لقد استطاع الغرب أن يتخلص من ظلمات القرون الوسطى عبر نقده للفكر الديني ، فأنجب فولتير وكانط وكيركغراد وسبينوزا، وغيرهم، مما ساعد على التخلٌّص من سلطوية الكنيسة والانخراط في التنوير والحداثة وبناء حضارة عظيمة، ومن ثمة لم يعد أي فكر أو إيديولوجيا أو مذهب يعلو عن الشك والنقد والمساءلة، بل لقد اعتُبرَ نقد الفكر الديني جزءا من النزعة الإنسانية، ليس في الأوساط الفكرية فحسب، بل وكذلك من داخل المنظومة الدينية نفسها، إذ مهٌٓدٓ هذا النقد للإصلاح الديني وظهور الحركة البروتستانية…

لكننا عندما نفكر في ما يجري اليوم في منطقة الشرق الأوسط نجد أن جماعات الإرهاب التكفيري تنشر فكرا فاشيا، إذ تعتقد أن الحقيقة شيء مطلق موجود، وكل ما ينبغي على البشرية أن تقوم به هو أن تدركها وتؤمن بها، والسبيل إلى ذلك هو اعتناق تفسير هذه الجماعات للنص الديني وفهمها لوظيفة الدين ودوره في المجتمع والحياة عامة.

كما تؤمن هذه الجماعات بسمو مجموعة من الناس على البشر، وبالتالي فهي تمتلك حقا مقدسا في استتباعهم والسيطرة عليهم والتحكم في حياتهم الخاصة والعامة، بل وحتى في علاقتهم بالخالق من خلال إملاء وفرض ما يجب أن تكون عليه وما لا يجب أن تكون…..

بالإضافة إلى ذلك، تؤمن هذه التنظيمات إيمانا أعمى بفكرة القتال، حيث جعلته غاية في حد ذاته؛ فالإنسان، في نظرها، لا يحارب من أجل أن يعيش. بل يعيش من أجل أن يحارب، ومن ثمة فقد جعلت من الكراهية واجبا مقدسا، إذ تعتقد أن الحرب وسيلة مقدسة للتقرب إلى الله ونيل رضاه ومكافأته.

فالحرب والقتال، في نظرها، وسيلة لحل مشاكل الإنسان النفسية والاجتماعية والمادية، حيث تقول له: إذا ضاقت بك الحياة فما عليك إلا أن تجاهد فتحَلُّ جميع مشاكلك بشكل تلقائي، وذلك يقتضي منك القيام بالغزوات والنهب والسلب والسبي… على هذا النحو، حولت هذه الجماعات القتال والحروب إلى فضيلة، وتحوَّلَ معها ما هو أسوأ وأبشع إلى أم الفرائض التي يفتح أداؤها باب الجنة على مصراعيه أمام المرء، حسب زعمهم…

تحتاج الفاشية إلى عدوين. لذلك نجد الجماعات التكفيرية في الشرق الأوسط تؤمن بوجود خصمين لَذوذين: أحدهما خارجي، والآخر داخلي. أما الخارجي، فيتجسد في الأجنبي الذي تعتقد هذه الجماعات المتأسلمة أنه يحيك المؤمرات ليس ضدها فحسب، بل وكذلك ضد الأمة بكاملها سعيا منه إلى تدميرها وإفنائها. وبذلك، نجد هذه الجماعات تروِّجُ دوما لوجود خطر خارجي يتهددها ويتربص بالأمة. أما العدو الداخلي، فيتجسد في من ينتمون إلى بلد هذه الجماعات، لكنهم لا ينتمون إليها ولا يشاطرونها إيديولوجيتها ويرفضون اعتناق تفكيرها والانخراط في عملياتها الإرهابية. هكذا، تعتبر هذه الجماعات كل المستنيرين والديمقراطيين والليبراليين واليساريين والمفكرين والمبدعين أعداء لها وشوكة في حلقتها يجب استئصالها.. إضافة إلى ذلك، تحط هذه الجماعات التكفيرية من شأن المختلف معها، فتنظر إلى كل من هو خارجها بكونه مجرد حيوان أو أدنى منزلة منه، بل يذهب التكفيريون إلى أبعد من ذلك، من خلال ممارسة أبشع أنواع القتل كقطع الرؤوس وسحل الأجساد وحرق الفرد وهو حي، وما إلى ذلك مما لا يُعَامٓل، به أي مجتمع أو ثقافة، أو دينٍ، أو أي شكل من أشكال الحي مهما انحطت قيمته…

كما تؤمن هذه الجماعات التكفيرية بنظرية المؤامرة، وهي فكرة فاشية. واستنادا إلى ذلك، فهي ترمي كل من لا ينتمي إليها بتهمة التآمر عليها، والتخابر مع أعدائها، فتعتبره نجسا وتدعو إلى قتله بعد التنكيل به….

وإذا كانت الفاشية تؤمن بنظرية السمو العرقي، فجماعات الإرهاب التكفيري المتأسلمة تؤمن بنظرية السمو الأخلاقي على كل من هو خارجه. لذلك نجدها ترغب في القضاء على البشرية جمعاء….

لقد تسببت الحرب العالمية الأولى في انهيار الإمبراطوريتين الألمانية الأولى (الرايخ الألماني الثاني) والعثمانية، وعلى إثر ذلك ظهرت حركات فاشية لملء فراغ الهوية؛ فظهرت النازية في ألمانيا، وحركة أبو الأعلى المودودي في الهند وحركة الإخوان المسلمين في مصر، ومن خلال خطابات هذه الحركات الفاشية وممارساتها يتضح أنها كانت حركات ضد الحداثة والتنوير…

فوق ذلك، تنظر الجماعات الفاشية إلى زعيمها بكونه بمنزلة النبي وربما أكثر، إذ لا تجوز معارضته أو نقده، وفي المقابل توحي بوجوب عبادة زعاماتها وتقديسها وكأنها تعليهم إلى مرتبة الألوهية…

لقد فشلت الفاشية الغربية لأن المجتمع الغربي اكتشف أنها مؤذية ومٌخرًٌُبٓة للإنسانية في الأساس، لكن جماعات الاٍرهاب التكفيري في الشرق الأوسط ما تزال مستمرة في الوجود، لأنها قائمة على تقديس الكراهية والعنف، ولَم تجد حركة فكرية تقوض فكرها، وتستطيع أن تؤطر المجتمع وتؤثر فيه ليتمكن من التخلٌّص منها. في المقابل، تستفيد الجماعات التكفيرية من وجود تربة خصبة، لزرع شرورها، تتمثل في شيوع الأمية والجهل والفقر…..
تعيش جماعات الإرهاب التكفيري في عزلة تامة عن العالم وترفض الانفتاح عليه، وتكن له عداءا كبيرا، لأنها لا ترى إلا ذاتها، كما تمتلك النفس الطويل والقدرة على التلوُّن والتكيف، فضلا عن أنها لا تعرف اليأس..

إن الإنسان فوق الإيديولوجيات. ولتحريره من الإيديولوجيا الإرهابية المتأسلمة في الشرق الأوسط، ينبغي إصلاح عقله ليتخلص من وطأة سلطوية الإرهاب التفكيرية وثقافته،كما يجب تغيير علاقته بالدِّين عبر تمكينه من ممارسة قطيعة معرفية وسياسية مع النزعة التقليدية…..

 

الرباط :  13 مارس 2018./ 25 جمادى الثانية 1439. هج

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …