( إن الناس العقلاء وحدهم يطروحون على أنفسهم المهام التي يستطيعون حلها.).
قليلة هي المنعطفات التاريخية الحاسمة التي تؤدي إلى تحولات نوعيةفي الفكر والممارسةمعاً عندالذين يعملون في مجال الفكروالثقافة والسياسة, ليكتشفوا بعدظهور تلك المنعطفات أن الكثير من الرؤى والأفكا ر التي كانوا ينظرون لها, ويناضلون من أجلها, وقدموا التضحيات الجسام في سبيلهاعبر عشرات السنين, كانت مجرد شعارات عريضة أو أيديولوجيات وثوقيه جامدة مفارقة إلى حدما للواقع, تبنتها ومارستها القوى السياسية المتبنية لها بغية تغطية عجزها أوقدرتها على مطابقة هذه الأيديولوجيات مع الواقع من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وخاصة بعدأن أغوتهم شهوة السلطة من جهة, ومنجهة ثانية, عدم توافر الشروطً الموضوعية والذاتية التي تسمح لهذه الرؤى والأفكار بكل ماتحمل من قيم عقلانية أن تتفاعل إيجابياً مع الواقع الذي ُطرحت من أجل تغييره أو التأثيرفيه, الأمر الذي دفع أو يدفع بعض حِملتها أوالمنظرين لها ممن لم ينغمسوا في شهوة السلطة, وظلت الحقيقة منطلق هدفهم, إلى إعادة النظر بما طرحوه, وتبيان مواقع الصح والخطأ والنافع والضار في هذه الأيديولوجيات من منطلق جديد يأخذفي الاعتبار ما فرضته هذه المنعطفات من مستجدات ذاتية وموضوعية بدورها على الواقع وعلى الحوامل الاجتماعية المناط بها أ مر تطبيق مهام أوأهداف هذه الأيديولوجيات, وبالتالي إعادة النظر وتقويم ماطُرح من مشاريع ورؤى ومواقف فكرية, مع إمكانية إدخال ما استجد من مهام أوقضايا جديدة في حسابات تنمية وتطوير الواقع والأيديولوجيا معاً, بما يتفق وخصوصيات العصر أو المرحلة المعيوشة, بغية تحقيق الأهداف المنشودة.
إن أكثر من قرن ونصف من الزمن مرّ على طرح مشروع النهضة العربية من قبل الكتاب والمفكرين والسياسيين العرب بكل اتجاهاتهم الفكرية والسياسية, ممثلة هذه الاتجاهات وقواها الطبقية بأحزابها الليبرالية أو الاشتراكية أو قومية أو الإسلامية, هذا المشروع الذي تجلت أهدافه واضحة في كتابات وبيانات ونظريات هؤلاءالنهضويين العرب وأحزابهم ومؤتمراتهم الداعية إلى ضرورةخروج هذه الأمةمن مازق تخلفها وفواتها الحضاري, متبنين في أطروحاتهم أورؤاهم وأيديولوجياتهم بعض المواقف والرؤى الحداثوية التي كانت بعض القوى النهضوية الأوربية وخاصة (الليبراليةالكلاسيكية) المشبعة بأفكار فلسفةالتنوير, والقوى اليسارية التي تبنتها بعدحدوث تحولات عميقة في مجتمعاتها الأوربيةعلى المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية, حيث ساهمت هذه التحولات بتحقيق مشاريع نهضوية تمثلت في وحدة شعوبها القومية وتحقيق المواطنة, والتعددية السياسية ودولة القانون والتداول السلمي للسلطة, وتحرير المرأة واحترام الرأي والرأي الآخر… الخ. وانطلاقاًمن هذه المعطيات النهضوية التي تحققت في أوربا الليبرالية خاصة, جاءت دعوات وأطروحات النهضويين العرب وسياسيهم في معظمها تقليداً لهذه الرؤى والنظريات الغربية الحداثوية ماركسية كانت أم ليبرالية من جهة, ثم محاولة بعض النهضويين العرب ومنهم الإسلاميون الليبراليون بشكل خاص, التوفيق بينهذه الرؤى النهضوية في صيغتها الغربية, وبين مايقابلها أو يلتقي معهامن رؤى وأفكار ومبادئ في التراث العربيالإسلامي, بغية شرعنتها والفسح في المجال واسعاً لقبولها اجتماعيا ومواجهة القوى السلفية الأصولية التي ترفض التعامل مع كل فكر وضعي وبخاصة فكر وقيم الغرب الكافر منجهة ثانية.
نقول: منذالربع الأول للقرن التاسع عشر وأسئلة النهضة تُطرح من قبل الكتاب والنهضويين والسياسيين العرب مسلمين ومسيحيين مثل (الطهطاوي والأفغاني وعبده والكواكبي وفرح أنطون وشبل يشميل و أديب اسحق وطه حسين وسلامة موسى, وصولاًإلى مفكري النهضة العرب المعاصرين, أمثال الجابري والتيزيني وعبداللهالعروي وياسين الحافظ, وغيرهم ا لكثير), ومن هذه الأسئلة : لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب؟. مالحل؟. من أين نبدأ؟…. وغير ذلك من هذه الأسئلة. علماً أن هذه الأسئلة ومايرمي طارحوها الوصول إليه عبرها من قضايا مصيرية لهذه الأمة المتخلفة أو المفوّته حضارياً, هي من كان وراء تشكل العديد من الأحزاب السياسية العربية التي وضعت نظرياتها (أيديولوجياتها), للإجابةعلى هذه الأسئلة أيضاً.
إن المتابع لمجريات أحداث الواقع العربي منذتلك الفترة حتى اليوم يجد أن هذه الأسئلة ذاتها بقيت في الحقيقة تجتر نفسها ويُعاد التفكير للإجابة عنها من قبل الكتاب والسياسيين والمفكرين العرب في معظم ماصدر عنهم من الكتب والمحاضرات والمقالات التي ظهرت في عالمنا العربي حتى تاريخه, مسلطين عبرها ضوء التحليل والنقد للواقع العربي بكل مايحمله هذا الواقع من رؤى وافكا وشعارات وأيديولوجيات, وبالتالي مايعيد هذا الواقع إنتاجه أيضاً من قضايا تخلفه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي حالت ولم تزل تِحول دون تحقيق النهضة أو التقدم والسير في ركاب الأمم المتقدمة. وأحب أن أشير هنا في هذا السياق, إلى أن اليسار العربي وبعض القوى الليبرالية التي تأثرت بنهضة الغرب, كانوا ومازالوا هم الأكثر نشاطاً في إعادة تقويم هذه التجربة على مستوى الواقع والفكر, وخاصة بعدسقوط المنظومة الاشتراكية.
بعد كل تلك الأسئلة النهضوية, والإجابات الكثيرة التي جاءت حول ماتضمنته هذه الإيجابيات من شعارات ورؤى وأفكار, أو أيديولوجيات بتوجهاتها القومية أو الاشتراكية أو الإسلامية, تأتي أيضاً اليوم بعض الأسئلة أو التساؤلات المشروعة التي تطرح نفسها تحت مظلة ماتحقق من تحولات مأساوية في واقعنا العربي بإسم ثورات الربيع العربي التي ظهرت على ساحة العديدمن الأقطار العربية, مثل: هل مشاريع الاشتراكية أو القومية أو الإسلام السياسي قادرة على إعادة طرح نفسها من جديد عبر حواملها ا لاجتماعيين كمشاريع نهضوية بعد فشل ممارستها في الواقع العربي خلال السنوات الماضية؟. وهل صحيح أن مشروع “الحاكمية” الذي تتبناه داعش وكل الفصائل الإسلامية المسلحة (الجهادية) والسياسية (الإخوانية) منها على الساحة العربية اليوم هي الحل, وذلك انطلاقاً من مقولة (لن تُصلح هذه الآمة بعد أن فسد أمرها إلا بما صُلح به أولها في القرون الهجرية الثلاثة الأولى)؟. أي العودة إلى النبع الصافي كما طرحته القوى السلفية الأصولية وعلى رأسها الحركة الوهابية و الأشعرية والماتريدية, بعد أن فشلت كل مشاريع النهضة العربيةالسابقة.
إن قراءة أولية وسريعة للكثير من الإجابات التي قُدمت كحلول لأسئلة النهضة تلك منذ بداية القرن التاسع عشر حتى اليوم, تبين لنا أن بعضها- أي الاجابات – يجد الحل في تبني مشروع القومية العربية, بالرغم من فشل كل التجارب الوحدوية السابقةوعلى رأسها وحدة 1958, وماتركته من سلبيات على الساحة العربية بشكل عام, والقطرين سورية و مصر بشكل خاص, فاقت كل إيجابيات قيامها. بينما نجدبعضها الآخر لم يزل يتمسك بالاشتراكية كحل لتجاوز تخلف هذه الأمة وتحقيق نهضتها, بالرغم أيضاً من فشل وانهيار معظم إن لم نقل كل التجارب الاشتراكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وهناك م نراح يعوّل في إجاباته كثيراً على الأيديولوجيا الإسلامية و(حاكميتها), مع تأكيدنا بان أصحاب هذه الأيديولوجيا بدأوا يعولون قيام النهضة على هذه الأيديولوجيا منذ عشرينيات القرن الماضي مع تأسيس حركة “الإخوان المسلمون”,
اولاً, ثم مع نهاية السبعينيات من القرن ذاته بعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية
ثانياً, إلا أنهم ألحوا على الحاكمية كثيراً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية, وفشل المشروع القومي, بل وحتى المشروع الليبرالي تطبيقاً في عالمنا العربي, هذا المشروع الذي روج له المستعمر الأوربي أثناء احتلاله للعديد من البلاد العربية, وكذلك روجت له ا لقوى السياسية البرجوازية الكومبرادورية التي استلمت السلطة بعد خروج المستعمر, وهي القوى السياسية التي لم تستطع أن تحقق استقلالاً فعلياً للبلاد بعد طرد المستعمر, حيث ظلت قوى مرتبطة بالقوى الاستعمارية وتعمل وفقاً لمصالحهما معاً وليس لمصالح الشعب, كونها قوى عاجزة في الحقيقةعن تحقيق مصالح الشعب بسبب فقدان الظروف الموضوعية والذاتيةالتي تسمح لها بتحقيق ذلك من جهة, ثم هي قوى لم تصل إلى مرحلة وعي الذات – أي قوى تعمل لذاتها وللشعب – من جهةثانية, الأمر الذي أدى إلى محاصرتها وإجهاض قواها السياسية عبر انقلابات عسكرية رفع قادتها شعارات نهضوية وتقدمية وتحررية تحولت فيما بعد – هذه الشعارات – إلى أيديولوجيات أومنطلقات نظرية سياسية ربطت النضال القومي بالإشتراكي,وركزت في توجهاتها على قضايا النهضة العربية بأبعادها الاستراتيجية, حيث التفت حولها الجماهير لتعطيها أ و تمنحها شرعية الحركات الثورية أو الثورات الشعبية, لاسيما بعد أن تحولت هذه الحركات العسكرية إلى أحزاب منحت نفسها صفة (الديمقراطيةالثورية), واعتبرت نفسها قائدة لحركة التحرر العربية ووصية على تحقيق نهضة هذه الآمة وتجاوز عوامل تخلفها, وهي القوى ذاتها التي حملت المشروعين المجهضين القومي والاشتراكي في الساحةالعربية. هذا مع تأكيدنا في هذا السياق هنا, بأن المشروع الليبرالي بدأ يعيد طرح نفسه من جديد مع انهيار المشروعين الاشتراكي والقومي من قبل بعض الأحزاب الديمقراطية الثورية ذاتها التي حملت هذين المشروعين عدة عقود,بسبب تحول الكثير من قادتها إلى برجوازية بيروقراطية وطفيلية بدات تبحث عن منافذ أخرى لنهب الاقتصاد الوطني بإسم الحرية واقتصاد السوق الاجتماعي, ثم بسبب الضغط الذي مارسته أميركا وأروبا على السلطات الحاكمة في العالم العربي عموماً لتوسيع الهامش الديمقراطي, خدمة لمسألة اقتصاد السوق الذي يصب في المحصلة في خانة المصالح الرأسمالية الاحتكارية بعدالحرب الباردة وظهور النظام العالمي الجديد , حيث رحنا نلمس تنازلا تمدروسة من قبل الأنظمة العربية بكل أشكال حكمها, لتفعيل أو قبول يعض معطيات الليبرالية التي راح العديد من المثقفين الليبراليين العرب, أومن مثقفي السلطة, يعيدون طرحها و المطالبة بتوسيع هوامشها في الساحة السياسية العربية, الأمرالذي جعل بعض الأحزاب الديمقراطية الثورية وغيرها من الأنظمة العربية المرتبطة أصلاً بالمصالح الامبريالية تخضع لهذه المطالب وتعيد تنظيم بيتها الداخلي على أسس ديمقراطية, بالرغم من أن هذه القوى الحاكمة راحت تفصل هذه الديمقراطيةعلى قياسها أيضاً.
نعود ثانيةلنقول: إن كل المشاريع النهضوية التي طُرحت في الحقيقة على الساحتين الفكرية والسياسية العربيتين بعد فشل المشروع الليبرالي بقيادة القوى الحاكمة التي ورثت السلطة بعدخروج المستعمر .
أولاً, أو فشل مشروعي القومية والاشتراكية الذي نحملهما ماسمي بقوى الشعب العاملة, وهي قوى البرجوازية الوسطى والصغيرة ومن تحالف معهمامن العمال والفلاحين وصغار الكسبة والمثقفين الثوريين وعناصر الجيش الذين وصلوا إلى السلطة بانقلابات عسكرية
ثانياً, بغض النظر هنا عن طبيعة الكثيرمن المفردات الأساسية التي تتضمنها هذه المشاريع الأيديولوجية أو أحاطت بها موضوعياً وذاتياً, مثل الحوامل الاجتماعي لها, ودرجة التداخل الطبقي لهذه الحوامل ودرجة حدة تناقضاتها وصراعاتها, وكذلك درجة نضوج الظروف الموضوعية لتحقق هذه المشاريع, ثم البعد الأخلاقي والقيمي عموماً في بنيةالمجتمع العربي. وهناك أيضاً تأثير خصوصيات الواقع العربي المتخلف اقتصادياً واجتماعياً والعلاقة الجدلية بين العام والخاص والداخل والخارج, يضاف إلى ذلك حالات الجهل والأمية والتخلف البنيوي في مستويات الواقع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغير ذلك من قضايا تتعلق بتحريض الفعل النهضوي أوعرقلته لكل مشروع من هذه المشاريع النهضوية.
على أية حال, إذاكان المشروع الاشتراكي قد لاقى حتفه مبكراً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية برمتها وعلى راسها قائد هذاالمشروع وهو الاتحادالسوفيتي, وذلك بسب عوامل كثيرة تأتي على مستوى داخل كل دولة أوخارجها, فإن أحدأسباب الانهيار الداخلي تتعلق برأي يفي جوهر تلك المقولة العقلانية والموضوعية لماركس التي وردت في مقدمة كتابه (مساهمةفينقدالاقتصادالساسي) التي تقول: (لكي ينتقل المجتمع من مرحلة تاريخية قديمة إلى مرحلة جديدة أكثر تطوراً, يجب على المرحلة السابقةأن تستوعب كافة التطور اللاحق لقوى وعلاقات الإنتاج, وبالتالي من صلبها تولد المرحلة الجديدة.). هذه المقولة التي تم تجاهل مضمونها العقلاني الجدلي بشكل واضح, عندما تم تبني مقولة (حرق المراحل) .
أولاُ, ثم عدم تمثل قوانين الجدل وفهمها على حقيقتها اثناء الممارسة.
ثانياً, هذامع تأكيدنا هنا بأن هذه المقولة لاتشي في مضمونها عن فكرة الحتمية الميكانيكية المبتذلة, وإنما عن فكرة الحتمية الجدلية التي تقر بأن التاريخ يصنعه الإنسان نفسه, والإنسان بقدرما يعيش في واقع تتحكم فيه الضرورة, فهو- أي الإنسان- حرية أيضاً حيث يستطيع أن يتحكم في الكثيرمن مسارات تاريخ هو يسخر حركة هذا التاريخ لمصالحه بعد أن يكتشف تلك القوانين العلمية (الضرورة) التي تتحكم في سيرورة وصيرورة الواقع وآلية حركته, مع تأكيدنا هنا بأن الناس العقلاء يطرحون على أنفسهم المهام التي يستطيعون حلها على حد تعبير ماركس, فإن المشروعين الآخرين (القومي والإسلامي) لاتختلف أسباب فشلهما من حيث الجوهرعن فشل المشروع الاشتراكي.