منذ أن بدأ الوعي الديني يفرض نفسه على حياة الإنسان البدائي, راح هذا الوعي يتكثف شيئاً فشيئاً ليتحول إلى نسق معرفي اختص في التعامل معه قلة من أبناء المجتمع كانوا على درجة من الذكاء  والمعرفة في طبيعة ظروفهم المعيوشة, وهم الذين سموا تاريخياً برجال الدين أو الكهنوت, حيث استطاعوا بذكائهم أن يحولوا هذا النسق الفكري الديني إلى وعي شمولي, له أدواته وآلية عمله وقدرته في السيطرة وإدارة حياة الفرد والمجتمع عبر مراحل التاريخ.

     أما أول مسألة استطاع رجال الدين وسدنة معابده فرضها على وعي الإنسان البدائي, هي وجود (إله أو آلهة) لديها القدرة الكلية على التحكم بحياة الناس في هذه النشاط أو ذاك من نشاطهم الروحي والجسدي… هذا الإله أو الآلهة التي تطورت في شكلها ومضمونها ووظيفتها تاريخياً, إن كان في المرحلة الطوطمية, باتجاهاتها الثلاثة الطبيعيّة والحيوانيّة والإنسانيّة, حيث كانت تجسد أو تمثل هذه الآلهة في ثور أو شجرة أو رجل,  وصولاً إلى حالات تجريدها وترميزها وبالتالي منحها سمات وخصائص ووظائف ظلت ترتبط أيضاً بعلاقات الناس وحاجاتهم المادية والروحية, كآلهة المطر والخصب والنار والحرب والحب والظلام والجمال.. إلخ, وصولاً إلى درجة توحيد هذه الآلهة في إله أكثر قدرة وقوة من بقية الآلهة يتناسب وجوده مع حالات التطور التي وصل إليها المجتمع عبر مراحل التاريخ, حيث استطاع رجال الكهنوت ومن يسيرهم من السلطات الحاكمة أن يحققوا في مراحل سياسية تعود إلى ما قبل التاريخ ضم مناطق متفرقة لها آلهتها الخاصة وحكامها الخاصين في منطقة واحدة أصبح لها إله واحد وحاكم واحد, كما هو الحال في مصر عندما اشتغل الكهنوت بأمرة “أخناتون” على توحيد الوجهين القبلي والبحري في مصر تحت راية الإله (“شمس” بعد أن جرد ورمز في صورته المعروفة تاريخياً.

    أما المسألة الثانية لوظيفة هؤلاء الوسطاء من رجال الدين أو الكهنوت, فهي العمل على إيصال الناس وخاصة عند الشعوب القديمة إلى الاعتقاد بأن الإله يختار من بين خلقه من يكون وسيطا بينه وبين مخلوقاته على السواء، وهذا الاختيار كان مبنيا على جملة من الصفات والشروط استأثر بها منذ بداية ظهور الوعي الديني سدنة المعابد والكهنة، وقبلهم السحرة والمشعوذين في المجتمعات الطوطمية.

    لقد بُنيت فكرة الوسيط البشري (الكهنوت) في الديانات الطوطمية, وفي ديانات المجتمعات أو الحضارات القديمة, كحضارات السومريين والأكاديين والبابليين والآراميين والكنعانيين والفرعنة واليونانيين وغيرهم, على فلسفة أسطورية محضة. أي بُنيت على فكرة أن للإله كلام ليس ككلام البشر, وإن كان بلسانهم وألفاظهم، بل هو كلام آخر لا يعرفه إلا الكاهن أو السادن، فالإله لا يلقى بحكمته إلا لمن ارتضاه صاحبا وترجمانا له, ومع مرور الأيام ارتبطت وظيفة هذا الوسيط بالسلطة والسيادة. فالسادن هو الوحيد الذي يعرف الحقيقة المقدسة، والآخرون بحكم عدم اختيارهم أو اصطفائهم من قبل الإله, عليهم التصديق والتسليم بما يقوله هذا الوسيط من أقوال أو أحكام كونها لسان الإله. وبناءً على هذه الوظيفة التي تُنمح للوسيط كمفسر لكلام الإله, يصبح هو في المرحلة الطوطمية الحاكم والمتسلط والسيد وصاحب الأمر والنهي, وهو في المرحلة اللاحقة للطوطميّة – أي مع عصر الملوك الآلهة – يصبح الأكثر قرباً وحظوة عند الملك أو الحاكم الإله, كونه القادر بإسم الآلهة التي اختارته كوسيط بينها وبين الاخرين أن يبارك للملك سلطته ويقنع الشعب بها, وبالتالي هو وحده بوعيه لدوره هذا قادر على تحديد أساليب وطرق تولية الحاكم نفسه مقامه وكيفية تجديده والحفاظ عليه، وأخيراً كيفية إقناع ما تبقى من أفراد المجتمع وهم العبيد والخدم، الطاعة والامتثال لهذه السلطة وتنفيذ أوامرها..

    لاشك أن هؤلاء الوسطاء كانوا على درجة عالية من المكر والخديعة. (مع استثناء الأنبياء والرسل في الرسالات السماوية والقابضين على دينهم من وسطاء هذه الديانات السماوية), وأن ممارستهم لأعمال الوساطة هذه, كانت تدر عليهم أموالاً طائلة, حيث تحولت نشاطاتهم والمؤسسات الدينية التي كانوا يديرونها, إلى مراكز كبيرة للثروة, وذلك بسبب ما يقدم لهم ولها من هدايا وضحايا من قبل الحاكم والرعايا من جهة, ثم بسبب ممارستهم الزراعة وغيرها من الأعمال أو الحرف داخل معابد آلهتهم أو داخل الأطيان التي منحت لها, التي تدر عليهم الأرباح الطائلة أيضاً من جهة ثانية, وهذه الطريقة في جني الأموال انتقلت إلى الكثير من رجال الدين ومشايخه في الديانات السماوية الثلاث بعد وفاة الأنبياء, حيث تحولت المؤسسات الدينية وخاصة في الديانتين المسيحية والإسلامية إلى مراكز اقتصادية هامه, إن كان للكنائس في الديانة المسيحية, أو لدوائر أو مديريات الأوقاف في الديانة الإسلامية.

     إن احتكار المعرفة الدينية رافقه بالضرورة احتكار المال والجاه والتقرب من السلطان. وهذه المعرفة مع تقدم الزمن أصبح لها مؤسساتها ومدارسها وعلومها الخاصة بفهم النصوص المقدسة والعمل على توظيفها إما لخدمة السلطان أو لمصالح أنانية ضيقة من قبل الذين في قلوبهم زيغ. وغالباً ما تقدم هذه المعرقة الدينية للرعيّة بصورة مشوهه تساهم كثيراً في تغييب الجانب العقلاني عندهم. أي هي معرفة يغلب عليها الجانب الأسطوري والغيبي ولامتثالي والاستسلامي والسطحي المشبع بالكرامة والخرافة, على حساب المعرفة العقلانية التي تعطي, للعقيدة مكانتها الحقيقة ودورها في بناء الإنسان من خلال مقاصدها الخيرة, مثلما تساهم في الحفاظ على كرامة الإنسان وحقه في تقرير مصيره.

    نعم لقد ارتبطت وظيفة الوسيط الديني بممارسة السلطة الروحية وغالباً ما تمتد إلى السلطة الزمانية نفسها، فإذا كانت هذه السلطة الروحية قد سيطرت في العصور الوسطى على السلطة الزمانية ذاتها, كما هو الحال في سيطرة الكنيسة بكهنتها على السلطة (الزمكانية) في أوربا العصور الوسطى. أو أصبحت سلطة يقودها الخليفة بإسم الدين من خلال علماء الدين الإسلامي ومشايخه. فأن هذه السلطة الروحية ممثلة بوسطائها لم نزل نجدها تمارس اليوم وللأسف لدى الكثير من وسطاء الدين في الديانات السماوية الثلاثة. فابسم التوراة وأساطيرها يطرح قيام الدولة اليهودية على حساب شعب هو صاحب الأرض وقاطنها منذ آلاف السنين, وباسم الإنجيل وعودة المسيح, يطالب تيار من المسيحية وهو “البروتستانتية” بعودة هؤلاء اليهود إلى فلسطين حتى يظهر السيد المسيح, فظهوره أو عودته مرتبطة بعودة هؤلاء إلى أرض الميعاد وبعودتهم سيقوم السيد المسيح بنشر العدل والقضاء على الفساد في هذا العالم. وباسم الأيديولوجيات السياسية تعقد الندوات والمؤتمرات الإسلامية لوسطاء الدين الإسلامي هنا وهناك من عالمنا العربي والإسلامي. هذا إضافة إلى استمرارية هذا الوسيط بروحه وقيمه الأسطورية في وسط الجماعة البشرية، ففي الأمة الإسلامية على سبيل المثال لا الحصر, لازال أهل القبور من الأولياء يمثلون الوسيط السحري بين العبد وربه، وهم بكراماتهم يستطيعون تأمين حاجة المحتاج وفك كربه رغم كونهم أمواتا, على اعتبار أن رفاتهم بعد موتهم لا تفنى, وأن شفاعتهم لترتجي. علماً أن هذه الظاهرة ليست من صلب الدين الإسلامي, كون الرسول نفسه يرفض مسألة التقديس وهو القائل: ( انا ابن امرأة كانت تأكل القديد). وإن الله عز وجل يقول في كتابه الحكيم عن الرسول محمد : (وما أنا إلا بشر مثلكم).  إلا أن المخيال الاجتماعي المشبع بإرهاصات الفكر الديني الطوطمي, لم يستطع التخلص من هذه المعتقدات الأولية البدائية، أي من أولى تصورات مغامرات عقلهم البدائي.

أما السحرة والمشعوذون من هؤلاء الوسطاء فحدث ولا حرج, فبعيداً عن كتابة (الحجبة) وممارسة الشعوذة بأبخرتها وأسماء جنها, التي لازالت تعمل على إيهام الناس بالقدرات الروحية لهؤلاء الوسطاء المشعوذين باسم الدين, فهناك تسييس مدروس أيضاً من قبل بعض القوى السياسية الحاكمة التي ساهمت بهذا الشكل أو ذاك في فتح الكثير من القنوات الفضائية وتسخيرها لهم إمعاناً في تجهيل الناس وقمع وعيهم العقلاني.  

    بيد أن هؤلاء الوسطاء ذاتهم, لا يمكننا الحكم عليهم وفقاً لمواقف بعض المشعوذين والمرتزقة من الحياة والدين معاً, وبالتالي لا يمكننا القول بأن كل الوسطاء الذين نصبوا من أنفسهم حملة للفكر الديني والمبشرين به بعد وفاة الأنبياء هم فاسدون ومستغلون ومتاجرون بالدين, بل إننا نجد بين هؤلاء الوسطاء من هو الأكثر قدرة على فهم روح الدين وجوهره ومقاصده الإنسانية, والأكثر قدرة أيضاً على تمثيل الدور التبشيري الذي قام به الأنبياء الذين استطاعوا أن يغيروا مجرى تاريخ البشرية رغم معاناتهم من تجار الديانات السماوية وما قبل السماويّة, وكانوا بما بشروا به وسطاء مشبعين بروح العقيدة والإنسانية معاً.  مثلما كانوا قادة لثورات اجتماعية ضد الظلم والقهر والاستغلال والعبودية غيرت مجرى التاريخ.

     وبناءً على كل ما جئنا عليه نستطيع أن نشير إلى ثلاث نماذج من هؤلاء الوسطاء الدينين, وخاصة في الخطاب الديني السماوي, وفي مقدمته الدين الإسلامي, الذين أعطوا أنفسهم أو أعطتهم المؤسسات الدينة مهمة حمل مشروع أو دور الوساطة بين الله والناس من منطلق كونهم الأكثر قدرة على فهم الخطاب الديني وتوصيله إلى الناس. مستلهمين هنا التقسيم الذي وضعه الجابري في تعامل مع بنية العقل العربي, حيث سنقوم بتوظيف هذا النماذج العقلية الثلاثة على الوضعية الفكرية لهؤلاء الوسطاء ومدى توافقها مع مقاصد الدين من جهة, ومع الوظيفة التبشيرية أو الدعويّة التي يمارسها هؤلاء الوسطاء.

1- وسطاء البيان

2- وسطاء العرفان.

3- وسطاء البرهان

    فوسطاء البيان: هم الذين تعاملوا مع اللغة في فهم النص المقدس من حيث تفسيره وتأويله, كما أصل لها سيبويه وابن الجني وغيرهما من النحاة, الذين وجدوا في الإنسان البدوي المرجع الأصيل لضبط وتوثيق لغتنا ومجازها وكل ما يتعلق بها من جناس وطباق وتمثيل أو علم بديع , وكذلك تعاملوا مع ما أصله الشافعي في الفقه ومصادره وخاصة في تعاملهم مع مسألة (القياس) التي على أساسها يتحركون في تعاملهم مع القرآن والحديث والاجماع عند محاولتهم النظر في مستجدات الحياة, حيث اعتبروا أن ما قام بتأصله السلف في اللغة والفقه منذ بداية عصر التدوين (145) للهجرة, هي الأدوات المعرفية والمنهجية التي علينا نحن أيضاً التمسك بها وتوظيفها في نظرتنا التفسيرية والتأويلية للنص المقدس (القرآن), أو ما جاء به الحديث وما قرره الإجماع عند التشريع. وبالتالي فكل ما تركه لنا السلف الصالح من آثار فكرية على المستوى الديني بشكل خاص, وفقاً لذلك التأصيل البياني, هي وحدها التي علينا التعامل معها, أو الأخذ بها وبما حققته من نتائج على المستوى الفقهي واللغوي في القرون الهجرية الثلاثة الأولى.

     وانطلاقاً من هذا الموقف (البياني) أوقفوا دور العقل وقدرته على البحث واستنباط الحلول واستقراء النص المقدس وبالتالي التشريع وفقاً لمقتضيات العصر ومصالحه. وعلى هذا الأساس أوقفوا باب الاجتهاد. فما قرره الشافعي من أصول التشريع, وما قال به أبن حنبل وابن مالك وأبو حنيفة في الفقه, وما قاله سيبويه وابن جني وغيرهما في النحو والبلاغة وعلم البديع, وما قال به الأشاعرة والماتريدية في علم الكلام, ظل هو ذاته المرجع الوحيد لهم. وكل خروج عن هذه المراجع بدعة وكل بدعة ظلالة.

    بيد أن المسألة الأكثر خطورة هي أنه, من هذا التيار ظهر الكثير من رجال الدين الذين عملوا لخدمة السلطان وارتموا بأحضانه بحثاً عن الغنيمة, وكانوا الأداة الفاعلة في ترويض الرعية بإسم الدين وغرس الطاعة عندهم لكل ما يريده هذا السلطان حتى ولو ظلمهم وضربهم وتعدى على أموالهم. فهو خليفة الله عليهم جاء بأمره ولا خيار لهم في تبديله.

    إن العقل البياني والامتثالي والاستسلامي لهؤلاء الوسطاء هو العقل الذي يطلب المعاني من الألفاظ وليس من مضمون النص. وهو عقل ينظر إلى الأشياء والظواهر في الطبيعة والمجتمع كأجزاء مفردة منفصل بعضها عن بعض بناء على تأصيل الشافعي لقياسه, حيث يقاس الجزء على الجزء وليس الجزء على الكل. وهو في المحصلة عقل يرفض السببية والطبع, ويقول بالتجوز والعادة, هو عقل يهمل المقاصد الحقيقية للدين في امتداداتها التاريخية. ويتخذ من الجبر منطلقاً لمشيئة الإنسان, ويفرض قياس الشاهد على الغائب.

    أما وسطاء العرفان: فهم الوسطاء الذين ساروا على درب التصوف ومجاهدة النفس وإذلالها حتى تصل إلى نقائها المطلق الذي يؤهلها الوصول إلى الله. وهم بذلك رفضوا الواقع وقضاياه وما يتعلق فيه من فساد ورذيلة, ولا بد من تجاوزها طمعاً بالحياة الآخرة… حياة الجنة التي يحقق فيها المرء كل ما يريده أو يشتهيه.

هذا مع تأكيدنا بأن التصوف في حقيقة أمره تصوفان:

     الشق الأول من التصوف: وهو التصوف الذي نستطيع أن نعطيه الصفة الثورية. وهو تصوف الحلاج والسهروردي والبسطامي وذي النون, وغيرهم ممن آمنوا بضرورة الوقوف إلى جانب الفقراء والمحرومين والمضطهدين عبر طريقين هما. الأول: مجاهدة النفس أو الذات ومحاربة شهواتها وغرائزها وإهانة الجسد أمام ترقية الروح وتنقيتها من شوائب الرذيلة والوصول بها إلى صفائها المطلق, والثاني: هو الوقوف ضد ظلم السلطان ولو بالإشارة إلى هذا الظلم من خلال الوقوف مع الفقراء والمحرومين. وهذا الموقف الثاني هو من سبب لهم القتل والنفي والتعذيب من قبل السلطات الحاكمة بعد أن سُخر مشايخ السلطان لتكفيرهم وزندقتهم وإظهار ما يقولون به خروج عن الدين الصحيح الذي يريده السلطان.

    أما الشق الثاني من التصوف: فهو الشق الطرقي الذي كان أداة بيد السلطان من أجل تجهيل المجتمع وتغييبه عن الحقيقة وعن مآسيه منذ أن أسس له “نظام الملك” في زمن الدولة السلجوقية, وبنى له التكايا والزوايا وغدق عليه الأموال. وهنا يتحول الدين إلى أفيون الشعوب, حيث يستغل من أجل تعمية بصيرة الناس عن دورهم ومصيرهم ومكانتهم في هذه الحياة. هذا ويقوم مشايخ هذا التيار في التركيز كثيراً عن مسألة الفضيلة التي يُنظرون لها ويُبشرون بها عبر قصص وحكايات يغلب عليها الطابع الأسطوري والخرافي والمثالي, بغية شد الناس إلى مشروعهم من جهة, وزرع الخوف في نفوسهم وعقولهم في حال ابتعادهم عن هذا المشروع من جهة ثانية. فلا نستغرب أن نجد بين قصصهم ما تقول: بأن الأولياء بسبب كراماتهم لا تبلى أجسادهم بعد موتهم. وهناك قصص عن عذاب القبر وشفاعة الأولياء وغير ذلك الكثير من القضايا البعيدة عن هموم الناس وظروف حياتهم ومشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, بل تصل بهم الأمور إلى إدخال الناي والمزمار والدف والرقص في مشروع فضيلتهم.

    هذا وأن العقل العرفاني بشقيه الثوري والطرقي, ينطلق في الحقيقة من موقف جبري قاس لا يترك مجالاً لعقل الإنسان وحرية إرادته. فأفعال الإنسان وحركاتهم وسكناتهم كلها مخلوقة لله. وهناك رأي ينقله القشيري عن أحد المتصوفة سئل فيه عن الناس ودورهم ومكانتهم فقال: (قوالب وأشباح تجري عليهم أحكام القدرة). كما ينقل عن آخر قوله: (ولما كانت الأرواح والأجساد قامتا لله, وظهرتا به لا بذواتهما, وكذلك قامت الخطرات والحركات بالله لا بذواتهما إذ الخطرات والحركات فروع الأجساد والأرواح). عن كتاب بنية العقل العربي للجابري ص353. وهناك رأي للشيخ البوطي  يقول فيه في حلقة مسجلة سابقاً, على شاشة قناة نور الشام السورية بتاريخ 24/ 4/ 2018, (إن الإنسان ليس أكثر من جهاز استقبال لأوامر الله, وهو لا يقبض من أمره شيئاً. ).

    وسطاء البرهان: من الوسطاء الذين اتخذوا من العقل والمنطق وتجربة الحياة والاستقراء والاستدلال والاستنتاج والسببية والقول بالكليات ومقاصد الدين المرتبطة بتغير الأزمان والأحوال, وسائل ومنهجاً للوصول إلى الحقيقة والبرهان على صحة القيم الإنسانية في المشروع الديني ومنه الإسلامي القائم على احترام الإنسان ورأيه وعقله, وحريته وعدالته ومساواته, والتأكيد على دوره في تقرير مصيره. ألم يقل ابن رشد : (ليس من المفروض علي لكي أكون حكيماً أن أكون نبياً, فطالما انا أمتلك العقل فأنا حكيم). فمثل هذا القول وما يحمل من دلالات إنسانية هو الموقف الذي أمرنا الله به, وهو الذي سيدلنا على السراط المستقيم طالما أننا نهتدي إليه بالعقل ونوره.

    إن هذا الموقف البرهاني من الدين والحياة لا يعجب الكثير من السلطات الحاكمة, كونه يكشف عوراتهم ومصالحهم الأنانية الضيقة. لذلك ظل السيف مرفوعاً بوجه حملة هذا المشروع البرهاني, الذين ضحى الكثير من دعاته بحياتهم دفاعاً عن الحقيقة وكشف من يعمل على سترها. أليس من المفارقة أن يشكل فكر ابن رشد العقلاني المدرسة الرشدية في أوربا . بينما ظل فكر أبو حامد الغزالي وابن قيم الجوزية وأبي الحسن الأشعري وغيرهم من شيوخ النقل ومحاربة العقل والفلسفة هو السائد حتى اليوم في عالنتا العربي والإسلامي, فماذا نقول ونحن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين الذي وصل فيه العلم إلى درجة عالية من التقدم, للذين لازالوا يعتقدون ويدرسون ويروجون لفكر حجة الإسلام أبي حامد الغزالي مثلاً الذي يقول : (إن الإنسان لا يقوم بأعماله بنفسه, بل يقوم بها ملائكة سخرهم الله لتأدية هذه الأعمال).

 

كاتب وباحث من . ديرالزور- سورية
الخميس 26 أبريل 2018.

 

‫شاهد أيضًا‬

الخلاف والاختلافأو الفصل بين الواحد والمتعدد * الدكتور سعيد بنكراد

عن موقع سعيد بنكراد  يميز المشتغلون بأصول الفقه عادة بين أربعة مستويات في تناول النص ومحاو…