منذ اهتدت الجماعاتُ البشرية إلى الدولة، لوقف ما سمّاهُ هوبس ولوك حالة الحرب، أو ما سمّاهُ الأوّلُ منهما الحرب الدائمة، ومن أجل إقرار الأمن الاجتماعيّ والسّلم المدنيّ، من حيث إن قوانين الطبيعة، كما قوانين العقل، تمليهما وتفرضهما لحماية قانونٍ آخر من قوانين الطبيعة هو: حفْظ النّوع الإنسانيّ…، تحوّلت (الجماعاتُ تلك) إلى جماعات سياسيّة تدير شؤونها بمقتضى التوافق الذي أملتْهُ قوانين العقل، بحسب فلاسفة العقد الاجتماعيّ، ووفّرت، بتوافُقها ذاك، صوْناً جماعيّاً للأمن والسلام. لكنّ الانتظام داخل الدولة، والاتفاق على قواعد الحكم، لم يُنْهِيا الصراعات الاجتماعيّة كافة، فهذه بقيت تُفصِح عن نفسها بأشكالٍ مختلفة وحول مسائلَ وأهداف متعدّدة منها السلطة والثروة. وليس استمرار الصراعات الاجتماعيّة هذه – بما فيها الصراعات الطبقيّة الحادّة التي سيُطلِقها ميلادُ النظام الرأسماليّ واسْتتبابه – قرينة على إخفاقٍ ما للدولة في منْع النزاعات الاجتماعيّة، ذلك أنها كانت (أي النزاعات) تجري في كنفِ وحدةِ الدولة وانتظام نظامِ اشتغالها، فلم تكن، بالتالي، لتضع وجودَها كدولة في أزمة؛ ولأنها- ثانياً- لم تنزلق، في الأغلب من حالاتها إلى العنف بما يهدّد استقرار الدولة ووجودها؛ ثم لأنها – ثالثاً- مبرَّرة كصراعات لأنّ مبناها على تضارُب المصالح الاجتماعيّة. غير أنّ أسوأ النزاعات الاجتماعيّة الداخليّة، التي تحيد عن نهجها السلميّ فتَرْكَبُ مَرَاكب العنف وتهدِّد، بالتالي، وحدة المجتمع واستقرار الدولة – وأحياناً وجودَها- هي تلك (النزاعات) التي يُجنِّد فيها هذا الفريقُ أو ذاك مواردَ قوَّةٍ ذاتَ طاقةٍ تفجيريّة للبنية الاجتماعيّة، مثل الدين والطائفة والمذهب والعِرق والعصبيّة الأهلية (القبَليّة، العشائريّة، العائليّة، المناطقيّة…)، فالمواردُ هذه تقسيميّة بطبيعتها، لأنها لا تمثِّل جامعاً اجتماعيّاً، ولا تدخُل في جملة العلاقات الأفقيّة الانصهاريّة أو التوحيديّة، ثم إنّ الانكفاء إليها والاعتصام بها يؤسِّس لمواجهاتٍ مفتوحة بين بنًى اجتماعيّة مقفَلَة على بعضها ومتنابذة تتبادل الإنكار والإلغاء ! قد يكون العاملُ الدينيّ أكثر تلك الموارد فاعليّةً توحيديّةً في المجتمع، بالنظر إلى أنه المشتَرَك الجامع للناس أو لأكثرهم. لكنّ ذلك يقال بحسابٍ نظريّ صوريّ، ذلك أنّ «المشترك» هذا يتبدَّد، في الواقع، في بنى انقساميّة (مذهبيّة) متقابلة، أو إيديولوجيّة – سياسيّة متجابهة. وعلى ذلك، فإنّ الدين، الذي يمكن أن يكون رأسمالاً توحيديّاً في حالات، سرعان ما يغدو، في أخرى، مبعثَ فُرقةٍ وشقاقٍ ونزاع، وتحديداً حينما يُجَنَّد في الصراعات الداخليّة فينقسم الناس عليه بعد إذْ كانوا عليه يجتمعون، ويجدون فيه طاقةً دافعةً نحو التوحُّد! والذين يستثمرون الرأسمال الدينيّ في الصراعات الاجتماعيّة يُدرِكون، على التحقيق، الطاقة الهائلة التي يبعثها استثمارُهُ في التجييش والتعبئة والتحشيد، وبناء القوّة الاجتماعيّة التي يتوسَّلونها لتحصيل الأهداف المرغوبة (من وراء الاستثمار ذاك)، لكنهم قلّما يدرِكون أنّ التلاعُب بهذا الرأسمال الدينيّ نظير التلاعُب بالنّار، وأنّ ما يحسبونه ميداناً فسيحاً لفروسيّتهم، وحدهم، سرعان ما يُميط النقاب عن نفقٍ مسدود يَلِجونه، ولكن بعد أن يُدخلوا معهم المجتمعَ برمّته فيه! لا غرابة، إذن، في أن تحترق أصابع كثيرٍ من اللاعبين ب«لعبة» الدين ممّن خُيِّل إليهم أنهم وحدهم الأبطال في الحلبة!

إنّ استغلال الرأسمال الدينيّ في الصراع على السلطة والثروة – على النحو الذي شهدنا ونشهد على فصولٍ دمويّةٍ منه في الوطن العربي منذ تسعينات الجزائر المروعة، خاصة، في هذه السنوات السّبع العجاف ممّا أطلقوا عليه اسم «الربيع العربيّ» – هو أقصر الطُّرُق إلى الفتنة والحرب الأهليّة، أي إلى تفجير البنى الاجتماعيةّ، وتمزيق أوصال الجماعة الوطنيّة، وتفكيك كيان الدولة. تمزّقت قبلنا صربيا وتمزّقت البوسنة والهرسك من وراء إدخال العامل الدينيّ في الصراع على السلطة والمصالح. وقبلها انقسمت إيرلندا على حدّ سكّين الصراع بين البروتستانت والكاثوليك. وقبل قرابة العقدين، كادت الجزائر أن تسقط في جملة مَن سقطوا بحراب «جيش الإنقاذ الإسلاميّ» (الذراع العسكريّة ل«الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ») وخاصة بحراب «الجماعة الإسلاميّة المسلّحة».

نعود من هذه الاستطرادة -التي اقتضاها البيان- إلى القول إنّ إقامة السلطة على الدين، أو إقامة مشروعٍ سياسيّ عليه، أو إقحام الدين في السياسة والصراعات الاجتماعيّة (الدائرة، حكماً، على مركزٍ هو: السلطة والثروة) لا يخدم، في شيءٍ، لا الدين ولا الدولة ولا المجتمع ولا السياسة، بل يرتدّ عليها جميعِها بالسّلب والتدمير. وهكذا يطيح استغلال الرأسمال الدينيّ في الصراعات الاجتماعيّة بواحدٍ من أهمّ أسباب وحدة المجتمع وسلامه وأمنه: الذي هو الدولة.

ليس من مخرَج من هذا النفق الكالح سوى بتحييد الدين من المنازعات الاجتماعيّة على السلطة والثورة؛ حفظاً لمقامه ولنُبْل مقاصده،

أوّلاً، ثم حمايةً للدولة والمجتمع مما ينتظرهما من استغلال للدين في الصراعات الاجتماعيّة..

ثانيًا. وتحييد الدين في المنازعات ليس شيئاً آخر غير العودة به إلى مكانه الطبيعيّ: الحيِّز الشخصي الإيماني.

 

الجمعة 04 ماي 2018.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …