قبل تاريخ 22 يناير 2018 لم يكن أشد المتفائلين الحقوقيين المغاربة، يتوقع حدوث المفاجأة السارة وتحقق الحلم الجميل، الذي طالما انتظرته الجمعيات الحقوقية وخاصة النسائية، التي لم تفتأ تطالب بتمكين المرأة من ولوج خطة العدالة وممارسة مهنة “عدل” إسوة بشقيقها الرجل. حيث صدر بلاغ عن الديوان الملكي يزف بشرى للمواطنين، تتمثل في القرار الملكي التاريخي الحاسم وغير المسبوق. الذي جاء في إطار تفعيل مقتضيات المادة 19 من الدستور حول مبدأ المساواة والمناصفة بين الجنسين، وإنهاء الجدل الدائر منذ عدة سنوات، معلنا عن فتح أبواب مهنة العدول أمام المرأة.
ذلك أن المرأة رغم تقلدها مناصب سامية في كافة الأسلاك بالجيش والأمن والإدارة والتعليم والبحث العلمي والطب والهندسة… ومزاولتها مهنا ووظائف مرتبطة بمنظومة العدالة، لدرجة أصبح وجودها سواء كمحامية أو قاضية أو رئيسة محكمة بارزا بقوة في كل أصناف ودرجات المحاكم، بالإضافة إلى كونها شكلت علامة متميزة في المجالس العلمية وفي دروس الوعظ والإرشاد بالمساجد. فإن دخولها مجال التوثيق العدلي ظل عصيا لعقود طويلة، إلى أن رفع هذا القرار الحكيم حالة الاستثناء التي ظلت مضروبة عليها، سيما أن القانون المنظم لمهنة العدول رقم 03-16 الصادر سنة 2006 لا يشترط الذكورة في الالتحاق بالمهنة.
وامتثالا للأوامر الملكية الرامية إلى إشراك أهل الاختصاص في إبداء الرأي حول الموضوع، خلص المجلس العلمي الأعلى إلى الإفتاء بجواز ممارسة المرأة مهنة التوثيق العدلي “بناء على الأحكام الشرعية المتعلقة بالشهادة وأنواعها، والثوابت الدينية للمغرب، وفي مقدمتها قواعد المذهب المالكي”. فكيف لا، والقانون المنظم لخطة العدالة لا يتضمن أي نص صريح يقضي بمنعها من الانتساب للمهنة. ثم أن الصيغة الواردة بالمادة 4 منه، هي نفسها المعتمدة في قوانين المهن القضائية الأخرى التي تجيز ترشحها، في المحاماة أو التفويض القضائي أو التوثيق. وأن فقهاء الشريعة لا يؤكدون على نوع الجنس، أثناء الحديث عن شروط الكاتب العدل أو الموثق بصفة عامة. ولا يمكن لأحد تجاهل وصولها أعلى درجات التكوين والتثقيف العلمي إلى جانب انضباطها وتحليها بروح المواطنة والشعور بالمسؤولية؟
فبإدماج المرأة في خطة العدالة لممارسة المهنة، يكون المغرب قد ضخ دماء جديدة في جسمها ووضع لبنة أخرى في البناء الديمقراطي الحداثي، ويؤكد على مواصلة مساره الإصلاحي بتؤدة وثبات، مصرا على رفع التحديات وإلغاء الفوارق والامتيازات بين الرجل والمرأة، معززا انفتاحه على الشأن الديني وعازما على تحرير العقول من الأفكار التقليدية البالية، المنتمية إلى عصور “الجاهلية”.
وجدير بالذكر أن وزير العدل محمد أوجار، أشار إلى أنه وعيا من وزارته بأهمية الحدث وسعيا إلى تنفيذ التوجيهات الملكية السامية للارتقاء بواقع مهنة خطة العدالة، لم تتأخر في فتح أوراش إصلاح القانون المنظم، معتمدة على مقاربة تشاركية مع المجلس الوطني لهيئة العدول بالمغرب. وشدد على أن المشروع الجديد يتضمن مقتضيات حديثة، تخص المهنة وشروط الانتساب إليها وحدود اختصاصاتها، مراهنا على أن يكون في مستوى خدمة المجتمع وتطلعات فئة العدول، والعمل على دمج المهنة في محيطها الاقتصادي والاجتماعي، حتى تستطيع مواكبة تطورات ومستجدات العصر.
بيد أنه انطلاقا مما قد تحدثه الأشياء غير المألوفة في المخيال الشعبي من خلخلة عند أول ظهورها، كان طبيعيا أن ترافق القرار الملكي الجريء الكثير من ردود الأفعال المتباينة، التي انقسم على إثرها المواطنون فيما بينهم، حيث سارع صنف من الشباب إلى تبادل صور وتعاليق ساخرة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، معتبرين مهنة العدول قلعة ذكورية بامتياز، ولا يحق للمرأة اقتحامها تحت أي مسوغ. وبينما التزم البعض الصمت في انتظار اتضاح الرؤية، اعتبره جزء آخر من الفقهاء والمتخصصين في الشأن الديني، إنجازا رائعا كان يفترض أن يخرج إلى حيز الوجود منذ زمن طويل، لو لم تكن هناك أحكام فقهية نمطية ظلت متأثرة بعقليات عربية متزمتة، تقلل من شأن المرأة وتشكك في أهليتها، بدعوى أنها ناقصة عقل ودين، لا يجوز توليتها أمور المسلمين، خاصة في وظائف توثيق عقود الأحوال الشخصية، المتمثلة في الزواج والطلاق والميراث. كما أن هناك فئة من المتنورين رأت فيه خطوة إيجابية وتقدما فقهيا جديرا بالتقدير، يشكل أحد أنواع الإنصاف في وظيفة تقوم على إعمال العقل واحترام القيم الأخلاقية، وهناك من اعتبره مسألة طبيعية بعدما سبق لمدونة الأسرة الانفتاح على اجتهادات فقهية، ساهمت في تصحيح قضايا أخرى كالقوامة والولاية، إثر السماح للراشدة بتزويج نفسها دون إذن الولي. لكن القرار أثار كذلك حفيظة بعض الفقهاء التقليديين، الذين عارضوه بشدة جراء نظرتهم الضيقة واستنادهم إلى تأويلات خاطئة للنصوص، ومتعارضة مع روح الشريعة ومقاصدها…
وفي انتظار أن تتبلور الاجتهادات الفقهية حول صحة شهادة المرأة مع الرجل أم منفردة وفي العدد، ويتم تجاوز بعض الخلافات الأخرى والتوافق بشأن الصيغة المثلى والنهائية لتحديد طبيعة مهامها كعدل، فإننا نرحب بهذه المبادرة الطيبة التي تجسد الإرادة الملكية الصادقة، في جعل المرأة شريكا أساسيا للرجل والنهوض بشؤونها وحماية حقوقها، والتي تمثل نقلة نوعية في ترسيخ الخيار الديمقراطي الحداثي، يحدونا الأمل الكبير في أن تعقبها مبادرات أخرى مماثلة كقضية الإرث مثلا وغيرها، لضمان كرامتها وتعزيز مكتسباتها الحقوقية. وأن تتظافر جهود المسؤولين من أجل تذليل الصعاب أمام العدول، حتى يكون بمقدورهم الرفع من أدائهم وتجويد خدماتهم.
الثلاثاء 06 مارس 2018./ 18 جمادى الثانية 1439.هج