ليست ظاهرة العنف والإرهاب والحروب التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط بالطارئ الجديد على هذه البقعة من العالم، وإنما هي تنويع على تاريخ مليء بالعنف والحروب والاقتتال. فبدراسة ماضي هذه المجتمعات ومقارنته بما تفعله عمليا اليوم يتضحُ أنها تسير في الطريق إلى الزوال، لأنها لا تملك الطاقة الخلاقة لبناء نفسها حضاريا، أو المساهمة في بناء الحضارة العالمية، كما أنها لم تطرح لحد الساعة أسئلة جذرية على تراثها وموروثها الثقافي، ولا على وضع المرأة فيها، ولا على علاقة الدين بالسياسة، ولا على علاقة الذات بالآخر، ولا على مؤسسات المجتمع، بنياته وعلاقاته وتاريخه….. وتكمن المشكلة في التأويلات السائدة للتراث في هذه المنطقة، حيث يسود الإسلام الفقهي الذي هو إسلام المال والسياسة.

لقد انتهى التاريخ العربي منذ سنة 1258 عندما سقطت بغداد في يد هولاكو، وبعد ذلك لم يعد للعرب أي حضور على الساحة الإبداعية، ولا أية مساهمة لهم في الحضارة الإنسانية. فبعد سقوط بغداد صار التاريخ العربي عثمانيا، وبعد سقوط الخلافة العثمانية صار التاريخ العربي غربيا. ونحن اليوم نوجد خارج حلبة التاريخ، جالسين في شرفته نشاهد مجرياته وهي تمر أمامنا كما تديرها القوى الفاعلة في العالم وتنظمها وترتبها.

لقد تحوَّلت مجتمعات هذه المنطقة إلى فضاءإستراتيجي، كما أن صارت معزية للقوى الغربية التي ترغب في الاستفادة من خيراتها الطبيعي.

ولفهم ما تعيشه هذه المنطقة من عنف وتطاحن وتخلف حضاري بسب ضمورها الثقافي والإبداعي، يجب حل مشكلة فهم النص القرآني الذي هو في نهاية الأمر مسألة قراءة وتأويل. لقد عرف هذا النص قراءات عديدة، حيث كان هناك تأويل فلسفي للقرآن، لكنه تعرض للرفض، كما كانت هناك قراءات صوفية له، لكنها تعرضت للمصادرة والحجر، فأصبحت في حكم الحجر الميت. ويعني ذلك أنَّ التيارات الفكرية المواجهة للتأويل الفقهي الشرعي المغلق لم تُعدَم، لكن هذا الأخير هو الذي هيمن وساد في نهاية المطاف بفعل ما تلقاه من السلطة من دعم مالي وغيره. والتأويل السائد اليوم هو التأويل الشرعي الفقهي الذي صار معه النص الأصلي شبه معدوم. ونعني بهذا التأويل في المقام الأول التفسير الوهابي الذي وضعه ابن تيمية. فماذا يعني هذا التأويل الذي يشكل عاملا أساسا في المآسي الحالية لهذه المنطقة وأهلها؟

ينهض تأويل النص القرآني عند ابن تيمية على الأسس التالية:
– إن محمدا هو خاتم الأنبياء والمرسلين، ولا نبي بعده..
– الحقائق التي نقلها النبي محمد هي الأخيرة والنهائية، ولا حقائق بعدها.
– لا يجوز للمسلم أن يترك دينه، وإذا قام بذلك فجزاؤه القتل.
– هناك حديث منسوب إلى النبي محمد، لا نعرف ما إذا كان هو قائله فعلا، يقول: “الإسلام يجب ما قبله”، بمعنى أنه يجبُّ ما قبله ويلغيه ويبطله. وإذا كان الأمر كذلك، فالإسلام ينسخ بالضرورة كل دين سواه.

ونتيجة لاعتماد هذه الأسس السالفة الذكر، صار العالم الذي تعيش فيه مجتمعات الشرق الأوسط مغلقا في دائرة هذه الحقائق وسجينا بداخلها، ما يفسر استمرار الحروب الإسلامية-الإسلامية.

يستبعد التأويل الوهابي الآيات التي تتحدث عن التأمل والتعقل، إذ يرى أنَّ المقصود من آيات إعمال العقل والفكر هو التأمل في النص القرآني باعتباره يتضمن الماضي والحاضر والمستقبل وكل ما هو موجود في العالم الخارجي. هكذا نجد أن الحركات التكفيرية الإرهابية تتصرف كالغزاة، حيث تقوم بنهب ممتلكات المختلفين معها وسبي نسائهم. فهي تكفر هؤلاء، وتعتقد أنهم أدنى درجة من الحيوان، بل ويتوهم الإرهابيون باسم الدين أن الله يأمرهم بقتل كل من يخالفهم في تفسيرهم للنص الديني، فيقطعون رؤوسهم تقربا إلى الخالق.

وإذا تعمقنا في فهم التأويل الوهابي للنص القرآني وجدنا أنه يعني أن الله تعالى لم يعد له ما يقولُ، لأنه قال كل ما لديه لآخر أنبيائه.

يفسر كل ما سبق الحروب والتطاحنات التي تعرفها هذه المنطقة اليوم، والتي سادها العنف وإراقة الدماء على امتداد أربعة عشر قرن. ومصنفات التاريخ العربي الإسلامي التي كتبها الطبري وابن كثير والمسعودي وغيرهم، مليئة بأحداث الدماء. وبذلك فما يحدث اليوم هو مجرد تنويع على عنف ساد تاريخا حافلا بإراقة الدماء، في سياق مختلف تحكمه مصالح وعلاقات مع الغرب. ولذلك، فهو أكثر وحشية من ذي قبل.

تواجه مجتمعات هذه المنطقة مشكلة حضارية، وليست سياسية. فمنذ خمسينيات القرن الماضي والعرب لا يقومون إلا بتغيير السلطات دون تغيير المجتمعات، في حين بدون تغيير المجتمعات، بنية وثقافة وعلاقات، فلن يحدث هناك أي تغيير. وعندما يتم تغيير السلطة وحدها، تصبح الأوضاع أكثر سوءا من ذي قبل. ويقتضي الخروج من هذه الوضعية فصل ما هو ديني عن ما هو سياسي وثقافي واجتماعي،حيث يمكن للإنسان أن يُؤْمِن بالحور العين والغلمان وأنهار اللبن والعسل والخمر. لكن، لا ينبغي أن يفرض إيمانه على الآخرين،كما يجب ألا يصبح الدين مؤسسة.. من حق الفرد أن يُؤْمِن ، لكن الإيمان لا ينبذ غير المؤمنين، حيث إن الإيمان يستوجب الاعتراف بغير المؤمنين؛ فلا إيمان بدون ذلك.

إن أقصى ما بلغته شعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو “التسامح”، لكن هذا التسامح يتضمن استعلاء وعنصرية، حيث يدَّعي المتسامح أن الحق معه ويسمح للآخر بالتعبير وممارسة طقوسه، في حين يحجر عليه في أمور و يتعامل معه باستعلاء في أمور أخرى… فالمساواة هي الأهم، حيث لا مواطنة بدون مساواة، ولا ديمقراطية بدون مساواة أيضا. فالإيمان فردي، ما يعني أن المرجعية الدينية تكون للفرد، في المقابل تبقى المرجعية القانونية للمجتمع. ويشكِّل اعتماد المساواة مدخلا للبناء الديمقراطي، علما بأن الديمقراطية لا علاقة لها بالإسلام؛ فهي مفهوم يوناني وغربي. أما الإسلام، فله الشورى التي يشارك فيها فقط رؤساء القبائل والأعيان وعلية القوم دون كافة أفراد المجتمع الذين بدون مشاركتهم لا يمكن الحديث عن الديمقراطية.

وخلاصة القول إن مجتمعات الشرق الأوسط ليس لها إبداع، .وفي غياب هذا الإبداع فهي مجتمعات بدون هوية، كما أنها عاجزة عن إعادة بناء ذاتها وتجاوز أزماتها، أو المساهمة في بناء العالم. ويعني هذا أن هذه المجتمعات توجد خارج العالم المبدع القادر على بناء الحضارة الإنسانية..

 

الاثنين 05 مارس 2018./ 17 جمادى الثانية 1439. هج

 

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…