العقوبات،
ولا يجب نفي جهود المملكة في الدفاع عن الوحدة الترابية وشرح الحقوق التاريخية للمملكة،
ولا يجب نفي نجاح المملكة من خلال نجاح جلالة الملك في الحفاظ على مسافات أمان كافية من تشابك العلاقات بين مصالح دول مجلس التعاون الخليجي،
ولا يجب نفي نجاح المملكة في التعامل البيداغوجي و النفسي مع مقتضيات الإتفاقيات الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان.
في الحقيقة ليست هناك معارك متفرقة لنفس الجيش كما كان يقول بيسمارك، بل هناك معركة واحدة بأدوار مختلفة ومتكاملة.
في حالة المملكة المغربية اليوم،
ليست هناك معارك متفرقة،
هناك فقط معركة واحدة بأوجه ثلاثة:
– الوحدة الترابية والأمن القومي،
– الديمقراطية،
– التنمية والعيش الكريم،
لماذا تغتني أقلية قليلة و تتفقر فئات عريضة؟
لماذا تنشغل أحزاب كثيرة بحروب صغيرة و ضربات تحت الحزام في الوقت الذي تتهدد الوحدة الترابية مخاطر كبيرة؟
لماذا تنشغل أحزاب كثيرة بمصالح فردية و خاصة لأعضائها في الوقت الذي يفشل نموذج تنموي برمته؟
لماذا تتغنى أحزاب كثيرة بديمقراطية جنينية لم تشب بعد في الوقت الذي يمكن أن تختنق أو تموت فيه إذا لم تزود بالأوكسجين الكافي من النضالات والإقتراحات؟
هاته الأسئلة لا تسائل فقط الطبقات المتنفذة والطبقة السياسية، بل تسائل مصير الوطن.