قال الله في كتابه العزيز: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ). آل عمران (7).
يقول الفيلسوف العربي – الإسلامي الكندي عن تجار الدين:
(… ذباً عن كراسيهم المزورة التي نصبوها (لأنفسهم) من غير استحقاق, بل للترؤس والتجارة بالدين وهم عدماء الدين, لأن من تَجر بالشيء باعه, ومن باع شيئاً لم يكن له. ومن تجر بالدين لم يكن له دين.).
الذين في قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة أو تأويله :
قبل أن ندل في صلب الإشكالية موضوع البحث دعونا نقف اولاً عند مفهومي الآيات المحكمات والآيات المتشابهات.
الآيات المحكمات هن الآيات الواضحات في دلالاتها لا لبس فيها من جهة, والوضوح هنا يتضمن كل ما يعبر عن جوهر الإسلام الحقيقي ومقاصده التي تدعو الناس إلى عبادة الله ووحدانية, وإلى الإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخرة والعمل الصالح دون إكراه أو إلزام. وهذه الآيات المحكمات تجب أو تقصي بالضرورة كل آية آخرى لا تلتقي معها في هذه الدلالات والمقاصد.
أما الآيات المتشابهات, فهن الآيات الغامضات في دلالاتهن, بحيث تحمل كل آية أكثر من وجه في التفسير أو التأويل مما يؤدي إلى خلاف بين الناس على تفسيرها أو تأويلها من جهة, وهن أيضاً الآيات اللواتي (تخالف) من حيث المضمون أو الدلالة الآيات المحكمات. وهذا ما سوف نعمل على توضيحه هنا بشكل أكثر تفصيلاً.
جاء في الآية القرآنية السابعة من سورة آل عمران ما يحدد, من هو المسلم الحقيقي والمؤمن بدور الإسلام ومقاصده الإنسانية. حيث تقول الآية الكريمة: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ). آل عمران (7).
إن قراءة دقيقة لمضمون ودلالات هذه الآية, تبين لنا بوضوح الجوهر الأساس للنص القرآني الذي يجب على كل مؤمن بهذا النص أن يتعامل معه انطلاقاً من هذه الآية المحكمة من منطلق:
أولاً : أنها (قدرية) في مضمونها), أي من الآيات اللواتي تقر بحرية الإنسان وتحمله مسؤولية اختياره, واحترام عقله.
ثانياً : هي من الآيات المحكمات, أي البينات الواضحات بحيث لا غموض في تفسيرها – أي تشابه – بالرغم من أن الذين في قلوبهم زيغ هم من حاولوا إيجاد الخلاف فيها حول مسألة تحديد (الواو) المتعلقة في (والراسخون في العلم), هل هي عاطفة أم استئنافية, بالرغم من أن الآية تشير وبكل وضوح إلى أن هذه الواو استئنافية. أي من حيث دلالة بقية الآية لا تعطي الراسخون في العلم حق التأويل, إلا أن الذين يريدونها عاطفة, أي تعطي هذا الحق في التأويل للراسخين في العلم, هم من في قلوبهم زيغ ولهم مصالح سياسية أو اجتماعية تتخذ من النص الديني وسيلة لتبرير هذه المصالح.
على العموم, إن الآيات المحكمات هن من يشكل الجزء الأكبر من آيات القرآن, أي هن هم الكتاب, أما ما تبقى من الآيات فهن آيات متشابهات, أي هن الآيات كما بينا قبل قليل اللواتي تحملن في مضمونهن الغموض والمفارقة أحيانا ولا نقل التناقض مع غيرهن من الآيات المحكمات, وفيهن تعدد الدلالات.
فمن الآيات البينات على سبيل المثال لا الحصر آيات: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4).) . سورة الإخلاص. فهذه آيات بينات واضحات لا تحمل أكثر من وجه واحد هو وحدانية الله.
أما الآيات المتشابهات. فلنأخذ بعضاً منهن توضيحاً لهذه المسألة الشائكة, كالآية التالية :
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ). (39). سورة الأنعام. وهذه الآية (جبرية) في دلالاتها, أي تقف أمام حرية إرادة الإنسان واحترام عقله بسلبهما دورهما في حياة الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تكوين, وأعطاه الخلافة على هذه الأرض. هذا في الوقت الذي نجد آية أخرى تقول بحرية الإرادة الإنسانية ودور العقل الإنساني في ممارسة الإنسان لدوره في أعماله بنفسه واختياره, وليس جبراً عليه كالآية التالية:
(قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104) سورة الأنعام.). أو كالآيات التالية في الموقف من اليهود والنصارى كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين.). المائدة (51). فالآية تضع اليهود والنصارى في كفة واحدة من حيث تعامل المؤمنين معهم. مقابل الآية التالية في هذا الاتجاه أيضاً والتي تستثني النصارى في مسألة التعامل وتعترف بأن فيهم مودة للمسلمين :
(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسون ورهباناً وأنهم لا يستكبرون.). المائدة. (82). أما التالية فهي أكثر مفارقة مع مضمون الآيتين اللتين جئنا عليهما, حيث نجدها تفضل اليهود على العالمين:
(ولقد آتينا بني اسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين.). الجاشية (16).
هذا ونستطيع تقديم أمثلة أخرى على الآيات المتشابهات في مستويات ودلالات أخرى بالنسبة للنص القرآني, من حيث تعدد الدلالة في الآية الواحدة كالآية التالية:
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ). [(3) سورة يونس]. فدلالات الاستواء هنا غير واضحة, لا في مكانها ولا في طبيعتها, في الوقت الذي نجد فيه آية أخرى تشير إلى حالة الاستواء مجسدة لله عز وجل بكل وضوح كالآية التالية :
(وانشقت السماء يومئذ واهية. والْمَلَكُ على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية.). الحاقة (16 و17). ففي هذه الآية يبدو التجسيم أو التجسيد واضحاً بالنسبة لمكان الله وعرشه وحملته. والآية التالية تؤكد وجود الله في السماء أيضاً, ومن هناك يتدبر أمر الخلق :
(يدير الأمر من السماء إلى الأرض ثم يُعْرِجُ إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما يقدرون.). السجد (5). وفي آية أخرى يشار فيها إلى سمعه وبصره : (قال لا تخافا إني معكما أسمع وأرى.).طه (46).
وأمام كل هذه الآيات التي تشير إلى التجسيد الصريح عن مكان وجود الله وسمعه وبصره واستوائه, نجد آية أخرى تنفي كل هذه الصفات التجسيدية لتقول: (فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيئ وهو السميع البصير.). الشورى (11). فهذه الآية التي جردت الإله من كل صفاته في الحقيقة تحمل دلالات مفارقة في مضمونها أو متشابهة, ففي الوقت الذي تشير إلى قدرة الله تعالى على الخلق وإلى سمعه وبصره, تقر أيضاً بأن الله (ليس كمثله شيء). أي هو خارج نطاق الوصف. ومن يكن خارج نطاق الوصف سيجرد في النهاية من كل ما يدل على محسوسيته بأية صفة كانت. هذا وقد قام من اشتغل تاريخياً على تفسير أو تأويل هذه الآيات المتشابهات بإدخال المسلمين في خلافات وصراعات ليس لها حدود وصلت إلى (حد الدم) إن كان تجاه أصحاب الديانات السماوية الأخرى, أم تجاه المسلمين أنفسهم, وخاصة في مسائل مثل خلق القرآن وصفات الله وهل يرى الله بالعين المجردة يوم القيامة أم لا, وغير ذلك من مسائل لا يعلمها إلا الله وحده, وللأسف لم تزل هذه القضايا تناقش ويسيل عليها الدم حتى اليوم من قبل جهلة الدين أو من في قلوبهم زيغ.
إذن من خلال هذه الآيات المتشابهات تأتي إشكالية التعامل مع النص المقدس, من حيث تأويله أو تفسيره لمصالح سياسية أو مذهبية أو شخصية, آو الأخذ به ابتغاء الفتنة بين المسلمين أنفسهم أو بين المسلمين وغيرهم. وبناءً على ذلك نبه الله إلى خطورة التعامل مع هذه المتشابهات وقال بأن الذين في قلوبهم زيغ هم من يحاول التعامل معها أو الأخذ بها ابتغاء الفتنة أو تأويله. أما الراسخون في العلم من المسلمين المؤمنون من أولي الألباب, أي المؤمنون بالله وبمقاصد الإسلام كدين محبة ورحمة وعدالة ومساواة, وتأكيد على حرية الإنسان وعقله في تقرير مصيره واختياراته, فهم الذين يقرون أو يعترفون بوجود هذا التشابه في النص الديني, لذلك هم يؤمنون بمحكمات أيات القرآن ومتشابهاته من جهة, كونه كله من عند الله, وعليهم التسليم به, وعليهم في المقابل أن يأخذا من هذه الآيات كل آية واضحة بينة (محكمة). لا تفرق بين المسلمين وتقف ضد الفساد والظلم والاعتداء على حقوق الله وحقوق الإنسان. وهذا ما بينه الرسول الكريم بقول: (القرآن ذلول حمال أوجه, فخذوه على وجهه الحسن).
الإشكالات الفكرية..عقيدة وفقهاً في الخطاب الإسلامي السلفي :
دعونا بداية نشير إلى مسألة على غاية من الأهمية تتعلق بمن جعلوا من أنفسهم حماة الدين والمعبرين عن وجهه الصحيح, حتى وصل الأمر إلى اعتبار بعضهم هم وحدهم من امتلك ناصية الحقيقة في فهم الدين والتعبير عنه, حتى تحولت آراء هؤلاء عند مريديهم إلى درجة التقديس.
منذ السقيفة ظهر علينا التزوير والانتحال والتقول على لسان الرسول في أهم مسألة في الخطاب الإسلامي وهي مسألة (الخلافة), التي حصرتها فئة من المتصارعين على السلطة منذ السقيفة بأنها في قريش فقط, ليأتي فيما بعد من يضع الأحاديث أو يفسر الآيات ويؤلها في هذا الشأن خدمة للبيت الأموي أوالعباسي أو العلوي. فقد جاء في الصحيحين عند مسلم والبخاري: (لايزال هذا الأمر في قريش ما تبقى من الناس إثنان), وهذا الحديث في الحقيقة يخالف تعاليم الإسلام من جهتين.
الأولى: بأن الإسلام لم يحدد طبيعة الحكم وشكله ونظامه.
والثانية: إن الإسلام يقول 🙁 لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.).وهذا “عمر ابن الخطاب” يؤكد ذلك في حديث له كما تذكر المصادر التاريخية بقوله : (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته.). ( ). فمسألة الأخذ بكل حديث وفقاً للسند وليس للمتن كما فعل التيار السلفي من أهل السنة والحديث, أو القول إن الخلافة جاءت بالنص المقدس ترك إشكالات ليس لها حدود في الخطاب الإسلامي. حيث فرض علينا بعض الفقهاء ومشايخ الدين التصديق بأن كل ما جاء في الصحيحين صحيح لا غبار عليه . بل حول هذا الادعاء كل ما جاء فيهما إلى نص مقدس.!!. فلنتابع مع “النووي” حديثه عن الصحيحين ونضعهما في ميزان العقل والمنطق ونرى مدى توافق ما قيل عن الصحيحين وقوانين العقل . يذكر النووي في التغريب: (ذكر الشيخ ابن صلاح أن ما روياه (أي مسلم والبخاري) أو أحدهما مقطوع بصحته. والعلم القطعي حاصل.). كما زعم إمام الحرمين “الجوني” إجماع علماء المسلمين على ذلك وقال : ( لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن كل ما في الصحيحين مما حكما بصحته من قول النبي (ص), لما ألزمه الطلاق.). ويذكر “السيوطي” أن قول ابن صلاح هذا هو قول أهل الحديث قاطبة, ومذهب السلف عامة وأكثر أهل الكلام من الأشعرية والشافعية كأبي اسحق وأبي حامد السفراييني والقاضي أبو الطيب وأبي اسحق الشيرازي, ومن الحنفية كالسرخس, ومن المالكية كالقاضي عبد الوهاب, ومن الحنابلة كأبي يعلي وابن الخطاب وابن الغفران.). ( ). والملفت للنظر في كيفية جمع “البخاري” للحديث تجعلنا نقف كثيراً عند صحة ما جاء في صحيحه, حيث يذكر “محمد بن الأزهر السجستاني” بأنه : ( كنا في مجلس سليمان بن حرب والبخاري معنا يسمع ولا يكتب. فقيل لبعضهم ماله لا يكتب, فقال أحدهم: يرجع إلى بخارى ويكتب من حفظه). ( ). وقد روى “الخطيب البغدادي” عن البخاري قوله: (رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام, ورب حديث سمعته بالشام كتبته في مصر , فقيل له يا أبا عبد الله, بتمامه؟. فسكت.) .(( . وتذكر المصادر بأن البخاري قد جمع (7275) حديثاً, بما فيها المكرر, ولو حذف المكرر لظل (4000) حديثاً, وقد اختارها من (300000 ) حديث. ( ). وهذا الموقف من الحديث أو تفسير النص وتأويله خدمة لمصالح سياسية على وجه الخصوص نجده عند الفرق الغالية للشيعة, أو حتى عند بعض مشايخ الشيعة المعتدلة.
أما ما هو أخطر في هذه المسألة بالنسبة لدور بعض رجال الدين وعلمائه, فهو موقفهم من السلطات الظالمة والفاسدة, من حيث تبرير فسادهم وظلمهم وعدم الاحتجاج على الحاكم والاعتراض على حكمه, تحت ذريعة إبعاد البلاد عن الفتنة, بينما نجدهم وأتباعهم يسلطون سيوف التهديد والوعيد للناس الضعفاء من العامة إذا ما أخطأ أحدهم أو ارتكب ذنباً لا يقره الشرع وفق فهمهم هم لهذا الشرع.
بعد عصر التدوين, أي بعد (145) عاماً من الهجرة كما يذكر “السيوطي” نقلاً عن “الذهبي” فيما يتعلق بعصر التدوين وبدايته, راحت كتب الفقه والسيرة والمغازي والتاريخ تدون. ( ). علماً أن التدوين في معظم حالاته كان برأيي هو أقلام السلطة قبل أن يكون للحقيقة أو للدين. فالتاريخ كما يقال (هو أقلام السلطة). فهذا بعض ما كتب عن مواقف بعض الفقهاء من الخلافة والخلفاء وتبرير حكمهم حتى ولوكان فاسداً وظالماً.
يقول “ابن حنبل” : (السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين, البر والفاجر, ومن ولي الخلافة واجتمع الناس عليه ورضوا به, ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين). ( ). أما الأشاعرة فهذا “الباقلاني” يقول: (إن حدوث الفسق في الإمام بعد العقد له لا يوجب خلعه, وإن كان مما لو حدث عند ابتداء العقد لبطل العقد له.). ( ) . أما “النسفي” وهو من الماتريدية فيقر بصراحة : ( لإن الحاكم لا ينعزل بالفسق. أي بالخروج عن طاعة الله تعالى والجور, أي الظلم على عباد الله تعالى, لأنه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمة والأمراء بعد الخلفاء الرشدين والسلف كانوا ينقادون لهم, ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم, ولا يرون الخروج عليهم.).( ). وهذا موقف آخر لرجال الدين الذين في قلوبهم زيغ يذكره السيوطي في (تاريخ الخلفاء), عن الخليفة “يزيد بن عبد الملك”, وهو الذي ملأ الدينا مغاني وشراباً ومجنوناً وخلاعة طوال أربع سنوات حكمه, بأنه عندما ولي الخلافة جاء بأربعين شيخاً (فشهدوا له بأن ما على الخليفة حساب ولا عقاب. ). ( ).
فعلى مثل هذه المواقف والآراء التي يدلي بها فقهاء السلطان, لا بد أن تضيع القيم الأساسية للدين الحنيف, وتتحول المسائل الفقهية من دائرة محاربة الفساد, إلى دائرة تبريره من خلال التلاعب بالنص المقدس ابتغاء تحقيق مصالح خاصة .ولنأخذ هنا مثالاً عن مواقف بعض الصحابة الذين يعتبرون من الثقات لدى أهل الحديث, وهو أحد العبادلة الأربعة ” عبد الله بن عباس” ابن عم النبي. وهو الذي كلفه علىّ ولا ية البصرة في العراق, وبعد فترة من ولايته بلغ عليّ أن عبد الله تطاول على بيت مال المسلمين في البصرة, فأرسل عليّ يستوضح الأمر ويطلب من عبد الله أن يقدم له حساباً عن أموال بيت المسلمين, إلا أن عبد الله رفض, وبعد عدة رسائل متبادلة يقوم عبد الله بأخذ ما تبقى في بيت مال المسلمين في البصرة وقدره كما يذكر الطبري (ستتة ملاين درهماً). ثم يهرب إلى مكة ويشتري داراً وثلاث جاريات من حور العين. وعندما ألح عليه عليّ أخيراً برد المال أرسل لعلي يقول له: (لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به.).( ).
والأمر هنا برأي على درجة عالية من الخطورة في مسألة مصداقية كل الأحاديث التي رويت عن عبد الله بن عباس لو صحت هذه الرواية, أو كانت حقيقية!. فالذي يعتبر المطالبة بمال المسلمين من قبل علي هي أساطير, والذي يحلل لنفسه أموال المسلمين, كيف سيكون موقفه من الدين الحنيف, وأي مصداقية هذه ترتجى منه كراوي له.؟!.
أما لوعدنا إلى المتكلمين وأصحاب المنطق والرأي من رجال دين فقهاء ومتكلمين, لوجدنا تلك التناقضات والصراعات العجيبة حول تفسير آيات القرآن وتأويله, فيما يتعلق بوحدانية الله وقدمه وخلقه ومشيئته وعدله, وفي قضائه وقدره, وفي التأكيد على أن هذه الآية نزلت بهذا الشخص أو ذاك, وفي مرتكب الكبيرة , وفي تحسين العمل وتقبيحه, وفي الجرح والتعديل, وهي صراعات أودت بحياة الكثير منهم, مثلما أدت إلى خلق أحزاب ومذاهب وتيارات فكرية راحت تكفر وتحلل دماء وأموال بعضها, وكل منها تقول بأنها هي من يمثل الإسلام الصحيح أو الفرقة الناجية, والمؤسف أن أكثر هذه الفرق والمذاهب قائمة حتى هذا التاريخ.