عاد الجدل، مرة أخرى، حول مسألة الإرث، بعدما اضطرت الدكتورة أسماء المرابط إلى تقديم استقالتها من مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام، التابع للرابطة المحمدية للعلماء؛ وذلك، إثر الضغوطات التي مورست عليها بسبب رأيها حول مسألة الإرث، الذي عبرت عنه في محاضرة جامعية لتقديم كتاب جماعي حول الميراث في الإسلام.
وقد حركت هذه الاستقالة البركة من جديد، فانطلقت حملة تضامنية مع الدكتورة المرابط، تلاها (أو تزامن معها) إطلاق عريضة مطالبة بإلغاء الإرث بالتعصيب في المغرب. والموقعون على هذه العريضة، هم شخصيات سياسية وثقافية وإعلامية وحقوقية… وازنة وتضم خيرة عقول المغرب، حسب ما جاء على لسان الباحث في علم التاريخ وفي الفكر الإسلامي، الدكتور محمد جبرون، الذي دعا “العلماء الرافضين لنقاش المساواة في الإرث، إلى شيء من الرشد” (انظر “العمق المغربي” بتاريخ 25 مارس 2018).
وبمجرد الإعلان عن هذه العريضة، انطلقت عريضة أخرى مضادة تطالب باحترام “أحكام الشرع” والحفاظ على نظام الإرث الإسلامي، بحجة الحفاظ على “شرع الله”، حسب القائمين عليها والمروجين لها.
وتذكرنا حملة العرائض هذه بالتداعيات والاستقطابات التي خلفتها الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، في عهد حكومة التناوب التوافقي، بقيادة المجاهد عبد الرحمان اليوسفي؛ بحيث انتقل الصراع بين المدافعين عن الخطة والمناهضين لها إلى الشارع من خلال مسيرتين ضخمتين في نفس اليوم، واحدة في الرباط مدعِّمة للخطة، وأخرى في الدار البيضاء مناهضة لها.
ورغم ما حصل في بلادنا من تطورات سياسية واجتماعية وحقوقية منذ ذلك التاريخ؛ ورغم ما تم من إصلاحات مؤسساتية ودستورية وقانونية، فإن الجدل القائم حاليا حول الإرث، يدل دلالة واضحة على أن التيار المحافظ لا يقبل المساس بفهمه الجامد والمتجمد، ليس فقط للنصوص الدينية؛ بل وحتى لما هو من رواسب العادات الجاهلية. وهذا دليل على عجزه عن التكيف مع متطلبات العصر وعن استيعاب المتغيرات الاجتماعية والمجتمعية التي عرفها المغرب. ولذلك، فهو يتصرف كحارس للمعبد، فيقف بالمرصاد لكل من يحاول أن يقتحمه بنية زرع بذور التحرر من قيود التقليد ومن أغلال الجمود. وهذا ما يجعل فقهاء التيار يتفننون في تمجيد الجمود باسم العلم وباسم قطعية النصوص ويجعلون من هذه النصوص متاريس لمواجهة ومقاومة كل مطلب تحديثي يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الاجتماعية والمجتمعية وينادي بإدخال الإصلاحات الضرورية لمسايرة التطور والانفتاح على العصر.
فبنفس الخلفية الفكرية ونفس العقلية المتحجِّرة التي ناهضت الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، تحركت الجهات إياها لمناهضة مطلب إلغاء الإرث بالتعصيب، رغم ما أصبح يسببه هذا الصنف من التوريث، في وقتنا الحاضر، من مآس اجتماعية حقيقية ومن ظلم اجتماعي كبير. والله سبحانه وتعالى حرم الظلم على نفسه وجعله محرما بين عباده. فكيف لا يستوعب علماء الشريعة هذا الأمر؟
لا أظن أن المدافعين عن التعصيب يجهلون الطرق التي يلجأ إليها بعض الآباء من أجل حماية فلذات كبدهم وأراملهم مما قد يتعرضن له، بعد أن يغيبهم القدر المحتوم، من تعسف، باسم الشرع، على أيدي أبناء العمومة الذين يرثون بالتعصيب. وقد يصل الأمر، في بعض الحالات، إلى حد التشريد. فالآباء الواعون بخطورة هذه الوضعية يلجئون إلى نوع من التحايل على الشرع (أو القانون)، خاصة حين يتعلق الأمر بالسكن الذي هو شرط الاستقرار؛ وذلك من خلال اللجوء إلى بيع صوري للعقار المملوك للأسرة الصغيرة بهدف الحفاظ عليه من التتريك من قبل الورثة الذين قد يظهرون على حين غرة، ويحولون حياة الثكلى (أو الثكالى) إلى جحيم. ويتم هذا البيع الصوري للبنت (أو البنات) وأمها (أو أمهن)، حسب الحالات.
لكن التقيد بالنقل ضدا على العقل، يجعل المتشبثين بحرفية النصوص (وبالموروث، وإن كان مجرد عرف)، رغم ما في هذه النصوص من إمكانيات تأويلية لملاءمة مضمونها مع الواقع الاجتماعي الجديد، يرفضون كل اجتهاد أو تجديد؛ ويعتبرون كل مطلب بالتغيير مساسا بالدين ومروقا منه؛ حتى وإن كان المطلب تصحيحا لوضع موروث من السلف، تختلط فيه الأحكام القرآنية والسنة النبوية والعادات الجاهلية.
والواقع أن الخلاف بين من يطالبون بإلغاء الإرث بالتعصيب وبين المناهضين لهم، هو خلاف فكري وسياسي وحقوقي وثقافي؛ بل، هو خلاف بين مشروعين مجتمعيين متناقضين: مشروع حداثي ومشروع محافظ (تقليداني ونكوصي). ويكفي، في هذا الإطار، الاطلاع على بيان حركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية، لنتبيَّن أن الناس يرفضون حتى مبدأ النقاش حول بعض الأمور التي أصبحت بحكم الواقع متجاوزة وتحتاج إلى مراجعة. فقولهم بأن عريضة المطالبة بإلغاء الإرث بالتعصيب مبادرة لتفكيك منظومة الأسرة وأسسها الإسلامية، قول يكذبه المنطق والواقع؛ بحث أصبح الآن العكس، هو الصحيح، نظرا للمتغيرات الكبيرة والعميقة التي عرفتها الخلية الأساسية في المجتمع؛ أي الأسرة. فهذه قد أصبحت، الآن، نووية؛ والأسرة الممتدة أصبحت استثناء. فالتعصيب أصبح، اليوم، مصدرا حقيقيا لتفكيك (أو تشريد) الأسر النووية التي ليس بها ولد ذكر.
وما يميز هؤلاء الذين يزعمون الدفاع عن الأسرة وأسسها الإسلامية (والإسلام بصفة عامة)، هو اعتمادهم على الغوغاء بأسلوب يخاطب الحواس ويدغدغ العواطف، بدل مخاطبة العقل وملكات الإدراك والتمييز. فكما عشنا ذلك مع خطة إدماج المرأة في التنمية، هاهو نفس الأسلوب يتم تكريسه حتى مع العرائض. فبمجرد ما شاع أن أكثر من مائة مثقف وقعوا على العريضة المطالبة بإلغاء الإرث بالتعصيب (وقد قاربت، الآن، 2000 موقع) انطلقت تعبئة استثنائية لجمع التوقيعات، حيث وصل، في وقت قياسي، عدد الموقعين على عريضة الحفاظ على “شرع الله” 1240 (وقد تكون، الآن، بالآلاف)؛ والحال أن العبرة، في مثل هذه المواضيع، ليست بالكم وبرفع الصوت، بقدر ما هي فيما يطرح من أفكار وما يقدم من حجج ومبررات تعزز هذا المطلب أو ذاك أو تدحض هذا الطرح أو ذاك.
ولنا في مدونة الأسرة المعمول بها حاليا عبرة لمن يريد أن يعتبر. فرغم العراقيل التي اجتهد التيار المحافظ في وضعها أمام المشروع، فإنه لم يجد بدا من الانصياع لقانون التطور الذي زكاه التحكيم الملكي. لقد شكلت مدونة الأسرة طفرة نوعية، مقارنة مع قانون الأحوال الشخصية الذي كان معمولا به قبل 2004؛ بحيث حققت العديد من المكتسبات لفائدة المرأة والأسرة.
لكن، وبنفس منطق التطور، فهي، الآن، تحتاج إلى مراجعة. ولهذه الغاية، دعت أربعون (40) جمعية (نسائية وحقوقية)، في بيان لها، “إلى مراجعة شاملة وعميقة لكل كتب مدونة الأسرة، بما فيها كتاب المواريث” (جريدة “الاتحاد الاشتراكي” بتاريخ 6 أبريل 2018).
وفي انتظار رد فعل الجهات المناهضة لحقوق النساء حول هذه الخطوة الجديدة، نؤكد أنه قد أصبح، مع دستور 2011 الذي يقر فصله 19 بالمساواة بين الرجل والمرأة في “الحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية”، من أوجب الواجبات تعزيز المكتسبات ورفع كل حيف يمارس في حق المرأة باسم الشرع أو التقاليد أو القوامة أو غير ذلك من الذرائع التي يتستر وراءها المحافظون لمناهضة كل مطلب يهدف إلى إنصاف المرأة ورفع الحيف عنها.
لقد كثرت الضجات حول الإرث، منذ تلك التي أعقبت دعوة الأستاذ “إدريس لشكر”، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، في دجنبر2013 ، بمناسبة المؤتمر الوطني للمنظمة الاشتراكية للنساء الاتحاديات، إلى فتح نقاش بين المختصين والمهتمين والمعنيين حول مسألة الإرث. ورغم أن دعوته لم تتجاوز المطالبة بفتح نقاش، من باب الاجتهاد، فقد تم تكفيره وإهدار دمه من قبل غلاة السلفية.
ولم يسلم المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بدوره، من التهجم وافتعال ضجة حول إحدى توصياته التي وردت في تقريره الموضوعاتي حول”وضعية المساواة والمناصفة بالمغرب: صون وإعمال غايات وأهداف الدستور”.
وليست الغيرة على الإسلام هي التي تحرك، دائما، المرتزقين والمسترزقين بالدين والموظفين له في الصراعات الفكرية والإيديولوجية، وإنما الحسابات الشخصية والسياسية هي التي تحركهم ضد خصومهم، وبخلفية الإرهاب والترهيب.
وغالبا ما يستعملون الكيل بمكيالين (وهذا دليل على نفاق المتأسلمين)، فيغضون الطرف عمن يقاسمهم نفس القناعات أو يشاركهم نفس الانتماء؛ بينما يحصون على خصوهم كل صغيرة وكبيرة قصد تأليب العامة عليهم.
وما دام الشيء بالشيء يذكر؛ وما دمنا نتحدث عن الجدل حول الإرث، فإني أذكِّر بمقال لي بعنوان ” ما السر في صمت شيوخ الفتنة على دعوة “أبو زيد” إلى مراجعة أحكام الإرث؟” (انظر جريدة “الاتحاد الاشتراكي” بتاريخ 4 أبريل 2016)؛ خاصة وأن هذه الدعوة كانت مفاجأة حقيقية باعتبار الوضع السياسي والحركي والتمثيلي لصاحبها(قيادي بحزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح وبرلماني) وباعتبار السياق الذي أُطلقت فيه هذه الدعوة (خلال ندوة نظمتها حركة التوحيد والإصلاح بمدينة سلا يوم السبت 19 مارس 2016).
أما الضجة الحالية، فلن تكون هي الأخيرة، بكل تأكيد. فالصراع أبدي بين المحافظة والحداثة، ولن يتوقف عند هذه الضجة أو تلك. لكن التاريخ والواقع يؤكدان أن الكلمة الأخيرة، هي لقانون التطور. وتلك هي حكمة الله و إرادته.
لقد سبق لي أن كتبت مقالا بعنوان ” الإرث في الإسلام بين الفهم الجامد والفهم المتجدد للنص القرآني” (انظر جريدة “الاتحاد الاشتراكي” بتاريخ 20 نونبر 2015). وقد قدمت لهذا المقال بما يلي: ” يمنح القرآن الكريم لمن أراد أن يتدبر نصوصه في ضوء المتغيرات العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوقية والقانونية وغيرها، إمكانية تجديد فهمه لهذه النصوص وتأويلها بما يتناسب ومتطلبات عصره. ويكفي استحضار أسباب النزول وقضية الناسخ والمنسوخ وتجاوز الواقع لمنطوق بعض الآيات التي أضحت، في الوقت الحاضر، غير ذي موضوع- ناهيك عن القصص القرآني الذي أخبر عن أحوال الأمم الغابرة وتاريخها، وتحدث عن النبوات السابقة، وذكر كثيرا من وقائع وأحداث الماضي…ليس للتسلية ولا للحكي من أجل الحكي، بل للعبرة واستخلاص الدروس- ليصبح النص القرآني نفسه السند التاريخي والديني والواقعي والمنطقي والعلمي لكل مجهود (دون الحديث عن الاجتهاد) يندرج في الإجابة (أو محاولة الإجابة)عن سؤال قد يُطرح بسذاجة أو بخبث؛ وقد يطرح بقلق علمي وإيماني أو بجهل وإنكار وتحد للحكم الرباني، ألا وهو: هل القرآن صالح لكل العصور؟ أو بالأحرى لكل زمان ومكان؟”.
وكان جوابي، في الفقرة الموالية، وبكل تواضع، على الشكل التالي: “بكل تلقائية، نجيب بنعم ونؤكد بأن تلك هي إرادة الله عز وجل والتي تجسدها الرسالة المحمدية (الرسالة الخاتمة) من البعثة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فتلك الإرادة هي التي جعلت من سنن الكون أن لا يتوقف التطور والتقدم في كل المجالات وعلى كل المستويات إلى أن يأذن الله بنهاية العالم. كما أن هذه الإرادة لم تشأ، أبدا، أن تجمد الفهم عند ظاهر النص كما يريد البعض أن يسجننا فيه. وفي هذا الصدد، نسجل أن القرآن الكريم، خلال مراحل نزول الوحي، لم يكن لا منسلخا عن الواقع، ولا متعاليا عليه، بل كان يتفاعل معه ومع مستجداته. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما شكلت أسباب النزول علما من بين العلوم الإسلامية، قائما بذاته، ولما أصبحت قضية الناسخ والمنسوخ في القرآن موضوع علم من العلوم الشرعية. ومن الحِكم الواضحة من وراء هاتين القضيتين، هي مراعاة مصالح العباد والاهتمام بشؤونهم، سواء تعلق الأمر بتغيير حكم من الأحكام، أو بالجواب عن بعض تساؤلات أتباع الرسالة المحمدية، سواء كانت هذه التساؤلات ذات طبيعة دينية أو ذات طبيعة دنيوية”.
وأتساءل، في هذا الإطار، عن جدوى الاجتهاد (أو التأويل) إن لم يكن ليساير روح النص القرآني. فالعبرة من كل ما أوردناه أعلاه، هي أن النص القرآني يبقى نصا مفتوحا وليس مغلقا أو منغلقا. لقد أراد الله للنص القرآني أن يكون حيا، يتفاعل مع المستجدات العلمية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية وغيرها. لكن أصحاب العقول الجامدة والمتحجِّرة يتجنّون على النص القرآني بجعله نصا جامدا؛ ويرتكبون، بذلك، جرائم في حق مجتمعاتهم، لكونهم يشجعون، بفكرهم المنغلق، على التعصب الديني المغذي للتطرف الذي يجعل التنظيمات الإرهابية تتناسل كالفطر.
ولا يستقيم الحديث عن الاجتهاد دون استحضار علم اسمه “علم المقاصد”. فللمقاصد ارتباط وثيق بالاجتهاد. والاجتهاد لن يعني، طبعا، فقه العبادات والعقائد؛ فهذه لا تخضع لقانون التطور؛ وإنما الاجتهاد يمس أساسا فقه المعاملات. وفي هذا المجال، يكثر الاختلاف ويتغير بحسب الأزمنة والأمكنة، نظرا للتحولات التي تحدث بفعل التطور العمراني والتقدم البشري؛ مما يجعل من فقه الواقع المنهاج الأمثل لتفسير القرآن بما يتلاءم وروح العصر ويجعله، كما أراد الله له أن يكون، صالحا لكل زمان ومكان. ولن يكون كذلك إلا بإعمال العقل من قبل أولي الألباب الذين كلفهم الله بهذه المهمة.
ويتبادر إلى الذهن أن الفئة المؤهلة للقيام بهذه المهمة، هم علماء ما يسمى بالمقاصد. ولا يسعني، في هذا الباب، إلا أن أتساءل: أين هؤلاء من المتغيرات التي تعرفها المجتمعات الإسلامية؟ وأين مساهماتهم في التطور العلمي والثقافي للأمة؟ وأين هي مساهمتهم في حل الإشكاليات الاجتماعية المستجدة؟…
وفي بلادنا، فالمقاصدي المغربي المشهور، الشيخ أحمد الريسوني، يقدم الدليل تلو الآخر أن له مفهوما خاصا للمقاصد، بعيدا كل البعد عن الاهتمام بالقضايا البشرية المتجددة (أو ما سماه القدماء، كابن رشد، بالقضايا اللامتناهية) أو الاهتمام بملاءمة التشريع الإسلامي للمصالح الإنسانية وضرورات الحياة المتجددة. ويبدو أن ما يتحكم في منظوره هذا، هو نشاطه السياسي والدعوي: فهو رئيس سابق لحركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية؛ ومسؤول سابق بهذا الحزب؛ وحاليا، نائب رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
ولذلك، لا نستغرب مواقفه السياسية والفكرية التي تتناقض ونبل المقاصد. فهل من المقاصد في شيء تقسيم المجمع المغربي إلى فسطاطين: فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر والإلحاد؟ (انظر محمد إنفي،” أحمد الريسوني وثنائية الكفر والإيمان”، جريدة “الاتحاد الاشتراكي” بتاريخ 29 نونبر 2012). وهل من المقاصد في شيء إصدار فتاوى مثيرة ومستفزة ومقززة ثقافيا وفكريا وإنسانيا وحقوقيا وسياسيا؟ (انظر محمد إنفي، “فتاوى مثيرة للقرف: أحمد الريسوني نموذجا “، “تطوان بلوس”، بتاريخ 22 يوليوز 2016). وهل من المقاصد في شيء تكفير قطاعات أساسية في الدولة المغربية (الجيش، الشرطة، الإدارة) وكذا أحزاب اليسار؟ (أنظر “المستقل” بتاريخ 12 أبريل 2013: “إدريس لشكر يقول إن أحمد الرسسوني يكفر الجيش والشرطة والإدارة”)…وما هذا إلا غيض من فيض.
أما في النازلة التي نحن بصددها، أي الإرث بالتعصيب، فقد وصل به الأمر إلى الافتراء على الله بقوله إن “العريضة المطالبة بإلغاء الإرث بالتعصيب، إنما تطالب بإسقاط ما فرضه الله وأكده بأبلغ العبارات والتنبيهات؛ من ذلك أنه تعالى بعد ذكر أحكام الإرث قال: فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما” (انظر”الفرائض لا تلغى بالعرائض”، “مملكة بريس”، بتاريخ 25 مارس 2018)؛ هكذا دون تمييز، بقصد الخلط بين الإرث بالتعصيب والإرث بالفرض. فالآية الكريمة (“…آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا”)لا تعني، إطلاقا، الإرث بالتعصيب الذي فيه خلاف كبير بين العلماء؛ وإنما تعني الإرث بالفرض. أضف إلى ذلك، أنه لا يتورع عن اتهام المخالفين له بمحاربة الدين وتحريفه وترويج الشبهات حوله، الخ.
أما الفقيه الجليل الدكتور مصطفى بنحمزة، رئيس المجلس العلمي بوجدة، ومدير معهد البعث الإسلامي للعلوم الشرعية، فقد اعتبر أن “الموقعين على عريضة إلغاء نظام الإرث عن طريق التعصيب من قانون المواريث في البلاد، لا يعرفون شيئا عن التعصيب”؛ بل “يشهدون على أنفسهم أنهم لا يعرفون شيئا من الشريعة أصلا” (“نون بريس” بتاريخ 22 مارس 2018)؛ مع العلم أن من بين الموقعين على العريضة مثقفون محسوبون على تيار السلفية الوطنية وأساتذة باحثون في الدراسات الإسلامية وفي الفكر الإسلامي وفي التاريخ. وكل هؤلاء، فهم، في نظر بنحمزة، جاهلون؛ مما يعني أنه الوحيد، من بين هذا الذي يخوض في مسألة الإرث بالتعصيب، الذي يستحق صفة العالم. فياله من علم لم ينجح في جعل صاحبه متواضعا !
شخصيا، لست متخصصا لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم الاجتماعية؛ لكني مواطن لي قناعاتي السياسية والثقافية والفكرية، تجعلني أرفض خطاب التعالي والتعالم وخطاب احتكار الحقيقة باسم علم، يعلم أصحابه، قبل غيرهم، مدى الاختلافات والخلافات التي تخترقه منذ نشأته.
فكم يؤلمني أن أرى أن علماءنا “الكبار” الذين يرمون غيرهم (ممن لا يوافقهم الرأي) بالجهل، وهم غير قادرين، في القرن الواحد والعشرين، رغم ما فيه من علوم إنسانية واجتماعية مساعدة على فهم المجتمع ومتغيراته، بأن يصلوا إلى مستوى صحابي جليل وخليفة راشد، تفصلنا عن عصره أربعة عشر قرنا !!! أليس في هذا تخلف فكري مريع؟ ألا يسائل هذا الأمر من يريدون أن ينوبوا على الله تعالى ويفرضون أنفسهم أوصياء على الدين وعلى عقول المواطنين؟…
أليس من الأجدر بعلمائنا وأولي أمرنا أن يقتدوا بعمر بن الخطاب الذي كان ينظر في العلل التي توجب الأحكام؟ وكان حين يتبيَّنُ له أن العلة لم تعد قائمة (وهو، هنا، يقتدي بالقرآن الكريم) أو أن شروط تنفيذ تلك الأحكام غير متوفرة(حد السرقة، مثلا)، كان يوقف العمل بها، حتى وإن ثبتت بآيات قرآنية صريحة وقطعية. وقد تعامل بنفس المنطق مع أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام وأفعاله. ومن دون شك أنه كان يستحضر، دائما، في الجانب المتعلق بالمعاملات، قول الرسول الكريم: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”.
وفي ختام هذه المساهمة المتواضعة في الجدل القائم حول الإرث بالتعصيب، أجد من المفيد (بل والأفيد) أن أحيل على مقال بعنوان “تعليق على عريضة دعم التعصيب”(“هسبريس” بتاريخ 30 مارس 2018) لصاحبه محمد ابن الأزرق الأنجري، الخريج من دار الحديث الحسنية والباحث في الدراسات الإسلامية. وقد أورد صاحب هذا التعليق عدة حالات، أبرز، من خلالها، هشاشة الأدلة التي يعتمد عليها المدافعون عن التعصيب وقوة حجة المطالبين بإلغائه، اعتمادا على التباين الكبير بين واقعنا الحالي وواقع جيل تأسيس منظومة الإرث، “الموروثة من السلف والخلف، والتي هي خليط من أحكام قرآنية وتعليمات نبوية وعادات جاهلية تحوّلت شريعة نهائية”، كما جاء في مطلع المقال.