عندما انهزمت أنظمة مجتمعات الشرق الأوسط التي كانت تزعم القدرة على إدخال بلدانها إلى حضارة العصر الحديث حدثت ردة ثقافية وسياسية تدفع في اتجاه العودة إلى التراث وأمجاد الماضي ورفض الانخراط في الراهن الكوني بكل تحولاته. وتتمثل أهم مشكلة تعانيها مجتمعات هذه المنطقة اليوم في إقبال بعض شبابها على الانخراط في الجماعات التكفيرية الإرهابية وتبني سلوكها القائم على اتخاذ العنف سبيلا لفرض معتقداتها وقيمها وتصوراتها. ويعود تأثير الثقافة التكفيرية في مجتمعاتنا الحالية أيضا إلى وجود تربة صالحة، حيث ساد العنف في هذه البيئة على امتداد تاريخ فصلها بين العقل والنقل، وما ترتب عن ذلك من رفض للعقل ومناهجه ونتاجاته، مع أن الإنسان يحتاج دائما إلى ما يستفزه ويستنفره ليتطور ويغير ما في نفسه.
يولد الإنسان بقابليات مفتوحة، فتتولى قولبتَها ثقافةُ البيئة التي يزداد وينشأ ويترعرع فيها، إذ تبرمجُ ثقافة محيطه عقله، بحيث تتحكم هذه الثقافة في طريقة تفكيره ووجدانه وسلوكه، ويصبح فكره مشروطا بهذا السجلِّ الذي يتحول عنده إلى معيار مرجعي يقبل من خلاله الآخر ويستحسنه أو يرفضه بأشكال يمكن أن تمضي إلى حد ممارسة العنف. فالعقل يحتله الأسبق إليه. على هذا النحو باتت الثقافة التقليدية المتحجرة والمنغلقة على نفسها والمعادية للعقل تجري في فكرنا مجرى الدم في عروقنا.
لا تعمل ثقافة هذه المجتمعات على تأهيل الإنسان للحياة الدنيا، وإنما تركز على إعداده للآخرة، تماما كما كانت تفعل الكنيسة في المجتمعات الأوروبية خلال العصور الوسطى، حيث تخاطبه بما فحواه: “هناك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على بال…”. وتعتقد جماعات الإسلام السياسي التكفيري أنه يجب على المسلم أن يستشهد حتى يكون جزاؤه عظيما في تلك الهناك متمثلة في الآخرة، وبذلك تستدرج الشباب المحروم لتجعله متعطشا لنعم الآخرة ومتعها من حور عين وأنهار خمر وعسل….
لا يدرك هؤلاء الشباب أننا خُلِقنا للحياة وليس للآخرة فقط. فالتديٌّن ليس هو الاستعداد للموت فقط، بل وكذلك هو الإقبال على الحياة إلى حد الانغماس فيها، وأصدق دليل على ذلك الحديث النبوي القائل: «اعمل لدنياك كأنك تعيشُ أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا». ولكن اندفاع بعض الشباب نحو الإرهاب يدل على أنهم مبرمجون ثقافيا على ذلك حيث يوجد في بنيتهم الذهنية العميقة ما يحفزهم على ذلك، لأن الإنسان في هذه المنطقة معجون بثقافتها التقليدية القائمة على الطاعة والمناهضة للعقل والحريّة إذا كانت للإنسان طبيعة أولى، فإن تشبعه بثقافة بيئته قد يجعل هذه الثقافة تحل محل طبيعته الأولى. والثقافة العربية الإسلامية تحول دون الإبداع والحريّة. ويدل غياب العقل على الانغلاق والجمود وغياب الحرية.
إننا لا ندرك أن خدمة الدين والإنسان والمجتمع تقتضي اكتساب القدرة على الإنتاج، حيث لا إبداع بدون عقل، ولا عقل بدون حرية، وبدون استخدام العقل لا يمكن المشاركة في الحياة التي تستوجب التفكير والخيال بهدف الإبداع وتطوير المشاريع. فالعقل فعالية نقدية، وبذلك لا إبداع بدون نقد. والإنسان بما يبدعه ويبتكره وليس بما يولد به و يرثه. كما تقتضي خدمة الدين والإنسان والمجتمع اكتساب القدرة على الإنتاج،حيث لا إبداع بدون عقل،ولا عقل بدون حرية.
ترفض الثقافة العربية الإسلامية السائدة الانفتاح والتغيير والمغاير، لأنها تعتقد أن هذا الأخير يشكل عدوا لها، وذلك رغم أن الإنسان محتاج إلى من يستفزه ويستنفره ليتطور ويدرك ذاته ويغير ما في نفسه. فبدون الانفتاح لا يمكن خلق اهتمامات جديدة ولا ارتياد آفاق ذات جدوى،
هناك ثقافات منتجة تفضي إلى التغيير والتجديد فتنخرط في دورة الحياة، وثقافات تكرس الجمود والتحجر والتخلف وتسلك الطريق المعاكسة للأولى. ولأن مجتمعاتنا من الصنف الأخير، فهي سائرة نحو الانقراض. نحن في حاجة إلى ميلاد جديد كما أننا محتاجون إلى ما يحرضنا على الخروج مما نحن فيه إلى السير نحو تحقيق ما نحن في حاجة إليه لتخطي الوضع الحالي. فنحن لا ندرك أن استعمال العقل يفضي إلى الحوار والإنصات، ما يؤدي إلى التلاقح، ومن ثمة إلى التنمية….فضلا عن ذلك، تعتز الثقافة العربية الإسلامية بذاتها وتبجلها ونغتبط بحالها، وترفض الانفتاح على الآخر، اعتقادا منها أنها سبقته إلى كل شيء. ويدل التغني باكتفائها الذاتي على أنها تغتال عقل الفرد وعقل المجتمع معا، إذ يعتبر هذا أحد أعراض مرض التمركز حول الذات الثقافية. وهذا ما جعل مجتمعاتنا تزداد تقهقرا على تخلفها…..
هكذا، فالشعور بالاكتفاء الذاتي يشكل عائقا في وجه نمو القدرة على التجديد والإبداع وتقدم المجتمع فنحن نبدع فقط في ممارسة العنف على ذاتنا، وعلى بَعضنَا، وعلى الآخر … تبعا لذلك، فإن عدم معرفة نواقصنا وعوئقنا الذاتية يغتال العقل، كما أنه يُسقط في نزعة العجز والهدم الحضاري.
ونظرا لكون التعليم عندنا تابع إجمالا لثقافة المجتمع التقليدية، فالمدرسة لا تؤثر في البنية الذهنية للتلميذ المتشبع مسبقا بالثقافة العربية الإسلامية التقليدية المناهضة للعقل والحريّة والإبداع؛ فهي ترافقه خلال التعليم وبعده، حيث تكون حاضرة في أقواله وأفعاله، كا أنها تحوٌّل دون اكتشافه لعوائقه الذاتية وامتلاك القدرة عبى القطع معها وتجاوزها والتمكن من الانخراط في بناء ذاته عبر بناء معارفه وقِيَّمه الخاصة.
ومن المؤسف أن بعض طلبتنا يذهبون للدراسة في جامعات غربية، لكنهم يعودون كما ذهبوا دون أن يطرأ على بنياتهم الذهنية أي تغيير، والأمر نفسه يسري عندنا على طلبة التخصصات العلمية التي تتعارض من حيث طبيعتها مع المنطق الذي ينهض عليه موروثنا الثقافي المنغلق. ويعني ذلك أن نظامنا التعليمي لا يقيم علاقة سليمة بمختلف أنوا ع المعرفة،كما أنه لا يدرسها بطرائق ملائمة تساعد على تغير البنيات الذهنية المنغلقة للمتعلمين ،،ولايمكنهم من بناء تصورت جديدة تمكنهم من إنتاج لمعرفة داخل المدرسة وفِي لحياة، ما تجعلهم منخرطين في روح العصر، حيث إن الطراىق المعتمدة في التدريس خطٌِية ذات نزعة تقنوية تنسف المعرفة، كما أنها تنسجم من حيث طبيعتها مع منطق وطبيعة الثقافة التقليدية المعادية لإعمال العقل والحريّة .. زدعلىذلك، فإن أساليب الوعظ والدعوة التي تمارسها بعض تنظيمات الإسلام السياسي لا تعمل إلا على إعادة إنتاج الفكر المناهض للعقل والحريّة والإبداع، ناهيك عن دعوتها للانغلاق والعنف ورفض الآخر، ما سيكرس تخلُّف مجتمعاتنا وبقائها خارج التاريخ، في زمن أثبت فيه الغرب تفوقه العلمي والتقني والتنظيمي بما لا يترك مجالا آخر أمامنا سوى التعايش معه عن طريق الحوار والتفاهم. ولتحقيق ذلك، يجب سلوك طريق العقل من أجل الإقناع وليس طريق الانغلاق أو القوة التي لا نملك منها ما يجدر ذكره مقارنة بما يملكه هو منها….