قد نتفهم خروج الجماهير الشعبية بعفوية، إلى الساحات العامة بمختلف المناطق والمدن المغربية، للاحتجاج ضد الظلم والتهميش والإقصاء وضعف البنيات التحتية، والتنديد بفشل السياسات الاجتماعية للحكومات المتوالية في النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق التنمية، في غياب أي تأطير فعلي للأحزاب الوطنية، التي حولتها المصالح الذاتية إلى مجرد دكاكين سياسية، لا تفتح أبواب مقراتها إلا خلال مواسم الاستحقاقات الانتخابية.

وقد نتفهم أيضا ظهور تنسيقيات محلية وجهوية ووطنية، وهي جمعيات مستقلة تروم الدفاع عن الفئات المستضعفة، جاءت إثر فقدان الأحزاب والنقابات إشعاعها وثقة المواطنين في استقلاليتها وتسلط قادتها. لاسيما أن هذه الهيئات اعتمدت على نخب من الشباب المتوثب، ممن أبانوا عن كفاءة عالية في حسن التدبير، والتعامل الجاد مع أهم القضايا المطروحة في أجواء من الديمقراطية والنزاهة والشفافية… حيث برزت تنسيقيات أثبتت التجارب مصداقيتها، منها: تنسيقيات الأطر العليا المعطلة من أجل المطالبة بالحق في الشغل والإدماج، وتنسيقيات حماية المستهلك وتنسيقيات مناهضة الغلاء والدفاع عن الخدمات العمومية وتنسيقيات حماية الأشخاص في وضعية إعاقة وتنسيقيات نساء ورجال التعليم…

بيد أن ما لا يمكن تفهمه واستساغته ويستلزم الكشف عن أبعاده الكثير من الدرس والتحليل، هو أن تتفتق عبقرية قدماء البرلمانيين عن تأسيس تنسيقية “للنواب المتقاعدين”، علما أنهم مازالوا “مناضلين” داخل أحزابهم السياسية سواء في الأغلبية أو المعارضة. اختاروا لها اسم “المجلس المغربي لقدماء البرلمانيات والبرلمانيين”، وحددوا لها أهدافا لا تكاد تختلف عن بعض أهداف أحزابهم، وهي: الدفاع عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وضع تجربة البرلمانيين السابقين في خدمة المصلحة العامة، الانخراط في النقاش العمومي حول مختلف القضايا المجتمعية والدفاع عن المصالح المشتركة لأعضائها. وتعنى هذه التنسيقية/الجمعية فقط بشؤون فئة نواب الأمة “المتقاعدين”، مستشهدين في ذلك بجمعيات قدماء برلمانيي الولايات المتحدة الأمريكية التي تأسست في عام 1970، ونظيرتها الفرنسية عام 1978… وعدد من الجمعيات الأخرى !

ويأتي هذا الابتكار “العجيب” الذي لم يكن يوما حاضرا في أذهانهم خلال ممارسة مهامهم النيابية، في إطار الدفاع عما يعتبرونه مكسبا مشروعا ولا يقبلون بالرزء فيه بدون مقدمات، لاسيما أنهم كانوا ملتزمين بأداء مساهمات شهرية محددة بقانون، حيث أنه تم توقيف ما يعتبرونه “رزقا حلالا” بعد نهاية انتدابهم منذ فاتح أكتوبر 2017، جراء إفلاس الصندوق الوطني للتقاعد والتأمين المكلف بصرف معاشاتهم، الذي لم يعد يتوفر على السيولة الضرورية والكافية لمواصلة صرف المعاشات القديمة والجديدة. مما أحدث لغطا صاخبا داخل مجلس النواب وخارجه، تحول بسرعة إلى نوع من  المزايدات السياسوية، بلغت أحيانا حد مطالبة البعض بالإلغاء النهائي لهذه “المعاشات”، التي ما فتئت تستأثر باهتمام الرأي العام وتثير جدلا واسعا، باعتبارها ريعا سياسيا، طالما طالب المواطنون بإسقاطه.

ومن غير الدخول في تفاصيل الاتفاقية المبرمة بين مجلس النواب وصندوق الإيداع والتدبير، ولا في القانون رقم 24-92 المتعلق بإحداث معاشات أعضاء مجلس النواب، ولا في عزم “المتضررين” مقاضاة رئيس مجلس النواب الحبيب المالكي، ولا في رفض تنسيقيتهم لأي إصلاح يتحملون فيه تبعات الإفلاس الحاصل ولا في مراسلة الديوان الملكي لاستعطاف الملك قصد الإبقاء على معاشهم المريح.

يشار إلى أن هؤلاء البرلمانيين السابقين الذين يطالبون اليوم بأن تنصفهم الدولة توفر لهم حياة كريمة دون باقي عباد الله، ويصرون على خيار الاحتجاج أمام البرلمان وعبر مختلف أشكال “النضال” المشروعة، لممارسة الضغط على البرلمان والحكومة من أجل معالجة قضيتهم، رافضين استمرار تجاهل مطلبهم والإجهاز على حقهم القانوني، متذرعين بفقدان البعض منصب عمله الذي يعد المصدر الوحيد لرزقه وذويه، هم أنفسهم الذين مرروا الكثير من القوانين المجحفة وساهموا في اغتصاب تقاعد الموظفين والأجراء، بإرغامهم على أداء فاتورة “إنعاش” الصناديق التي نهبت في جنح الظلام.

وفي اعتقادنا الخاص، ليس من المواطنة الصادقة في شيء، انشغال البرلمانيين بمصالحهم الضيقة، عما يجري ببلادنا من احتقان وتصاعد أمواج السخط والاحتجاجات، إثر تفاقم الأوضاع وارتفاع معدلات الفقر والأمية والبطالة والتهميش واتساع الفوارق الفئوية والمجالية والأجرية، وعدم تقدير عواقب ما بات يتهدد بلادنا من مخاطر نحن في غنى عنها، في وقت يستدعي التعجيل بالإصلاحات الضرورية لتحقيق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، والقطع مع كافة أشكال الفساد والريع والامتيازات.

فأمام تنامي الوعي والرغبة في التغيير نحو الأفضل، صار للمغاربة حساسية مفرطة تجاه “معاشات” البرلمانيين، ولن يزيدهم النقاش حولها وتأسيس تنسيقية “البرلمانيين المتقاعدين” إلا استفزازا، كيف لا وجزء من مساهمة الدولة يقتطع من جيوبهم؟ فضلا عن أن عديد البرلمانيين المنتهية ولايتهم، ليسوا بحاجة إلى تلك المبالغ التي من شأنها بلورة حلول ناجعة لعدة معضلات اجتماعية عديدة ومتنوعة، ولا نتصور برلمانيا “متقاعدا” يعيش ظروفا أسوأ مما يوجد عليه ملايين المواطنين والعاطلين خاصة…

إننا بحاجة إلى رجة سياسية قوية للقطع مع زمن الريع والمحاباة، للحد من الاستفزازات وآثارها السيئة على نفسية المواطن، لاسيما أن البرلماني يستفيد من امتيازات هامة ويتقاضى تعويضات دسمة عن مهام قد لا يمارسها أحيانا، تنتهي بنهاية فترة انتدابه، وليس موظفا ليصرف له معاش مدى الحياة. ويجمع المغاربة بدون حتى استفتاء شعبي ورسمي أن ما يزعم البرلمانيون كونه “معاشا” مستحقا، هو مجرد ريع سياسي تقتضي الشهامة والحس الوطني الصادق التصدي له من داخل البرلمان وخارجه.

 

 الخميس 05 أبريل 2018.

‫شاهد أيضًا‬

دراسة نقدية لمجموعة (ولع السباحة في عين الأسد).للقاص (حسن ابراهيم) * د. عدنان عويّد:

التعريف بالقصة القصيرة ودور ومكانة القاص في تشكيل معمارها:      القصة …