المغرب في حرب حقيقية مع الجزائر، منذ افتعال النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية منتصف سبعينيات القرن الماضي. هذه حقيقة راسخة في واقع العلاقات المغربية الجزائرية ليست قابلة للإنكار، رغم مراوغات القيادة الجزائرية ومحاولة تقديم المشكلة مع المغرب وكأنها مشكلة نزاع بين من ينتصر لحقوق الشعوب، وفِي مقدمتهم هذه القيادة التي نصبت نفسها ومن تلقاء نفسها في هذا الموقع من خلال تبني أطروحة الإنفصال في الصحراء المغربية استمرارا لأطروحة الاستعمار الإسباني بهدف خلق دولة وهمية في الأقاليم المغربية الجنوبية، وبين من فرضت عليه الحرب الساخنة فرضا لأكثر من عقد ونصف من الزمن تقريبا وهو يواجه الحرب الدبلوماسية والسياسية الاستراتيجية منذ أكثر من أربعة عقود، رغم محاولاته تهدئة الأمور وعدم رفع وتيرة الصراع، من جهته، إلى مستوياته العليا مع الجزائر باسم الأخوة بين الشعبين المغربي والجزائري تارة وباسم الأخوة وضرورة التكامل المغاربي تارة وباسم الحرص على استقرار المنطقة واستتباب الأمن فيها بصورة شبه دائمة وعلى قاعدة المراهنة على تعقل القيادة الجزائرية ونزوعها نحو السلم في كل مراحل النزاع في مختلف المراحل، لكن كل هذا وصل إلى الطريق المسدود، سواء تم الاعتراف بذلك أم تم تجاهله أو محاولة التستر عليه اعتمادا على قاموس لغوي أجوف، إذ ليس له ما يقابله على أرض الواقع. وهكذا لم تتمكن مراوغات الجزائر ومناوراتها من إخفاء الطابع العدائي، الذي هو في مستوى الحرب المنهجية بمختلف أشكالها على المغرب وحقوق شعبه الترابية والوطنية من جهة، كما لم تنجح، من جهة أخرى، سياسات اليد الممدودة المتبعة من قبل المغرب تجاه جارته الشرقية ومراهناته على تعقل قياداتها بإعادة النظر في مشروعها العدائي في تحقيق الغاية النبيلة المنشودة منها وطي صفحة هذا النزاع بما لا يتنافى مع حقوق المغرب ومصالح بناء منطقة المغرب الكبير لفائدة شعوبها.
النتيجة إذن فشل مزدوج: فشل المشروع الانفصالي المدعوم من الجزائر باعتباره جزءا لا يتجزأ من استراتيجيتها الهيمنية في المنطقة، وبالتالي، فشل القيادة الجزائرية في تحقيق أهدافها الرامية إلى منع المغرب من استكمال وحدته التراتبية أو جعله يتنازل عن أقاليمه الصحراوية.
وفشل سياسة اليد الممدودة المتبعة من المغرب والمراهنة على تعقل القيادة الجزائرية واحترامها لأبسط قواعد حسن الجوار والالتزام بما تعلنه من الحرص على مصلحة الشعوب واستقرارها.
وهذه هي دلالة استمرار هذا النزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية دون حل لعقود طويلة والتهديد المستمر الذي يشكله على المغرب ومصالحه الوطنية الاستراتيجية وعلى منطقة المغرب الكبير وشمال افريقيا والأمن الإقليمي والدولي على حد سواء.
وإذن لا بد من إعادة النظر في مقاربة هذا النزاع مغربيا، ما دامت المراهنة على تغير ما في الموقف الجزائري قد بلغت مداها فشلا. وليس هناك في الأفق ما يدفع إلى التفكير بإمكانية تجاوزه. إذ ليس من الحكمة، في شيء، استمرار مراهنة لم تؤت أكلها، لأكثر من أربعين عاما، خاصة مع معاينة التحول النوعي في استراتيجية الجزائر تجاه المغرب وعلى مستوى ملف الصحراء بالذات.
وقد جاءت تحركات البوليساريو الأخيرة في المنطقة العازلة شرق الجدار الدفاعي المغربي لتعطي تصورا واضحا على استمرار الجزائر في الدفع بميلشيات البوليساريو الى استفزاز المغرب بشكل مستمر الأمر الذي دفعه إلى الاحتجاج الرسمي لدى الأمين العام للأمم المتحدة لا سيما عبر رسالة الملك المغربي محمد السادس إليه وذلك لوضع النقاط على الحروف بخصوص خطوط حمراء مغربية على صعيد ملف الصحراء والتي يبدو أن القيادة الجزائرية لا تأخذها بعين الجد مما يهدد أمن المنطقة بأسرها.
لكن يبدو أن المتحدث الخاص باسم الأمين العام للأمم المتحدة يتجاهل أمرا مهما وهو يتعامل مع احتجاج المغرب على تحركات عناصر جبهة البوليساريو الانفصالية في المنطقة العازلة عندما يتحدث عن عدم رصد أي تحركات عسكرية لعناصر البوليساريو في هذه المنطقة، وهو يعلم، علم اليقين، أن الموضوع يتعلق بتصرفات الانفصاليين التي تحاول خلق أمر واقع جديد، في هذه المنطقة من الأرض المغربية، من خلال إقامة عدد من المباني وترحيل جزء من المحتجزين في تندوف إليها لاحقا.
هذا هو جوهر المشكل سواء تعلق الأمر بالعناصر المدنية ظاهريا أو العسكرية، لأنه لا يجوز لأي كان الدخول إلى المنطقة بما يمكن أن يؤدي إلى تغيير طابعها العازل.
وفِي الواقع، فليس ممكنا السكوت على هذه المغالطة لأنها تصب الماء في طاحونة استراتيجية العناصر الانفصالية التي هي جزء صميمي من استراتيجية القيادة الجزائرية تمهيدا لاتخاذ خطوة تصعيدية جديدة. وإلا ما معنى سعي الجبهة الانفصالية إلى إقامة ما أسمته وزارة دفاعها في هذه المنطقة بالذات؟ وهي ليست وفق القانون الدولي غير منطقة عازلة ولا تسري عليها مزاعم الأرض المحررة لأنه معضلة الجزائر وصنيعتها بالذات تكمن في فشلهما في إيجاد موطيء قدم لهما على الأرض المغربية.
صحيح ان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة عاد إلى تأكيد ان تصريحه لا يندرج ضمن منطق تفنيد احتجاج المغرب، بل هو فقط للتأكيد على ما عاينته بعثة المينورسو التي تعمل داخل نطاق جغرافي واسع جدا، ليس بالإمكان القول إنها قادرة على رصد كل شيء يجري فيه، وإنه ينتظر معلومات إضافية حول الموضوع، غير ان التصريح الأول للدبلوماسي الأممي ترك مفعوله السلبي على المستوى الإعلامي وحاولت جبهة الانفصال استغلاله بمختلف الوسائل إلى درجة إعادة التهديد باستخدام السلاح ضد المغرب.
فماذا تعنيه فعلا هذه التطورات؟
هناك أكثر من تفسير لهذه التطورات الميدانية يمكن اعتبارها صالحة لفهم ما يجري، وإن ليست كافية، معزولة بعضها عن البعض الآخر، لتقديم عناصر الفهم الأساسية لهذا الاستفزاز الجزائري المتعمد.
فليس مستبعدا في شيء أن تكون القيادة الجزائرية قد دخلت مرحلة حاسمة في الإعداد لما بعد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على مستوى تدبير ملف الصحراء. لأنها إذ اصطدمت بواقع تراجع الدول في مختلف القارات التي تعترف بما سمي بالجمهورية الصحراوية التي فقدت عددا كبيرا من المواقع داخل أفريقيا، مما أهل المغرب للعودة إلى العمل داخل مؤسسات القارة الرسمية، بدا لها أنه آن الأوان لإعادة النظر في المخطط الأصلي لفائدة مخطط بديل أو (ب) قبل فوات الأوان.
ولأن هذا الاحتمال ليس مستحيلا، فإن كل تطبيع مغربي مع واقع تجد فيها جبهة البوليساريو لنفسها مواقع ثابتة على الأرض المغربية تحت مزاعم تحريرها، سيؤدي، حتما، إلى التأثير على معادلات وملف الصحراء المغربية بما يرجح كفة الانفصال ذلك ان الحديث عن مؤسسات صحراوية قائمة الذات، على الأرض، يفتح المجال لتحويل الأنظار عن معسكرات الاحتجاز في تيندوف نحو ما يمكن اعتباره مناطق للانفصاليين يطالبون لاحقا بحمايتها دوليا وتحويلها الى نوع من المناطق الآمنة للمليشيات المسلحة.
وهذا يعني أن لا خيار أمام المغرب غير خيار العمل على إفشال مشروع الخطة ب في استراتيجية العدوان الجزائرية. وكل مراهنة على إمكانية تخفيف القيادة الجزائرية من قوة هيمنتها وتحكمها في المشروع الانفصالي تنم عن عدم إدراك لطبيعة تلك الاستراتيجية والعوامل التي أملتها على حكامها خلال أكثر من أربعة عقود.
وليس هناك جدال في أن سياق طرح المشكل وبهذه الحدة التي قد تنزلق في أي لحظة إلى نزاع مسلح هو أجواء تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول الصحراء والتجديد لبعثة المينورسو حيث تهدف الجزائر عبر عناصرها الانفصالية إلى الضغط على مجلس الأمن الدولي والتأثير على الصيغة النهائية لتقرير الأمين العام خاصة ان مقتطفات من التقرير التي تم تداولها لم تكن لترضي البوليساريو لأنها أشارت إلى ضرورة الحفاظ على الأمر الواقع في المنطقة العازلة وهو ما تم تفسيره بكونه موجها إليها خاصة في منطقة الكركرات.
وبطبيعة الحال، فإن للسياق ذاته أثره على تحرك المغرب على الأرض وتجاه الأمم المتحدة والمجتمع الدولي انعكس في تصعيد نبرة دبلوماسيته وإعطاء إشارات قوية على الأرض بأنه على استعداد لمواجهة كل استفزازات الانفصاليين بكل الوسائل المتاحة بما في ذلك العمل المسلح إذا اقتضى الأمر.
ويبدو أن رد فعل المغرب القوي تجاه محاولات البوليساريو خلق أمر واقع جديد قد كان له تأثيره الملموس على مجرى الأمور على صعيد ملف الصحراء وخاصة عندما دعا التقرير الأممي الجزائر إلى بذل مزيد من الجهود والانخراط بشكل أقوى للدفع بالجهود المبذولة في سبيل الوصول إلى حل سياسي لهذا النزاع الذي عمر لأكثر من أربعة عقود.