إذا كانت مختلف التحليلات الإعلامية قد أسهبت، إلى حد بعيد، في فك رموز مغزى الذرائع المصرح بها المعتمدة ظاهريا في سياسة العلاقات الدولية الإيرانية مع جيرانها في الشرق الأوسط، فإن التطورات الأخيرة، المرتبطة بالقضية الإيرانية ومستقبل مشروع الشرق الأوسط الكبير الممتد من المحيط الهادي شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، قد طرحت من جديد فرضية كون التصريحات المتتالية لزعماء هذا البلد لا صلة لها بالنوايا المبطنة. إنها تطورات ذات طبيعة من شأنها أن تزيد من حدة تدهور الثقة بين هذا البلد وكل دول الجوار المباشر وغير المباشر. لقد أصبح مشروعا الشك في التصريحات التي تعتبر أن كل ما تقوم بها الدولة الفارسية يندرج في إطار سياسة دفاعية حمائية ضد العدو الصهيوني، سياسة ترمي إستراتيجيا إلى توفير الظروف المواتية لترسيخ بناء قنوات المد الشيعي بالتدرج على مستوى بلدان الجوار وتحويل مكتسباته إلى خطة دفاعية صلبة لحماية مصالحها القومية (مواجهة المخاطر عن بعد، أي من خارج إيران كما هو الحال في لبنان وسوريا والعراق واليمن …). فإضافة إلى ما تلعبه من أدوار مباشرة (التصاريح المعلنة) وغير مباشرة (الحروب بالوكالة) في الصراع المصطنع مع الدول السنية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، والذي تطمع من خلاله الدولة الفارسية إلى إضفاء نوع من التمييز الإيجابي “للإسلام الشيعي” مقارنة مع “الإسلام السني” في أذهان الشعوب المسلمة، نجدها لا تكل ولا تمل في تقديم الدفوعات والمبررات، مستغلة كل المنابر الممكنة، في شأن كونها الدولة الأكثر دفاعا على القضية الفلسطينية، والأكثر عداوة للكيان الصهيوني ودولة إسرائيل. إنها تروج يوميا كون زرع الكيان الصهيوني على أرض فلسطينية هو في حقيقة الأمر مجرد آلية سياسية وعسكرية واقتصادية غربية تندرج في إطار إستراتيجية محكمة على المدى المتوسط أو البعيد (تتضمن خيار الفوضى الخلاقة) للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط بالكامل بتوافقات، جزء منها معلن ومفهوم وجزء آخر غير معلن ولا يمكن فك رموزه نسبيا إلا من طرف الخبراء السياسيين، ليتأتى للقوى العظمى في العالم في نهاية المطاف إعلان دولة إسرائيل الكبرى، على غرار إعلان النظام العالمي الجديد، لكن هذه المرة في إطار اقتصاد السوق تحت الإشراف المباشر للمنظمة العالمية للتجارة. إلا أن ما تم الإعلان عليه من طرف المملكة المغربية هذا الأسبوع في شأن محاولات إيران زعزعة استقرار المنطقة المغاربية، بعد اتخاذ خطوات ديبلوماسية جادة ورصينة وتقديم تبريرات مقنعة، لا يمكن أن لا يدفع المتتبعون اليوم إلى تعميق البحث وإعادة تشريح الدفوغات الإيرانية بالكامل، طارحين فرضية وجود مشروع عقائدي، قيادته السياسية هي الدولة الإيرانية، يرمي إلى عولمة “النموذج الاقتصادي الإسلامي الشيعي” على أنقاض “النموذج الاقتصادي النيوليبرالي”. بالطبع الحاجة إلى هذا التشريح، المطلوب اليوم وباستعجال، يجب أن توازيه خطوات جريئة، يتخذها الغرب في مرحلة أولى، والدول الصناعية في مرحلة ثانية، لإقناع شعوب العالم عامة وشعوب دول الجنوب خاصة، بمختلف معتقداتهم الدينية، أن العالم يسير في طريقه لترسيخ قيم “القوة الناعمة” بخطى ثابتة، وعلى أساس الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان الكونية السياسية والاقتصادية والثقافية.
وهنا أرى من اللازم التذكير كون العالم الإسلامي قد عاش الانفتاح والتسامح والتطور العلمي والاقتصادي والثقافي إلى غاية القرن 12. وكانت الحصيلة موضع إعجاب العالمين، ليتم بعد ذلك تسجيل نوع من التراجع، تحت ضغط المصالح الفئوية على مستوى البلد الواحد، على الثروة العقلانية والتنازل عليها لفائدة الفكر التقليدي، الذي يتزعمه تحالف قوي ما بين زعماء السياسة والفقهاء، إلى درجة أصبح التفكير والتحليل النقدي العلمي والفلسفي في المجتمعات الإسلامية بمثابة جريمة مرادفة لمجافاة الدين ومعاداته. لقد كانت النتيجة الحتمية هو الدخول إلى مرحلة الجمود والانغلاق والأصولية والتزمت العقائدي، في وقت تمكن فيه الغرب، انطلاقا من بداية انحطاط الفكر الإسلامي في القرن 12، من استغلال كل منجزات العالم الإسلامي والحضارات الأخرى، لينطلق قطار التطور والتحديث بسرعة فائقة جعلت الهوة ما بين الشمال والجنوب كبيرة جدا، ويصعب اللحاق به.
ونظرا لما حققه المسلمون إلى حدود القرن 12، أصبح الإسلام إلى وقت قريب مثار إعجاب الغرب، وترتب عن هذا الإعجاب إلغاء العراقيل أمام عمليات تلاقح القيم الحضارية كونيا، والذي استمر في مرحلة الامبريالية إلى أن حصلت دول الجنوب على استقلالها بعد ذلك. وقد اعتبر المتتبعون الإعلان المتتالي للاستقلال هنا وهناك بمثابة تمرين جديد بالنسبة للدول المستقلة في مسار الاستمرار في البناء الذاتي للمؤسسات على أساس شعارات الحداثة والتحديث والعصرنة. وكإشارة غربية لدعم هذا المسار، والتي تلتها إعلانات وقرارات مسترسلة في الزمن والمكان، كان منطق تطور الأحداث واضح بحيث أبان عن وجود نوع من الانشغال لدى الحكومات الغربية بتتبع المشاريع السياسية للدول المستقلة، ونوع من الحرص على حمايته من الانزلاق في اتجاه الشيوعية. وبفعل هذا الاهتمام، الذي لا يخلوا من وجود مصالح جيواستراتيجية لدى الغرب، تجاوزت العلاقات الدبلوماسية فترة التوتر والصدامات القديمة. فعلا، لقد توج هذا المسار باعتراف المجتمع الفاتيكاني برسالة القرآن التوحيدية في أكتوبر سنة 1962، وشاءت الأقدار مرة أخرى أن لا يكتمل هذا المسار التناقحي والتلاقحي ما بين القيم الحضارية ما بين دول الشمال ودول الجنوب. في هذه الفترة “التصالحية” بالذات، وحسب ما جاء في عدة كتابات، تمكن آية الله الخميني، بعد نجاح ثورته العقائدية الشيعية والانقلاب على إمبراطورية الشاه، من فرملة هذا المسار، لتتكرر الظاهرة بعد ذلك في باكستان وأفغانستان والسودان والجزائر… لقد شاعت الدعوات إلى الجهاد المقدس، وتطورت ظاهرة الإرهاب،… إلى أن أصبح اليوم مشاعا أن الإسلام يثير الخوف بسبب خطف الرهائن وحدوث الاغتيالات والانفجارات والتهديدات، وبرزت نزعات وصراعات تعود إلى القرون الوسطى، كالعنصرية والتطرف السياسي اليميني المعادي للأجانب.
لقد صرح آية الله الخميني سنة 1997 كون الحرب القادمة ستكون بين المسلمين والمسيحيين… وبدأنا نسمع اليوم، بعد ما سمي بالربيع العربي والفوضى الخلاقة، اقتراب إعلان الحرب على إيران … وأن الدقات على طبول هذه الحرب ستزداد حدة، ليبقى واجب تتبع تطور المواقف الإيرانية ومدى تقديرها لخطورة هذا المنعطف على شعبها أولا، وعلى شعوب المنطقة بالكامل، ذا أهمية بالغة بالنسبة للرأي العام الإقليمي والعالمي… إن الدعم الذي تقدمه لإثارة الفتنة في الصحراء المغربية يتناقض رأسا على عقب مع ما جاء في المقال الأخير لوزير خارجيتها والذي أقر من خلاله كون إيران لا تعادي العرب ودول الجوار ولا تقوم بأي فعل أو عمل قد يهدد سيادتها واستقرارها… كما أن ما تقوم به منذ مدة لا يمكن تفسيره اليوم إلا كونها صاحب مشروع توسعي، وكونها منخرطة في حلف دولي بدوره منخرط في حرب باردة بمنطق جديد بالرغم من كون الدول المكونة له لا تربطها أي قواسم إيديولوجية.
وعلى هذا الأساس، لقد تتبع الرأي العام العالمي كيف لم تجد إيران من وسيلة للرد على المغرب سوى اتهامه بالانصياع لضغوط المملكة العربية السعودية. لقد تجاهلت المواقف الدبلوماسية الرصينة للدولة المغربية السابقة التي تم اتخاذها بكامل الاستقلالية بما في ذلك الموقف من ضرب سوريا من طرف الحلف الثلاثي مؤخرا (فرنسا وبريطانيا وأمريكا)، والموقف من الصراع الخليجي ضد قطر… لقد تجاهلت كذلك أن المملكة المغربية لا تعادي أي دولة في العالم ولا تكل ولا تمل من الدعوة إلى السلم والسلام والتسامح والتضامن بكل أشكاله السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية.