في لقاء جمعه بعدد من تلاميذ السنة الثانية من سلك البكالوريا، نظم في أوائل أيام شهر مارس بإحدى المجموعات المدرسية الخصوصية بالدار البيضاء، بمناسبة الدورة السابعة لفعاليات الملتقى التوجيهي، ألقى سعد الدين العثماني رئيس الحكومة والأمين العام لحزب “العدالة والتنمية”، كلمة أمام المشاركين المقبلين على اجتياز الامتحان الوطني لنيل شهادة البكالوريا برسم سنة 2018، ورد فيها أنه رسب في البكالوريا خلال السنة الأولى من مشاركته، جراء انشغاله بالسياسة، رغم أنه كان مجتهدا بشعبة: العلوم الرياضية، كما أن الاعتقال تسبب له في تكرار السنة الأولى بكلية الطب !
وإذا كان مفهوما تهميش المدرسة العمومية وحرمانها من عديد الأنشطة، وخاصة منتديات بمثل هذا الزخم وذات أهمية بالغة في تحديد مستقبل المتعلمين، وتوالي الضربات الموجعة التي ساهمت في تردي أوضاعها كما تشهد بذلك رتبها المتدنية في مؤشرات التنمية حسب التقارير الوطنية والدولية، فإنه من غير المستساغ ترهيب شبابنا وتنفيرهم الممنهج من السياسة، في مغرب العهد الجديد.
ألا يعلم الرجل الثاني في هرم السلطة، أنه بقوله أن انشغاله بالسياسة قاده إلى “السقوط” و”الاعتقال”، يكون قد بعث برسالة سلبية لشريحة مجتمعية هامة من نساء ورجال الغد، الذين يعتبرون ركائز الأمة وأساس تنميتها وازدهارها ورمز حضارتها ومجدها..؟ ألا يكفيه ما تعرضت له السياسة من ذبح وسلخ على أيدي الكثيرين من ممارسيها، الذين أفرغوها من نبل رسالتها وحولوها إلى مصدر اغتناء فاحش وتحقيق مصالح ذاتية وأجندات خاصة؟ وهل يجهل أن هناك إحصائيات رسمية تشير إلى أن نسبة الشباب المتراوحة أعمارهم ما بين 18 و24 سنة من المشاركين في تشريعيات 2016، التي بوأت حزبه الصدارة ب125 مقعدا، لم تتجاوز 9 بالمائة من مجموع الكتلة الناخبة. وأن إحداث لائحة وطنية ضمن “كوطا” خاصة بهم، لم ينعكس إيجابا على مشاركتهم في العمل السياسي لاعتبارات عدة؟
والعثماني ليس بمن يتكلم من فراغ أو بصفته الشخصية، بل يعي جيدا ما يقول مادام محكوما بأهداف الحركة الدعوية إياها وإيديولوجية التنظيم الحزبي الذي يتربع على كرسي أمانته العامة. ويؤمن بمعية صحبه، أنهم فضلا عن استغلال الدين واعتماد ازدواجية الخطاب ولغة المظلومية ونظرية المؤامرة في حشد دعم الجماهير الشعبية، والاستفادة من مساندة الحركات السلفية والفصائل الطلابية، والأعمال الخيرية المتنوعة التي تقام سرا وعلانية على طول السنة وفق تقاليد “الإخوان المسلمين”. فإنهم خلافا لباقي الهيئات السياسية، يتوفرون على كتلة انتخابية قارة وملتزمة بالتصويت لفائدة مرشحي رمز المصباح في الاستحقاقات الانتخابية، ولهم ذراع دعوية “حركة التوحيد والإصلاح” تساعدهم في الاستقطاب والتأطير، لاسيما في ظل تنامي الفكر المحافظ وسط المجتمع، ويقدمون أنفسهم على أنهم هبة من السماء ونموذج حقيقي للمعقول والطهرانية. وأنهم بفضل دغدغة مشاعر الناس والتلاعب بعقولهم، استطاعوا تسجيل آلاف المواطنين في اللوائح الانتخابية العامة والفوز في الانتخابات الأخيرة، وباتوا أكثر اطمئنانا على مكاسبهم ومستقبل حزبهم على مستوى نتائج صناديق الاقتراع. ولأجل ذلك كله لم يعد يزعجهم عزوف الشباب، خارج تنظيماتهم، عن العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات…
والسياسة علم والتزام أخلاقي، يتعين على كل ممارسيها باختلاف ألوانهم السياسية التحلي بمبادئها السامية، فهي تعنى بشؤون المواطنين وتهتم بحقوقهم وواجباتهم، وما وجود الأحزاب السياسية ورصد دعم عمومي لها إلا للقيام بما يلزم من تأطير وتحفيز على الفعل السياسي والإسهام في تدبير الشأن العام، للنهوض بأوضاع البلاد وتحسين ظروف العباد. فالمادة السابعة تشير في فقرتها الأولى من الدستور إلى: “تعمل الأحزاب السياسية على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية”. ولم يرد في أي مادة أو فقرة أن من بين وظائفها بث بذور العنف والكراهية، وتحريض المريدين والكتائب الإلكترونية على مهاجمة الخصوم وكل من يختلف مع الحزب الحاكم في الرأي. إضافة إلى أن المواطنين لم يعودوا يطيقون الانشغال عن همومهم اليومية وقضاياهم الكبرى بالتطاحنات السياسوية والتنابز بالألقاب وتدني مستوى الخطاب، الذي أضر كثيرا بالسياسة وصورة المؤسسات الدستورية.
إننا بحاجة إلى بناء وطن قوي، من خلال العمل على تنشئة سياسية سليمة وشحذ همم شبابنا وتقوية عزائمهم. وإلى تجويد الأحزاب السياسية عروضها، عبر تحقيق الديمقراطية الداخلية وتجديد النخب. وإلى فاعل سياسي قدوة، يكون كفؤا وملتزما بقيم الصدق والنزاهة، قادرا على العطاء ونكران الذات، حريصا على ترسيخ مبادئ الشفافية والحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة… وإلى رئيس حكومة ووزراء يتعاملون مع أبناء الشعب على قدم المساواة دون أدنى تمييز. وإلى ممارسة الديمقراطية وليس ادعاءها، وإلى أشخاص أسوياء وذوي ضمائر حية عوض متهافتين على المناصب والحقائب والامتيازات الريعية، ومتهاونين ومضللين ومقسمي المجتمع إلى شطرين: معسكر “الأخيار” ومعسكر “الأشرار” !
والشباب المغربي ليس بالعدمية التي تتصورها بعض العقليات المتحجرة، إذ يحمل معظمهم تصورا سياسيا واضحا لإحداث التغيير المأمول ومكافحة الفساد، وإعادة الثقة للمواطنين في السياسة والمؤسسات، كما أنهم يملكون مشروعا مجتمعيا متعدد المرجعيات الفكرية، ولا ينقصهم عدا حرية المبادرة والتأطير بدل الإقصاء والتنفير. ولنستحضر جميعا ما قامت به “حركة 20 فبراير” المباركة من رجة قوية غير مسبوقة ذات “ربيع عربي”.
الخميس 15 مارس 2018./ 27 جمادى الثانية 1439. هج