ثمة ما يطبع نظام الحكم المدني في الدولة الحديثة في علاقته بالدين، بسمة مميزة تبدو في صورة متلازمة «متناقضة»؛ إذ بمقدار ما يكون للدولة حق في التدخل المباشر في الشأن الديني، يكون عليها – في الوقت عينه – الإحجام عن إقحام نفسها في الدين. والتناقض هذا – وهو شكلي – يرتفع إن أخذنا في الحسبان أنّ صلة الدولة بالدين وسلطانها في شؤونه مقيَّدان بما هو عام واجتماعي في الدين، بينما تنقطع الصلة تلك كلما عاد الدين إلى حيزه الطبيعي الخاص والشخصي، حيث ليس للدولة شأن بعلاقة المؤمنين به. والمسألة هذه بيّنة عند من يدركون الفارق بين نصابي الدين والدولة، فلا يخلطون بينهما مثلما يفعل المُمَاهون من دعاة التلازم الماهويّ (بين الدولة والدين).
حين نقول، مع فلاسفة السياسة المحدثين، إنّ ولاية الدولة على شؤون المجتمع الدينية ولاية على شؤون عامة، حصراً، فإنما نعني بذلك ما عناه باروخ سبينوزا بالقول، إنّ للدين مظاهر خارجية لا يسع الدولة أن تشيح عنها النظر، لأنها شديدة الصلة بوحدة المجتمع وسلمه الاجتماعي واستقرار الدولة، وإنّ تنظيمها (من قبل الدولة) ينبغي أن يحصل بما يتواءم وهدف السّلم ومصلحة الدولة. أما ما تعلق بالوجه الداخلي للدين، أو بالتقوى الباطنية والإيمان، فليس لها شأن به لأنه من متعلقات الإيمان، وهذا فعل باطني لا سبيل للدولة أو لأحد إلى الحكم عليه.
والحقُّ أنّ ولاية الدولة الحديثة على الشؤون الدينية ما كانت لتكون مشروعة ومطلوبة، بل ما كانت لتكون أصلاً، لو أنّ الدين ظلَّ يمارس كاعتقاد شخصي، كإيمان بالمتعالي، أي كشأن روحي يلبي طلباً جوّانياً لدى الإنسان الفرد لمعرفة الخلق والمصير؛ إذ ليس في هذا النوع من ممارسة الاعتقاد الديني ما يُخيف الدولة، أو حتى ما يعنيها، لأنه لا يتعارض مع قوانينها ولا يصطدم بها، بل هي (ممارسة الاعتقاد الديني) مما تحرص الدولة على حمايته بحسبانه في جملة الحريات التي عليها كفالتها. لكنَّ ما يعضل في المسألة أنّ ممارسة الاعتقاد تتمظهر في مظاهر خارجية، فيكون لِتمظْهُرها ذاك نتائج على صعيدين من العلاقات العامة؛ على صعيد العلاقات بين المؤمنين وقوانين الدولة، وخاصة حينما يُصرُّ منهم من يُصِرّ على تحكيم القانون الشرعي بدلاً من القانون المدني، وقد يتحوّل الإصرار ذاك من القول إلى الفعل فتتولّد منه اضطرابات وعدم استقرار؛ وعلى صعيد العلاقات بين المؤمنين أنفسهم: من أتباع أديان مختلفة في المجتمع الواحد، أو من أتباع مذاهب مختلفة في الدين عينه، فيكون من تمظهراته المتباينة احتكاكات بين فريق مؤمن وآخر كلّ يحسب أنّه صاحب الحق الحصري في الدين.
غير أنّ للدولة على المؤمنين حقاً يقابل الحقّ في إشرافها على الشأن الديني واحتكار إدارة مجاله؛ إنّه حقهم في إقرارها الحرية الدينية وحرية الاعتقاد، وبسط الحماية على هذه الحرية في وجه من يتهدَّدونها. وعلى الدولة ألا تتردد في ذلك – وهي عادة لا تتردد إلّا حين لا يكون فيها حكم مدني حقيقي يُمايز بين المجالين العام والخاص- لما في إقرارها الحرية تلك من فائدة عليها وعلى المجتمع. ومبنى الفائدة تلك على أمرين؛ أولهما أنّ إقرار الحرية الدينية (حرية ممارسة الشعائر وحرية الاعتقاد) هو جزء من إقرار منظومة الحريات الفردية والمدنية، وليس من حريات مكفولة، كفالة قانونية حقيقية، إن هي استثنت الحرية الدينية، وكل تضييق منها على هذه الحرية يُعدُّ، في منظور القوانين المدنية الحديثة، خرقاً للحقوق والحريات قد يرقى إلى الاضطهاد الديني! وثانيهما أنّ إقرارها الحرية الدينية وحمايتها (هو) أفضل وسيلة لكف أذى التعصب والكراهية والتحريض التي تنشأ بين أتباع أديان المجتمع الواحد، وأتباع مذاهب الدين الواحد.
على أنّ التسليم للدولة الحديثة باحتكار التفسير الرسمي للنصوص الدينية، واحتكار الفُتيا بالتالي، ليس قرين التسليم لها بالحق في قمع الحرية الفكرية ومنها حرية الاجتهاد؛ بل على الدولة أن تحمي هذه الحرية، حمايتها لغيرها من الحريات العامة والخاصة، وأن تحيط الحق في ممارستها بالضمانات الدستورية والقانونية، من دون مخافة من أن تهدّد (هذه) الحرية استقرارها أو السّلم المدنية. بل نحن نذهب إلى أنّ ضمان الحرية تلك شرط لازب للاستقرار، وأنّ العدوان عليها مطية إلى زعزعة الاستقرار. وبيان ذلك أن حرية الاجتهاد لا تزاحم الدولة على وظيفتها في التفسير الرسمي للنصوص الدينية؛ لأنّ الاجتهاد غير الفتوى، أي ليس رأياً ملزماً لأحد، وليس له من سلطان على الناس إلّا سلطان الحُجّية العلمية. كما أنّ في وسع الدولة أن تعثر، في حركة الاجتهاد تلك، على موارد فكرية يحسُن بها استثمارُها في وظائفها الدينية التي تنهض بها نيابةً عن الشعب والأمة.