بعد جولات طويلة من النقاش العمومي بخصوص إصلاح المنظومة القضائية في المغرب، صادق البرلمان المغربي، السنة المنصرمة، على قانون يخرج النيابة العامة من مسؤولية وزير العدل. وبهذا الإجراء، دشن المغرب مرحلة جديدة في تاريخ جهازه القضائي، وذلك بعدما عين الملك محمد السادس السيد محمد عبد النباوي وكيلا له لدى محكمة النقض وتاليا رئيسا للنيابة العامة. وقد نقل الملك اختصاصات الإشراف على السلطة القضائية من الحكومة في شخص وزير العدل إلى مؤسسة النيابة العامة.
وفي سياق متابعة هذه التجربة الفريدة، أجرت المفكرة القانونية، حواراً خاصاً مع رئيس النيابة العامة في المغرب، محمد عبد النباوي، تم التطرق خلاله إلى مجموعة من الإشكالات المرتبطة باستقلال النيابة العامة، مثل ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتعزيز الشفافية الداخلية، بالإضافة إلى تواصل هذه المؤسسة الحيوية مع وسائل الإعلام والسبل التي ستنهجها القيادة الجديدة لهذا الجهاز القضائي.
اللافت في الحوار هو انفتاح النائب العام على التواصل مع الإعلام، وتأكيده على خضوعه للمساءلة أمام المجلس الأعلى للسلطة القضائية وأيضا على احترامه لاستقلال أعضاء النيابة العامة في أداء أعمالهم، مما يخفف من الطابع الهرمي لتنظيم النيابات العامة. بالمقابل،
وفي ما يلي النص الكامل للحوار:
المفكرة: تم تعيينكم على رأس النيابة العامة في شتنبر من السنة المنصرمة، وهي اللحظة التي تم فيها وضع نُقطة نهاية إشراف وزير العدل على هذا الجهاز القضائي. اليوم، كيف ترون عمليا استقلال النيابة العامة؟ وأكثر تحديدا: هل من حاجة برأيكم من أجل نيابة عامة أكثر استقلالا، لإعطاء أعضاء النيابة العامة استقلالية ذاتية أكبر في التحقيق في ملفاتهم؟
(ج) يجب في البداية أن نؤكد أن النيابة العامة جزء من السلطة القضائية. وأن استقلال هذه السلطة (القضائية) عن السلطتين التشريعية والتنفيذية يشمل قضاة النيابة العامة كما يشمل قضاة الحكم. بمعنى أن السلطتين التشريعية والتنفيذية لا تُراقِبان ولا تُسائِلان السلطة القضائية ولا أعضاءها حول مهامهم القضائية. وهذا مقتضى دستوري تضمنه الفصل 107 من دستور 2011.
واستقلال السلطة القضائية عن السلطتين المذكورتين هو استقلال مؤسساتي يُحصِّن المؤسسة القضائية من الخضوع لبرامج الحكومات أو الدخول في حسابات الأغلبية والأقلية التي يمكن أن تَفرِض (ولو نظريا) بعض الأجندات أو التوجهات التي قد تؤثر في عمل القضاة. وبطبيعة الحال فإن الحاجة إلى مثل هذا النوع من الاستقلال قائمةٌ باستمرار. ولذلك، فإن مواثيق الأمم المتحدة تنص على توفيره. كما أن الدساتير المتقدمة تتنافس على تبنيه. وبطبيعة الحال، هذا النوع من الاستقلال غير كاف لوحده لتحصين قرارات القضاة، بمن فيهم قضاة النيابة العامة. ولذلك فقد ضمِن لهم الدستور المغربي حمايةً ذاتية داخل التسلسل الهرمي الذي ينتمون إليه، إذ إن المجلس الأعلى للسلطة القضائية هو الذي يدبر وضعياتهم المهنية، وليس رئيسهم. ونعني بالوضعيات المهنية تعيين أعضاء النيابة العامة ونقلهم وترقيتهم وتأديبهم وإحالتهم على المعاش.
أما الوكيل العام للملك، رئيس النيابة العامة الذي يملك سلطة تسيير مهام أعضائها فليس له سوى تقديم تقارير تقييم إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية حول مستوى أداء أعضاء النيابة العامة. وبالتالي، فإن أعضاء النيابة العامة يحافظون على حقهم في رفض تنفيذ التعليمات والأوامر المخالفة للقانون التي تصدر عن رؤسائهم، ولهم أن يشعروا المجلس الأعلى للسلطة القضائية مباشرة بكل ما يهدد استقلالهم، ولا يُسألون سوى عن عدم تنفيذ التعليمات الكتابية القانونية وفقأً للنص الدستوري الصريح.
المفكرة: كيف تتصورون إعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في حالتكم؟ خاصة وأنكم لا تُحاسبون أمام السلطتين التشريعية والتنفيذية؟
(ج) إن عدم مساءلة الوكيل العام للملك (رئيس النيابة العامة) من طرف الحكومة أو البرلمان – نظراً لاستقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية-، لا يعني أنه غير معني بالمبدأ الدستوري المتعلق بالخضوع للمساءلة والمحاسبة. ولكن مساءلته تتم من طرف رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي هو صاحب الجلالة، ملك البلاد، وذلك بصفته السلطة التي تعين الوكيل العام للملك. وكذلك من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي يقدم إليه الوكيل العام للملك تقريراً دوريا حول سير النيابة العامة وتنفيذ السياسة الجنائية.
ومن جهة أخرى، لا يجب أن يغرب عن البال أن تعليمات رئيس النيابة العامة تهمّ مرؤوسيه من أعضاء النيابة وحدهم، وأن القرارات القضائية التي يتخذها هؤلاء تخضع جميعها لمراقبة القضاء في أقرب الآجال. وهو ما يشكل ضمانة عظمى للمتقاضين من كل تجاوز في استعمال السلطة.
ومن جهة أخرى فلا ننسى كذلك أن رئيس النيابة العامة وأعضاءها محايدون ولا ينتمون لأي تيار سياسي أو عقائدي أو نقابي أو غيره، وبالتالي فإن هذا الإلزام الدستوري يوفر لهم الشروط المثلى للحياد.
المفكرة: غالبا ما وجهت انتقادات للنيابة العامة بخصوص الشفافية الداخلية. هل ثمة خطط لوضع معايير علمية أو موضوعية للتعليمات التي قد تتخذونها، سواء كانت عامة أم خاصة؟
(ج) لئن كانت هناك بعض الانتقادات توجه في السابق بشأن ما أسميتموه بنقص الشفافية الداخلية، فإن هذا الوضع قد تغير، لأن الجهة التي تتحكم في المصير المهني للقضاة لم تعد هي رئيسهم. كما أن الدستور حسم في موضوع التعليمات الرئاسية ونص على أنها يجب أن تكون كتابية وقانونية. بالتالي، فإن أعضاء النيابة العامة يساءلون فقط عن عدم تنفيذ تعليمات رئيسهم المكتوبة والتي تستند للقانون دون سواها من التعليمات. وأن المساءلة تتم من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي يتكون من 10 قضاة منتخبين ومن 10 شخصيات أخرى برئاسة الرئيس الأول لمحكمة النقض. وهو ما يشكل ضمانة حقيقية.
المفكرة: هل ثمة توجه لتفعيل آليات لإشراك أعضاء النيابة العامة أو بعضهم في القرارات الصادرة عنكم، ولا سيما فيما يتصل بالتعليمات العامة المتصلة بالسياسة الجزائية؟
(ج) بداية، هناك إشراك دائم لأعضاء النيابة العامة في القرارات، كلما تطلب الأمر دخول بعض القوانين الجديدة حيز التطبيق أو اتخاذ بعض القرارات الكبرى، حيث يتم تشكيل لجان من المسؤولين عن النيابات العامة أو بعضها، لوضع تصورات أو تحديد برامج.. وهذا أسلوب سنحرص عليه كلما دعت الحاجة. ومن جهة أخرى، فإن الحوار سيظل مفتوحا مع كافة شركائنا في تدبير المهام القضائية كوزارة العدل وجمعية هيئات المحامين والأجهزة المسيِّرة للمهن القضائية الأخرى.
المفكرة: برز تواصلكم مع الإعلام منذ توليكم مسؤولياتكم؟ هل ستضعون آليات تواصل على صعيد المحاكم الكبرى أم سيبقى التواصل مع الإعلام مركزيا؟ وهل يحصر بشخصكم أم سينشأ مكتب للتواصل مع الإعلام؟ وهل تعتزمون وضع معايير عامة للتواصل مع الإعلام؟
(ج) القرار قد اتخذ منذ البداية وتم الإعلان عنه، ولكن تنفيذه يحتاج لبعض الوقت لغاية التوفر على الكفاءات البشرية المناسبة لهذه المهام.
كما أنه في نيتنا أن تتوفر كل نيابة عامة على إطار يتولى هذه المهمة، وسيتم ذلك بمجرد تمكننا من تكوين الأطر المعينة على مهام التواصل. علما أن السادة الوكلاء العامين للملك ووكلاء الملك يقومون بهذه المهمة حاليا ويتواصلون مع الإعلام كلما كان هنالك داع أو حاجة لذلك. ولا تنسوا أن عمر مؤسسة رئاسة النيابة العامة لم يتجاوز بعد خمسة أشهر. وفي مدة كهذه لا يمكن القيام بكل شيء، سيما مع إكراهات وصعوبات التأسيس، ونقص المواد البشرية وعدم إتمام تنزيل الهياكل.
المفكرة: القرار الأخير للمحكمة الدستورية الرافض لمسألة فصل ميزانية النيابة العامة عن ميزانية المجلس الأعلى للسلطة القضائية، أثار لبسا بخصوص الاستقلال الكامل للنيابة العامة خاصة على المستوى المالي وسلطة الأمر بالصرف. كيف توضحون هذا اللبس؟
(ج) الطعن المقدم ضد قانون المالية كان يستهدف التصريح بعدم دستورية القانون المذكور لأنه لم يخصص باباً مستقلا لميزانية رئاسة النيابة العامة، وإنما أدمج الاعتمادات المخصصة لهذه الرئاسة ضمن الباب المخصص للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، فصرحت المحكمة الدستورية أن هذا الأسلوب لا يخالف الدستور. والواقع، أن دمج ميزانية النيابة العامة على هذا الوجه هو مجرد إجراء إداري لا يمس استقلال النيابة العامة في شيء، لأن رئاستها هي التي تتولى تدبير الاعتمادات المالية المرصودة لها بشكل مستقل ولا يتدخل فيه المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي يكتفي بتحويل الأموال المرصودة لحساب رئاسة النيابة العامة. والوكيل العام هو الآمر بالصرف بشكل مستقل ويخضع لكل قواعد ومساطر المحاسبة العمومية المقررة للهيئات الدستورية المماثلة.
المفكرة: ما هي أبرز المشاكل التي تعترض اليوم عمل النيابة العامة؟ وتحديدا: هل ترون أن عدد النيابات العامة كاف لقيامها بمسؤولياتها؟ هل ترون أن طريقة تعيين هؤلاء لجهة المؤهلات تحصل وفق معايير مرضية؟
(ج) إن النيابات العامة ممثلة لدى جميع محاكم المملكة باستثناء المحاكم الإدارية التي لا ينص نظامها على وجود النيابة العامة.
وأما نقص عدد أطر النيابة العامة، فهو حقيقة لا يمكن إنكارها.. إلا أن هذا النقص لا يخص قضاء النيابة العامة وحده، بل يعم كافة الجسم القضائي. ومن جهة أخرى، فإن قضاة النيابة العامة يسخّرون كل طاقاتهم للتخفيف من آثار النقص العددي، وهم متفوقون في ذلك لحد الآن بسبب جديتهم ويقظة ضمائرهم ووفائهم لمهامهم، وكذلك بفضل حرص المسؤولين ويقظتهم.
وأما عن المؤهلات العلمية لأعضاء النيابة العامة، فنعتقد أن النظام المعتمد لتعيين القضاة عموماً يستند إلى أسلوب جيد يستقطب المتفوقين من خريجي الجامعات، فضلا عن كون التكوين بالمعهد العالي للقضاء يتسم بالجودة والنوعية. كما أنه ينتظر أن يزيد القانون في نوعية الدرجات العلمية التي تؤهل للمشاركة في مباراة الولوج إلى السلك القضائي.
المفكرة: هل يعيق عدم استقلال الشرطة القضائية مسار إصلاح النيابة العامة؟
(ج) لا نعتقد أن هناك مشاكل ترتبط بعدم انتماء الشرطة إداريا بالنيابة العامة، طالما أنها تعمل بمقتضى تعليمات وأوامر هذه الأخيرة. ولم يحدث منذ سنوات طويلة أن تمت معاينة مشاكل من هذا النوع. علما أن القانون قرر عقوبات صارمة على ضباط الشرطة القضائية الذين يخالفون الإجراءات المقررة لممارسة مهامهم المرتبطة بالضبط القضائي بما فيها تجريدهم من صفة ضباط الشرطة القضائية. وأن القضاء (ممثلا في الغرفة الجنحية لدى محكمة الاستئناف) هو الذي يصدر هذه العقوبات بناء على إحالة من النيابة العامة المختصة. ومن جهة أخرى، لا أعرف نظاما يفصل بكيفية مطلقة وعامة بين الشرطة الإدارية والقضائية، لأن ذلك يتطلب موارد بشرية كبيرة وما يستتبعه من إمكانيات مالية ومادية ضخمة. ولذلك فغالبية الدول تستعمل الشرطة الإدارية في مهام الضبط القضائي كذلك. علما أنه بالنسبة للمغرب، هناك ضباط متفرغون لمهام الشرطة القضائية (الضبط القضائي)، ويعملون فقط لفائدة الأبحاث الجنائية كما هو شأن الفرق الوطنية والجهوية للشرطة القضائية التابعة للأمن الوطني أو الدرك الملكي. في حين يقوم موظفو الأمن الوطني والدرك الملكي بالإضافة إلى موظفين ينتمون لقطاعات أخرى بمهام الشرطة القضائية تحت الإشراف المباشر النيابات العامة دون مشاكل تذكر.
المفكرة: هل تلحظون فسادا داخل النيابة العامة أو دوائر الشرطة؟ هل تلحظون لجوءاً إلى أساليب تعذيب أو أي انتهاكات أخرى؟
(ج) فيما يتعلق بالتعذيب، فهو مجرَّم بمقتضى القانون، ويعاقب عنه بعقوبات جنائية شديدة. كما أن الدولة وفرت عدة وسائل للوقاية منه، في مقدمتها الزيارات المباغتة التي يقوم بها أعضاء النيابة العامة لمخافر الشرطة القضائية، وإجبارية إجراء فحص طبي على كل شخص يدعي أنه تعرض للتعذيب أو لسوء المعاملة أو يلاحظ عليه آثار للعنف، بالإضافة إلى زيارة المحامي للشخص الموضوع رهن الحراسة النظرية. ويتجه مشروع قانون المسطرة الجنائية (الإجراءات الجزائية) إلى إقرار المزيد من الضمانات، في مقدمتها التسجيل السمعي البصري للاستنطاقات التي تجريها الشرطة القضائية.
المفكرة: ما هي التدابير التي تعتقدون أنكم اتخذتموها لحل الإشكاليات؟ وما هي أولوياتكم اليوم؟ ما أهم خططكم بما يتصل بالسياسة الجزائية؟ هل تعتزمون إصدار توجيهات عامة بالتشدد في بعض الجرائم أو في التساهل في أخرى؟ في أي ميادين؟
(ج) الجرائم التى يحظى تتبعها بالأولوية تم تحديدها في المنشور الأول الذي وجهناه للنيابات العامة، يوم تسلمنا مهامنا كرئيس للنيابة العامة في 7 أكتوبر 2018. ومن بينها الفساد المالي والإرهاب والتعذيب وسوء المعاملة والجرائم الماسة بالأمن والنظام العامين، بالإضافة إلى ضرورة احترام الحقوق والحريات المخولة للأفراد والجماعات وحماية النساء والأطفال و القائمين على إنفاذ القانون وحماية سلامة الأشخاص والممتلكات وغيرها.. وهذا لا يعني إهمال باقي الجرائم وعدم إيلائها العناية اللازمة، وإنما يعني فقط أن يعطى لتلك القضايا مزيداً من الجدية في التعامل بالنظر لاهتمام النظام العام بها أو بالنظر لخطورتها.
المفكرة: أيّ خطط لعملكم المستقبلية؟
(ج) فيما يتعلق بخطط العمل المستقبلية للنيابة العامة، فسيعلن عنها في الوقت المناسب، لأننا مازلنا في مرحلة التأسيس وإقامة هياكل المؤسسة وتوفير الموارد البشرية والهياكل التنظيمية لها.
عن المفكرة القانونية