لا ديمقراطية دون ديمقراطيين. قول مشهور نحفظه عن ظهر قلب. من بين دلالاته أننا أثناء مطالبتنا بالديمقراطية يجب أن نضمن كوننا ديمقراطيين بالفعل. وعموما ليس الديمقراطي هو الشخص الذي يطالب بالديمقراطية طول الوقت، بل هو الشخص المتشبع بالثقافة الديمقراطية في سلوكه اليومي وداخل مجمل المؤسسات، بدءا من مؤسسات التنشئة الاجتماعية وانتهاء بمؤسسات التأطير السياسي.

معضلتنا أننا نحاول الدخول إلى عصر الديمقراطية حاملين معنا فقه القدامة وقيم العصر الوسيط، نحاول الدخول إلى عصر الديمقراطية بنفس المنطق الذي يؤلب الجمهور على النساء والأقليات والمثقفين، ما يجعل من الديمقراطية لدى البعض أداة لتصفية الهامش الحداثي المتاح، لكن هل من حقنا أن ننتقد الخطاب القدامي إذا كان هو نفسه الخطاب الذي يصوت عليه الناخبون ويصادق عليه الجمهور؟ هذا هو السؤال.

مباشرة عقب صعود الإسلاميين إبان حكم الترويكا في تونس ظهر من يحتج على أنصار الحداثة بالقول التالي: أنتم لم تفوزوا في الانتخابات، الشعب يرفضكم، فخير لكم أن تصمتوا إلى الأبد، وأن تتركوا صناديق الاقتراع تقرر بنفسها، وتحدد الحق من الباطل. ما يعني أن المطلوب من الحداثيين هو الكف عن النقد بدعوى أن الأغلبية الساحقة قالت كلمتها النهائية، ولا صوت يعلو على صناديق الاقتراع. غير أن الكف عن النقد معناه التوقف عن التفكير. بهذا المعنى ثمة سوء فهم مذهل، كما لو أنّ الفوز بالأغلبية الانتخابية يشبه انعقاد البيعة بالإجماع؟ وبالتأكيد سمعنا ما يكفي من المصطلحات الهجينة: البيعة بالاقتراع، غزوة الصناديق، الشورقراطية، إلخ، خلط مذهل في المفاهيم والمرجعيات على طريقة ماكدونالد حلال، والمايوه الشرعي، والبنك الإسلامي، إلخ. ورغم كل ذلك يبقى السؤال قائما، هل يجوز من وجهة نظر ديمقراطية أن ننتقد الرأي الفائز بالأغلبية؟

طبعا يجيز الكثيرون النصيحة والتي هي حق للفقهاء دون غيرهم، لكننا نتساءل هنا عن النقد وليس النصيحة، نتساءل عن الحق في النقد، نتساءل عن حق المثقف التنويري في ممارسة وظيفته النقدية، ليس فقط من حيث نقد الأيديولوجيات المهزومة حيث النقد يتطلب القليل من الشجاعة، وإنما أيضا وبالأولى من حيث نقد الأيديولوجيات المنتصرة أو التي قد تنتشي بالنصر دون أن تحسب أيّ حساب للكلفة الإنسانية. بل المعضلة عندنا أكبر من ذلك الحجم بكثير، المعضلة عندنا أن الأيديولوجية المهزومة بالمعنى الحضاري سرعان ما تحرز النصر الانتخابي، كما هو الحال في الكثير من المجتمعات ذات الغالبية المسلمة طالما أن حجم الأوهام فيها كبير.

في كل الأحوال يبقى الرهان على غرائز الجمهور لعبة خطرة قد تدمر الديمقراطية نفسها، وتفجرها من الداخل. لذلك أوجدت الديمقراطية المعاصرة كما لا يخفى عدة احتياطات دستورية ومؤسساتية للتخفيف من أخطار الهشاشة الأصلية للديمقراطية، من بينها مثلا: الانتخابات عبر دورتين، التفاوت الزمني بين الانتخابات التشريعية والجماعية والجهوية، إشراف السلطة القضائية على العملية الانتخابية، دسترة حقوق الأقليات، دسترة حرية التعبير، ترسيخ دور المجتمع المدني كسلطة مضادة إلخ. هذا يعني أن مفهوم الديمقراطية نفسه قد تطور لأجل حماية المكتسبات الديمقراطية من التقلبات الديمقراطية. وهو التطور الذي تحقق بفعل إعمال العقل النقدي في مفهوم الديمقراطية نفسها.

وفي كل الأحوال، لا شيء يعلو على سلطة النقد، كما لا يمكن بأيّ حال توظيف المشروعية الديمقراطية ضد حق الإنسان في أن يفكر ويعبر. وإذا كانت الدساتير الديمقراطية تكتفي في الغالب بالتصريح بحرية التعبير، فلأن التعبير الحر هو بالضرورة ثمرة التفكير الحر.

في فرنسا خلال أواسط سنوات الثمانين من القرن الماضي، وعندما فتحت الدولة نقاشا شعبيا لأجل إلغاء عقوبة الإعدام، كان المزاج الشعبي العام يميل إلى الإبقاء على العقوبة. وقتها لو تم الاحتكام إلى آلية التصويت لما ألغت فرنسا عقوبة الإعدام، لكن شجاعة وزير العدل حينها دفعته إلى إصدار قرار إلغاء تلك العقوبة من القانون الجنائي الفرنسي، بمعزل عما يراه المزاج الشعبي. وفي آخر المطاف فإن المزاج الشعبي الذي لم يكن سيوافق على إلغاء عقوبة الإعدام فيما لو تمت استشارته، لم يعترض على القرار حين تم إقراره.

بالمناسبة، دعنا نقول: الإعدام جريمة، سواء نفذ باسم الدين أو كان ضحيته من يتكلمون باسم الدين. ولنتكلم بصراحة أكبر، فقد كان إلغاؤه في مجتمعاتنا يتطلب انخراط الإسلاميين أنفسهم، لا سيما في سياق ما كان يُعرف بالربيع العربي، وكان ذلك الانخراط سيمثل مكسبا للجميع وخطوة كبيرة للحد من أي استبداد محتمل سواء باسم الدين أو باسم أي شيء آخر، لكن لا أحد من الإسلاميين اكترث بالأمر في ما يبدو. فأين المشكلة؟ المشكلة مرة أخرى هي الاحتكام لغرائز الجمهور دون أدنى حس نقدي، لكن ما الغاية في الأخير؟ لا شيء غير الوصول إلى السلطة، كما لو أن السلطة ستفتح خزائن الأرض، وهذا وهم كبير، لكنه وهم قاتل في بعض الأحيان.

في الواقع كل الشعارات التي تدور حول الإسلام اليوم تصادر على المطلوب، سواء أكانت شعارات من موقع السلطة أو المعارضة أو المقاومة. والمطلوب إعادة طرح السؤال: أي إسلام نريد، إسلام ابن تيمية وابن حنبل، أو إسلام ابن عربي والسهروردي، أو إسلام ابن رشد والفارابي، أو هناك إسلام جديد لا يزال يبحث عن صياغته؟ وأما بعد، فهل يكفي الاحتكام إلى صناديق الاقتراع حتى نجيب عن أسئلة الدين والهوية والوجود التاريخي؟

لا أحد من الشيوخ الذين عارضوا سياقة المرأة للسيارات في السعودية استدل بنص ولو ضعيف على موقفه، لا دليل غير الاحتجاج برأي الجمهور، ومزاج الجمهور الذي علينا فقط أن نحترمه. ثم أين هي أصوات “المعتدلين”من هذه الغوغائيات المدمرة؟ مؤلم فعلا أن نرى أحد مفكري الثورة السورية، ياسين الحاج صالح، يتألم ويشتكي ليس فقط من جماعات تنظيم “الدولة الإسلامية” و”النصرة” والتي تختطف زوجته وأخاه وعددا من أصدقائه، وإنما يشتكي من الإخوان المسلمين أنفسهم الذين لم يكلفوا أنفسهم أي عناء في استنكار جريمة اقترفها التكفيريون ضد أحد أبرز وأصدق أصوات الثورة السورية المجهضة. مرّة أخرى فنحن أمام نفس المنطق: حسم السلطة أولا والباقي لا يهم.

لست أشك في أنه حتى باسم الدين ومن منظور الرؤية الدينية، كان يمكن خوض معارك حاسمة في تحسين نوع الحياة، لكن المعضلة كل المعضلة كانت ولا تزال هي تركيز الحركات الدينية طول الوقت على كيفية الوصول إلى السلطة. غير أن إرادة السلطة غالبا ما تكون على حساب إرادة الحقيقة، بل على حساب إرادة الحياة نفسها، بل قد يكون الثمن هو تدمير كل شيء، من أجل لا شيء في الحساب الأخير. وهذا درس آخر من الدروس المنسية. والحق يقال، حتى في الغرب نفسه لم تتطور مفاهيم وقيم حقوق الإنسان إلا من خارج الرهان على السلطة، وخارج الرهان على أصوات الناخبين.

وأخيرا، لقد تبلور الجيل الأخير من حقوق الإنسان بفعل المجهود النقدي والممارسة النقدية لقوى التنوير داخل المجتمعات الحديثة. وهذا درس كبير، نحن أحوج ما نكون إليه، بكل تأكيد.

عن صحيفة العرب
الثلاثاء 05 مارس 2018./ 16 جمادى الثانية 1439.هج

 

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…