من يقصرون الفكرة الإصلاحية على تيار فكري بعينه هو، في الحالة العربية، التيار الفكري الإسلامي (في القرن التاسع عشر)، يخطئون معناه – وقد يبتذلونه – وبالتالي، يستصغرون شأنه ، حين يركنون إلى اعتقاد واهم بأنه استنفد ممكناته وبات من الماضي. وهو اعتقاد قد يحملهم عليه الظن بأن تيارات الفكر العربي اللاحقة، على التيار الإصلاحي الإسلامي، تجاوزت إشكاليات هذا الأخير وفتحت التفكير على موضوعات أخرى وآفاق أخرى، أدعى إلى الاهتمام من قضية الإصلاح. وعندي أن هذا الحكم السلبي في راهنية الإصلاح (أمر) في غاية السوء، بل في غاية الفساد؛ فمشروع الإصلاح، كما نزعم، ليس من الماضي، بل هو على جدول أعمال حاضرنا؛ إنه – بعبارة أدق – ليس وراءنا بل أمامنا.
نعلل رأينا هذا الذي نراه بأمور ثلاثة مترابطة؛ أن فكرة الإصلاح فكرة عابرة للتيارات والإيديولوجيات، ولا يجوز نسبتها إلى تيار بعينه وإن هي نبتت، تاريخياً، في منابته؛ ولأن مشروع الإصلاحية الإسلامية، ثانياً، لم تتحقق أهدافه تماماً بحيث يجوز القول إنه استنفد دوره؛ ثم لأن الإصلاح، ثالثاً، سيظل، في مطلق الظروف والأحوال، مطلباً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً في الواقع العربي: اليوم وغداً.
أمامنا، على الأقل، خمسة عناوين للإصلاح في الواقع العربي: راهناً وفي الأمد المنظور، لا تقبل الإرجاء:
أولها سياسي؛ ويتعلق بما تفرضه الأوضاع العربية المأزومة، داخل كل بلد عربي، من ضرورات تصحيحية للمجال السياسي فيها، للخروج من حال التأزم والانسداد التي تهدد بأوخم العقابيل. لم يعد ممكناً لعرب اليوم التهرب من «استحقاق» الإصلاحات السياسية والدستورية لمعالجة حال الخلل في جهاز الدولة وإدارة السلطة. ولا ينبغي أن ترتبط الحاجة إلى الإصلاحات تلك في أذهاننا بالضغوط الدولية على مراكز القرار في دولنا .
وثانيها اقتصادي؛ ويرتبط بالحاجة إلى وضع أسس اقتصاد إنتاجي قائم على الصناعة والزراعة وإجابة الحاجات الاجتماعية . ويدخل في جملة الإصلاحات محاربة الفساد وهدر المال العام والثروات الوطنية، وإصلاح النظام الضريبي، واستيداء الدولة الأموال العامة ممن يمارسون التملص الضريبي، من المستثمرين، ويتحايلون على القانون!
وثالثهما اجتماعي؛ وإذ تتعدد وجوهه نكتفي بأن نشير إلى اثنين من أظهر وجوه الإصلاح المطلوبة فيه: إصلاح نظم الحماية الاجتماعية للمنتجين من عمال وفلاحين وفئات الموظفين الصغار، وإنصاف حقوقهم الاجتماعية ورفع الحيف عنهم، من خلال إعمال مبدأ التوزيع العادل للثروة، والحد من الفوارق الطبقية الفاحشة؛ وإصلاح منظومة التشريعات الخاصة بالأسرة، وبالمرأة تحديداً، وهي نصف المجتمع، من خلال إنفاذ أحكام المواطنة على أوضاعها، بما يفرضه ذلك من إقرار مبدأ المساواة الكاملة في الحقوق بين الجنسين.
ورابعها إصلاح منظومة التعليم، بتحديثها وعقلنتها في برامجها ومضمون تلك البرامج؛ وتعميمه على كل من بلغوا سن التمدرس؛ وتخفيف عبء كلفته على الفئات والطبقات الفقيرة، من طريق تحمل الدولة أعباء الإنفاق عليه، وإقرار مجانيته إلى حدود تحصيل التكوين الأساسي والتأهيلي، وكف يد استغلال القطاع الخاص هذا المجال الحيوي والاستراتيجي الذي عليه مبنى المستقبل. ويدخل ضمن إصلاح التعليم إعادة النظر في برامجه ومناهجه وطرق تلقينه، بما يسمح بتكييف المنظومة التعليمية مع قواعد التكوين المعمول بها في الدول الحديثة.
أما خامسها، فإصلاح مؤسسات المجال الديني؛ من تشريعات خاصة بالشأن الديني، ومن مؤسسات (التعليم الديني، القضاء الشرعي، مؤسسات الإفتاء، نظام الوقف)؛ وسن تشريعات صارمة لمنع استغلال الدين لأغراض الثروة والسلطة أو في المنازعات الاجتماعية والسياسية؛ ونشر ثقافة الاجتهاد والتسامح، وتجريم أفعال التعصب الطائفي والمذهبي والكراهية وكل ما من شأنه النيل من وحدة الدولة والشعب والسلم المدنية.
إن هذه العناوين الإصلاحية، وغيرها كثير، هي مما ينتظرنا إنجازه اليوم وغداً؛ وهي ما يقوم به الدليل على أن زمن الإصلاح لم ينصرم بعد، وأن الإصلاح أفق مفتوح أمامنا وليس مطلباً من الماضي.