(1)
كتاب أمريكا اللاتينية يشعرونك دوما بأن الأفكار تأتي من بلدان لن تذهب إليها أبدا! وماريو فارغاس يوسا، أحد هؤلاء، لاسيما عندما يترك الخيال الأدبي ويغوص بذكائه القاري في تفاصيل الحياة السياسية….
كتابه الأخير، حول «حضارة الفرجة» لا يخرج القارئ منه سالما.
أبدا..
فهو كتاب عن الثقافة، الإعلام، السياسة والفرجة، في تركيب لا يجيده سوى عقل ليبرالي متنور، يساهم في بناء الذكاء كلما أتيحت قراءته….
كتب فارغاس يوسا، فصل عن الثقافة والسياسة والسلطة.. هكذا في مجتمع منفتح، تكون للثقافة، حتى وإن كانت مستقلة عن الحياة الرسمية، علاقة وتبادل مع السياسة، بشكل حتمي وضروري..، لا لأن الدولة مطالبة، بدون قضم حرية التعبير والنقد والإبداع، بدعم وتثمين الأنشطة الثقافية – الحفاظ على التراث الثقافي ودعمه على وجه الخصوص، بل لأن الثقافة عليها أيضا ممارسة تأثيرها على الحياة السياسية. وذلك بإخضاعها لتقييم نقدي متواصل وتلقينها قيما وأشكالا تمنعها من التدهور.
من سوء الحظ، نجد أن الثقافة، في حضارة الفرجة، عوض أن تشترط من السياسة بعض معايير التفوق والنزاهة، تساهم بفعل تأثيرها في تدهورها الأخلاقي والمدني.. ، ذلك بتشجيع أقبح ما قد يكون فيها، مثلا المهازل القحة!
فقد تابعنا كيف أن السياسة، على إيقاع الثقافة السائدة قد عوضت الأفكار والمثل السامية والنقاش الفكري والبرامج، بالإشهار والمظاهر…، وهو ما يجعل أن الشعبية والنجاح لا يحازان بالذكاء أو النزاهة ونظافة اليد بل بالديماغوجية وموهبة إثارة الانتباه… هستيريا. وهكذا نجد أنفسنا أمام مفارقة غريبة: في الوقت الذي نجد في المجتمعات السلطوية أن السياسة هي التي تفسد وتدهور الثقافة، تكون الثقافة – أو من يسطو على اسمها- في الديموقراطيات المعاصرة هي التي تفسد وتدهور السياسة والسياسيين»..
آثرت ترجمة هذه الفقرات الطويلة من الكتاب، الذي أنهيت قراءته بمتعة كبيرة، في إحالة على الشغف الذي رافق هذا الروائي والصحفي والسياسي البيروفي الذي حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 2010 ….
وأعرف أيضا أنني أجد عناوينه موفقة، كما هو شغفه بالسجال السياسي والثقافي، هو الذي ظهر في سماء الأدب منذ الوهلة الأولى، بعد نشر روايته الأولى «المدينة والكلاب» التي نال عليها جوائز عديدة، منها جائزة «ببليوتيكا بريفي» عام 1963 م وجائزة «النقد» عام 1998 م.
الروائي خاض أيضا تجربة في التنافس السياسي، وقد فشل في يونيو 1990 أمام آلبرتو فوغيموري من أصل ياباني في الانتخابات الرئاسية في بلاده.
ربما يكون قد احتفظ ببعض المرارة من هذه التجربة، لكن الحكمة تتقاطر فعلا من فصول كتابه عن الفرجة وحضارتها الغازية.. يتساءل الكاتب الشغوف: كيف وصلنا إلى التفكير، في كل مكان، كما أراد الدكتاتوريون تلقين ذلك إلى الشعوب تحت نيرهم، أن السياسة نشاط مخز؟..
يجيب فارغاس يوسا في فقرة أخرى من نفس الكتاب:
إن المظهر الأكثر سلبية لحضارة الفرجة قد يكون ربما هو القدر المخصص للطبقة السياسية من طرف وسائل الإعلام…، وهذا أحد الأسباب التي تجعل، أننا في العالم المعاصر قلما نجد رجال دولة أو قادة يستحقون الإعجاب الكوني…».
هو نقاش من نوع آخر، حيث الكتاب صناعة والصحافة صناعة، وهو نقاش لا يدعو إلى قتل الثقافة لنقاط السياسة كما قد يتبادر إلى الذهن، أبدا، إنه دعوة إلى تحرير الثقافة من عيوب السياسة، وتحرير السياسة من ثقافة الفرجة التي تضعف العقل والمخيلة معا..
قد لا نعدم سياسيين مغاربة سيصرخون فرحا:آش قلنا ليكم، هاهو نوبل للآداب يمدح قلة الأدب وينبهنا إلى مخاطر الثقافة على السياسة، أخرجوا مسدساتكم كلما رأيتم مثقفين…
لكن ذلك سيكون مهزلة كبيرة..
لأن الأمر هنا من صميم النقد البناء للثقافة حتى تستمر في لعب دورها المحصن للممارسة السياسية..وللحذر من مطبات الفرجة في السياسة والثقافة معا..
(2)
لا بد لي من الإقرار أنني وجدت في الجولة مع” ماريو فارغاس يوسا”، وكتابه «حضارة الفرجة،» مادة غير مسبوقة في مجال ربط خدمة الدولة، البيروقراطية والديموقراطية..
ففي الوقت الحالي الذي صارت فيه الإدارة موضوع حركة مزدوجة، نقد وإصلاح تشخيص ومبادرات من أعلى هرم الدولة، يقدم لنا هذا التلازم بين خدمة الدولة والديموقراطية والإدارة - أو البيروقراطية كما يسميها صاحب رواية ”المدينة والكلاب”- زاوية للقراءة لا تخلو من متعة النص ومتعة العقل أيضا..
ونستفيد من” فارغاس” يوسا أنه، لكي تشتغل الديموقراطية بطريقة جيدة، لا بد أن يكون بمقدورها أن تعول على بيروقراطية كفؤة ونزيهة، مثل تلك التي، في الماضي، صنعت عظمة فرنسا وانجلترا أواليابان، إذا اقتصرنا على هذه الأمثلة الثلاثة فقط….
«فإلى حدود تاريخ قريب نسبيا، كانت خدمة الدولة عملا مشتهى، لأنه عمل جدير بالاحترام والشرف..مع الوعي بالمساهمة في تقدم الوطن.هؤلاء الموظفون،عموما، كانوا يحصلون على أجور مناسبة، ويتمتعون بنوع من الأمن في ما يخص مستقبلهم، وبالرغم من أن الكثيرين منهم كان بإمكانهم أن يربحوا أكثر في المقاولات الخاصة، فقد كانوا يفضلون الخدمة العمومية… لأنهم كانوا يعوضون الفرق بكون العمل الذي يقومون به كان يضمن لهم الاحترام، وبكون مواطنيهم كانوا يعترفون لهم بأهمية الوظيفة التي يؤدونها.. في أيامنا هاته، هذا الأمر يكاد يختفي كليا، إذ أن الموظف محتقر مثل السياسي، والرأي العام عادة ما يرى فيه عنصرا غير ضروري للتقدم، بل عقبة وطفيلية للميزانية! وبطبيعة الحال فإن التضخم البيروقراطي والتزايد غير المسؤول للموظفين مقابل امتيازات سياسية، قد يحول أحيانا الإدارة العمومية إلى متاهة يحول فيه أبسط أمر إلى كابوس للمواطن الذي لا نفوذ له أو الذي لا يريد أو لا يستطيع دفع الرشوة«، غير أنه سيكون من الظلم تعميم هذا الأمر ووضع كل الموظفين في سلة واحدة، لوجود العديد من الذين يقاومون الترهل والتشاؤم ويتحملون بشجاعة متكتمة السير الحسن للديموقراطية..”
هذا المقطع الطويل من كتابه، يبدو تشريحا عميقا، للمنافذ التي يمكن أن يدخل منها الخلل، وفي الوقت ذاته يقبل التعميم على تجارب كثيرة في عالمنا.
الدولة، باعتبارها تسعى إلى الصالح العام تحتاج إلى الإدارة لتحقيق ذلك، والإدارة لا يمكن أن تقوم في جزء كبير منها إلا بالوظيفة العمومية.. وهنا جوهر الفكرة الإصلاحية….
من المؤكد أن الحيوية الحالية، سواء بعد خطاب ملك البلاد التوبيخي في رصد مظاهر الخلل العامة في الإدارة أو من خلال العمل الذي تقوم به وزارة الوظيفة العمومية وتقدمه كأجندة للإصلاح الميداني،لا يمكن أن تأخذ معناها إلا من زاوية إصلاح الدولة، لإصلاح خدمتها، كما يعلمنا الروائي البيروفي أن عمق الإصلاح هنا، كي لا يظل سطحيا أو مجانبا للتاريخ، هو خدمة للديموقراطية. بمعنى آخر، إن إصلاح الإدارة لا بد من أن يتأطر بخدمة الاشتغال الجيد للديموقراطية.