يشبه القول بـ«الدول الدينية» القول بالمثلثات المستطيلة أو الدوائر المكعبة أو المقعرات المستقيمة… إلخ؛ إنه من جنس القول المغالط أو القائم على المغالطة والتناقض، فليس من دولة يقع عليها نعت الدينية، أو تتحدد ماهيتها بالدين، لأن الدولة ببساطة كيان دنيوي اصطنعه الناس لإجابة حاجات لهم في اجتماعهم الإنساني.

ولذلك، فالدولة مطلق دولة لا دين لها يأتيها من خارجها الإنساني والدنيوي، وإذا كان من «اللابدية» أن يتحدث المرء عن عقيدة ما، حاكمة للدولة، فعقيدتها السياسة والمصلحة العامة. ولذلك تبطل تعيينات أخرى للدولة من هذا القبيل (الحديث عن ماهية دينية ما للدولة).

وهي تبطل حتى حينما يسلم قائلها بأن الدولة مؤسسة دنيوية اصطناعية، ولكن قد يأتي عليها حين من الدهر يخضع فيه نظامها للدين؛ ذلك أن ما يعتقده القائل ماهية دينية للدولة، ليس أكثر من نموذج للسلطان السياسي الإنساني والدنيوي، المتلفع بالدين. وما أبعد هذا المعنى عن معنى «الدولة الدينية» الذي يقصد به أن نظام الدولة يتحول، هو نفسه، إلى نظام الدين، وأن الدولة تصير بهذا الحسبان من أساسات الدين وأدواته ووسائله التي لا يكون له قيام إلا بها، ومن طريق سلطانها. لذلك لا تعدو مقولة «الدولة الدينية» أن تكون مَزعمة ينتحلها من يبغون أن يتّجروا بالدين، وأن يصنعوا من وراء متاريسه سلطاناً اجتماعياً أو سياسياً.

إن الأقرب إلى الواقع أن يقال إن نظام الحكم الديني، أو السلطة الثيوقراطية، قام في بعض تجارب الدولة في القرون الوسطى؛ والفارق كبير بين الدولة و«بين» السلطة ونظام الحكم.

إن السلطة الدينية التي قامت في التاريخ نسميها تجاوزاً سلطة دينية، ولكنها في الواقع سلطة سياسية بشرية سخر فيها الدين لأغراض محض دنيوية. نسلم هنا بأن الفارق كبير بين سلطة قام على إدارتها جسم ديني كالجسم الحاخامي والإكليريكي في اليهودية والمسيحية الكاثوليكية، وسلطة قام عليها خلفاء وسلاطين مدنيون توسلوا شرعية سلطانهم بالدين، كما في التجربة الإسلامية الكلاسيكية، وبعض تجارب السلطة الحديثة في البلاد العربية والإسلامية. وفي الأحوال جميعاً، لم يكن الله من يحكم في أورشليم (القدس) وروما وبغداد، ولا موسى ويسوع المسيح ومحمد، وإنما كان الحكام أناساً ذوي أفكار ومصالح وأهواء، وتقمصوا أدواراً رسولية انتهت بانتهاء الرسالات.

ولذلك؛ فالسلطة تلك المسماة دينية سلطتهم هم لا سلطة الدين؛ أي سلطة دنيوية بالتعريف.

في الإسلام المعاصر، تطل الفكرة الثيوقراطية من خلال عنوانين «دينيين» سياسيين: «الحاكمية» و«ولاية الفقيه». لم تجد الأولى طريقها إلى التحقق المادي في سلطة سياسية إلا شكلياً في أفغانستان الطالبانية.

أما الثانية فتوفر لها الإمكان، منذ قرابة الأربعين عاماً، في «الثورة الإسلامية» الإيرانية (1979). أتت الفكرتان معاً من خارج الإسلام العربي؛ الأولى من الإسلام الهندي مع أبي الأعلى المودودي، والثانية من الإسلام الإيراني مع أحمد النراقي، ابتداء، ثم مع حسين منتظري والإمام الخميني تالياً. لكنها سرعان ما استقرت في «الإسلام الحركي» العربي حين حملها سيد قطب وتلامذته في مصر والبلاد العربية، وحين حملها تلامذة الخميني في النجف بالعراق وفي جبل عامل بلبنان.

والفكرتان معاً لا تدعوان إلى إقامة نظام حكم إسلامي يطبق الشريعة فحسب، بل تزيدان على ذلك بالدعوة إلى أن ينهض رجال الدين بدور الفئة الحاكمة، بما هم أهل العلم بالشريعة. وهي المرة الأولى في تاريخ الإسلام الحديث التي تقع فيها الدعوة إلى قيام إكليروس إسلامي. ولكن، كما أن بطرس الرسول لم يحكم في روما وإنما حكم البابوات باسمه، كذلك لم يحكم الله ورسوله أياً من بلاد الحاكمية (التي تقول قواها ما قالت الخوارج قبلاً: أن «لا حكم إلا لله»)، مثل أفغانستان، وإنما حكم الملا عمر باسمهما، ولا حكم الإمام المهدي (الغائب) طهران، وإنما حكم الخميني وخامنئي باسمه.

ومع ذلك، لا دولة «الحاكمية»، التي لم تقم، ولا دولة «الولي الفقيه»، القائمة، دينية. نعم إن النظام السياسي الحاكم في طهران وكابول وسواهما يدّعي قيام سلطانه على قواعد الشرع، ولكن ليس ينبغي أن تبنى نتائج على الادعاء ذاك تشهد له، وإلا يكون المستنتج قد سقط في فخ المدعي!

كل من يعرف تراث الإسلام وتاريخه يعرف أنه لا سلطة دينية في أصوله وتعاليمه. وحتى على فرض أنها قامت، في الإسلام التاريخي، على نحو مجاف للأصول تلك، فهي لا يمكن أن تكون سلطة إسلامية جامعة؛ أي ممثلة لمدارس الإسلام واتجاهاته كافة، وإنما ستكون حكماً سلطة طائفية أو مذهبية تحكم باسم فئة بعينها في المجتمع، وتستثني منها فئات أخرى مخالفة.

وبما أن السلطة الدينية سلطة طائفية ومذهبية؛ أي غير تمثيلية لأتباع الدين كافة، لا يكون منها سوى أن تصير إلى الاستبداد والاضطهاد، ناهيك بالفساد. ولكن المشكلة الأعظم في كل سلطة طائفية أو مذهبية، هي أنها تفسد السياسة والحياة السياسية إفساداً عظيماً؛ لأنها تولد نقائضها الطائفية والمذهبية، وتدخل الصراع في نفق الفتنة والحرب الأهلية!

 

الاثنين 20 مارس 2018./ 02 رحب 1439.هج

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …