لا أحد ينكر اليوم أن المسار التقدمي والتحديثي للدول الغربية قد شكل، في العقود الثلاث الأخيرة من القرن العشرين، مصدرا للجاذبية بالنسبة لسكان الجنوب. لقد كان ما تم ترويجه في شأن “القوة الناعمة” يغري ساكنة عالم الجنوب على نطاق واسع. لقد تحول الغرب، والرغبة للعيش في إحدى دوله، بفعل تطور ثقافته، واقتصاده، وقيمه، ونمط الحياة به، إلى حلم لا يفارق شباب دول الجنوب. إلا أن ما آلت إليه الأوضاع اليوم، أحدث تراجعات في مختلف المستويات، وكرس الغموض والتيه في أذهان أفراد مجتمعات الجنوب. لقد أصبح لافتا للأنظار كيف انزلقت الدول العظمى في تعاطيها مع تأثيرات العولمة، التي ابتدأت ثانوية، وأصبحت مع مرور الزمن مهددة لمفهوم الدولة الديمقراطية، واهتدت إلى إتباع سبيل مجهول المعالم، يعج بالمنعرجات والمخاطر. لقد أصبح النزوع إلى العنف والحروب في الممارسة السياسية مصاحبا للتصريحات والمواقف المتصارعة كونيا، إلى درجة أصبح التعاطي مع مختلف المنابر الإعلامية لإعلان المواقف في هذا الإطار ميالا إلى اعتبار هذا النزوع سلوكا عاديا أملته الظرفية الاقتصادية العالمية، ومرحلة من مراحل تطور الليبرالية. على هامش هذا المنظور الدموي، يعيش العالم، قاريا وإقليميا، ردود فعل واضطرابات قوية، تدفع المتتبعين إلى إقرار حدوث تحول اضطراري للاقتصاد المعولم، تحول زاغ عن الهدف المرسوم، والقيم الفكرية المؤسسة الرامية إلى تقوية المنافسة الاقتصادية لتحقيق الإشباع الدائم لحاجيات المجتمعات أفرادا وجماعات من السلع والخدمات، والرفع مستوى المتعة والسعادة في الحياة. لقد أصبح هدف توسيع سوق تجارة الأسلحة بكل أنواعها، الأوتوماتيكية والثقيلة والخفيفة، والكيماوية والنووية، إلى ملاذ للسلطات السياسية بالدول العظمى لتخفيف الأزمات المالية التي تفاقمت بفعل سيطرة الآلات الأوتوماتكية (الروبوتات) والمعلوميات والإعلام والمضاربات المالية وما ترتب عن ذلك من ارتفاع مهول لما يسمى بالقروض السامة والبطالة.
ونتيجة لترويج نموذج الأنظمة الرئاسية القوية، وشخصنة الدولة، بالعودة إلى الكاريزمية الوطنية (روسيا، الصين، تركيا،…)، أصبح العالم مرتبكا، وساد الميل إلى العسكرة والقوة، وساد البؤس في الديمقراطيات الغربية، ومال جزء من الرأي العام الغربي، بوعي أو بغير وعي، إلى مساندة التيارات اليمينية المتطرفة، وأعطى الانطباع وكأن الديمقراطية يمكن أن لا تكون في خدمة الدولة والمجتمع. لقد اتضح أن مع الابتعاد الزمني عن حدث هدم جدار برلين، أن النظام الغربي أصيب بآفة فقدان لمعانه وبريقه ووهجه بالرغم ما بذل من جهد معنوي ومادي للترويج للقوة الناعمة. لقد بات واضحا أن التاريخ لم ينته لا بدكتاتورية البروليتاريا، ولا بسيادة النيوليبرالية. إن الرأسمال المعنوي للإيديولوجية الديمقراطية بثروته اللامادية والرمزية بدأ يتآكل، ليفتح المجال لصراع جديد بمنطق القوة، والآلة الذكية، والمعاملات المالية والسلطوية السياسية والإعلامية. في نفس الآن، وصلت العديد من مجتمعات عالم الجنوب إلى وضعيات هشة، جعلتها لا تقوى على مقاومة سلطوية التطور الإعلامي، وما يوازيه من ممارسات سياسية خشنة. إن التطور النفسي اليومي للأفراد والجماعات في هذه الدول يكاد يصبح مزمنا، ومعرقلا لمعنويات الاستمرار في المساهمة بمردودية طبيعية في التطور والتنمية.
إن ما تعيشه سوريا اليوم، خاصة بالغوطة الشرقية، هو مظهر من المظاهر البارزة لمنطق التطور السياسي الدولي الجديد. الغوطة الشرقية اليوم، هي فضاء للتفاوض الدولي والإقليمي بالحديد والنار وفوق حمامات الدم. لقد تجاوز هذا التفاوض منطلقات الصراع في سوريا، وتجاوز ما يسمى ب”المحادثات” من أجل التسوية السياسية، وتجاوز الحديث عن صراع بين نظام ديكتاتوري ومعارضة تسعى إلى الديمقراطية بمطالب مشروعة. في نفس الوقت، إضعاف المعارضة السورية خلال مرحلة تطور الصراع العنيف، يوازيه حدوث تراجعات بارزة في قيم الديمقراطية الغربية، وصعود ملفت للفكر القومي الروسي والصيني. الكل يراقب ما يجري في أستانا تحت رعاية روسيا، وما يجري في جنيف تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية. إنه صراع الكبار بمنطق المصالح في حظيرة الحضارة العربية.
أما إقدام تركيا على دخول عفرين، وتعليق عالمها الوطني بها، وتراجع الأكراد عسكريا تفاديا للدمار الذي قد تلحقه المواجهة بهذه المدينة، فهو حدث بارز في نفس الإطار الجديد، ويستحق مقالا خاصا. الشائع اليوم، أن هناك ترنح في الموقف التركي ما بين الغرب والشرق وما تمليه واجبات الانتماء إلى حلف الناتو، وأن روسيا تسعى بلا شك إلى تقوية نفوذ حليفها المميز إيران من خلال تحويل الشيعة إلى طائفة حاكمة أو مؤثرة سياسيا في الحكم مشرقيا.
إن نظام السوق، الذي نجح في تبخيس قيمة “العمل” في المنظومات الإنتاجية، يعطي الانطباع وكأنه يسري في اتجاه جعل “الخشونة” موضوع توافق أمريكي، روسي، إيراني، تركي. فإذا استثنينا تنديد النظام السوري بتوغل القوات التركية في شمال سوريا، وردود الرئيس التركي، هنا وهناك، باحترامه لسيادة الأوطان، فإن الموقف السائد دوليا يؤيد تدخل النظام الأردوغاني، وكون الغرض منه هو محاربة داعش والإرهاب وحماية حدود تركيا، ليبقى سؤال “حماية حقوق الإنسان الكونية؟”، كشعار بارز روجته “القوة الناعمة” منذ هدم جدار برلين، مطروحا بحدة على الضمير الأمريكي والأوروبي؟.
إن تطور الأوضاع مشرقيا، يعيد طرح مرتكزات بناء الشرق الأوسط الجديد؟، ويستحضر بقوة المصالح الإسرائيلية ارتباطا بمصالح القوى العظمى، ومسألة إعلان التطبيع الرسمي أو غير الرسمي للعلاقات ما بين إسرائيل وتركيا وإيران. فإذا أضفنا إلى ما ذكر أعلاه الدعوة الأممية لاستمرار الحرب ضد “الدولة الإسلامية”، و”القاعدة”، لتشمل كذلك “النصرة” (في إدلب)، والمواقف المتباينة في شأن “جيش الإسلام”، و “فيلق الرحمان”، …. تبقى معالم التطور السياسي الكوني تحت مجهر المتابعة، ويبقى من واجب دول الجنوب، كما سبق أن أشرت إلى ذلك في مقال سابق، التركيز على التربية والتنشئة الاجتماعية للأجيال المتعاقبة، والتمسك بمردودية المشاريع التنموية، والعمل على تقوية اللحمة والإجماع الوطنيين، والحرص على ترسيخ ثقافة الانفتاح والعقلانية مع اتخاذ الإجراءات اللازمة لإغلاق منافذ الاختراق في هذه المرحلة الحساسة جدا.
الخميس 22 مارس 2018.