إن أكبر المنعطفات التي عرفتها الانسانية بدون شك هي تلك التي حدثت فيها قطائع فكرية، أهمها الانتقال من التفسيرات فوق الطبيعية إلى التفسيرات الدينية والانتقال من التفسير اللاهوتي إلى التفسير الوضعي العقلي.
وليس من شك في أن حالة المجتمع المغربي لا زالت لم تعش تماما حالة القطيعة والانتقال والمنعطف بناء على طبيعة المخاض وتداخل الغيبي و اللاهوتي والوضعي في تعامل الأفراد المغاربة مع الظواهر الفيزيائية الطبيعية و الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
ما الذي يمكن أن تلعبه الفلسفة في مواجهة هذا الوضع؟
وهل يمكنها أن تفعل ذلك بالطريقة والكيفية التي تدرس وتعلم بها في الثانوي والجامعة؟
في تقديري أن أول شرط يجب أن يميز كل من يخوض في مواضيع نقدية وظيفتها تحصين هوية المجتمعات لا بد أن يكون ناضجا ومتواضعا في طرحه، فقد أثبتت التجربة الانسانية أن كل غرور في تناول روحية ونقدية الانسان والتاريخ تؤدي بدون شك إلى تهديم الحظوظ الضعيفة القائمة قبل السقوط الكبير.
إن الأمر أشبه بالأمتار القليلة التي تفصل الشخص الفاقد للأمل عن تنفيذ رغبته في الانتحار؛
إن الشخص الوحيد الذي يعرف قيمة ذلك الامر هما فقط شخصان إثنان، من يحاول الانتحار ومن أوكل له أمر مفاوضته ليتراجع عن الانتحار.
تقتضي القاعدة أن تتوفر في من توكل له مهمة دفع الراغب في الانتحار لمراجعة قراره ميزات معقدة وناذرة، الهدوء والاتزان والانصات والمقبولية والاقناع..
اليوم العالم برمته يسير بجنون إلى الانتحار الأكبر، فالتسابق نحو التصنيع والتسلح جعل العالم أمام مصيره المظلم بارتفاع درجات حرارة الأرض واتساع ثقب الأوزون وتسرب الأشعة فوق البنفسجية وما سيستتبع ذلك من ذوبان للثلوج وارتفاع لمنسوب الماء وفيضانات وأعاصير ومجاعات وأوبئة…
وليس من شك في أن المغرب ليس في معزل عن هذه الأوضاع والأزمات البيئية والمناخية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية بالترتيب.
لكن وهذا أهم فالمغرب ليس بمعزل عن أزمة منظومة القيم التي بدأت في التفسخ منذ مدة.
في الحقيقة المواد ذات الحمولة النقدية وعلى رأسها الفلسفة والمواد ذات الحمولة الروحية وعلى رأسها التربية الأسلامية أو الدينية لا تملك الجواب على استعصاءات القيم في عالم ومغرب اليوم، لكنها وبدون شك تملك حظا معقولا من وقف الانحدار المهول إلى الحتف.
لمن لا ينظرون بهدوء وتواضع وبقناعة إلى الأشياء..
إن الكفايات والقيم القليلة التي يتضمنها مقرر مادة الفلسفة منذ مستوى الجدع مشترك وإلى غاية مستوى الثانية بكالوريا، ورغم صعوبات بيداغوجيا التلقين وديداكتيك التوصيل، ورغم تفاوت قدرات أساتذة وأستاذات المادة في توصيل هذه القيم والكفايات قياسا على استعداداتهم الذهنية والمادية؛
إنه ورغم كل هذه الصعوبات يستدمج التلاميذ والتلميذات عددا من القيم الكونية والحداثية التي تزامن يومياتهم ومواقفهم وخطواتهم.
إنه يجب أن نفتح أعيننا جيدا لنرى ما يلي:
هناك ملايين من الشابات والشباب ممن ينخرطون في التحديث يوميا ويتعاملون مع الدين كمعطى روحي رباني ومع ملذات الدنيا بنفس القدر وبنفس الكيفية، ولم يثبت استسلامهم لدعوات التشدد و التعصب باسم الفقه أو الدين أو العرق أو اللون.
وفي هذا الصدد لا بد من الانتباه إلى حالة السلم والأمان وقبول الآخر في علاقة العرب بالأمازيغ وبالأجانب.
ومن دون شك لا بد من الانتباه إلى فضيلة الوطنية والولاء للوطن التي يتشبع بها المغاربة.
ولابد كذلك من الانتباه إلى حالة الهدوء الديني التي تميز المغرب والمغاربة والتي يصرفونها في أغلبهم من خلال قدرتهم الفطرية على احترام الحريات وعدم ميلهم إلى الوصاية بإسم الدين أو المذهب أو العقيدة.
إن هذه الأرباح العظيمة لا ينتبه إليها على عظمتها، إما لأن أفقنا مرتفع جدا إن لم نقل مثاليا وطوباويا وحالما، أو لأننا لا نجيد قراءة ما يوفره الواقع من خيرات ومن ثروات فنطلب الكثير دون استبصار أو روية.
إن أفضل الخيرات كما يعلمنا التاريخ هو أن نتنبه جيدا إلى ما يوفره الحاضر والماضي من إمكانات ومن خيرات..
وأفضل الأساليب كذلك أن نكون متواضعين ورزينين في نظرنا إلى الأشياء والوقائع فكم من مستقبل ضيعناه لأننا لم ننتبه إلى خيرات الحاضر.
بالنسبة لي وبعد حوالي 15 سنة من تدريس الفلسفة بالمدرسة العمومية المغربية، واحتكاكي بآلاف من التلاميذ والتلميذات وبعشرات من أساتذة وأستاذات المادة، يمكن أن أقول أن المادة تسهم في خلق التوازن في شخصية التلميذ/ة وبقليل من اجتهاد الأستاذ/ة في توصيل المضامين وتمثلها وتصريفها سلوكا وأنشطة موازية في نوادي التربية على المواطنة وحقوق الانسان ونوادي المسرح والسينما..تنجح المادة في نشر قيمها.
وبدون شك فحرص الشباب على ممارسة حرياتهم وحسهم النقدي العالي على شبكات التواصل الاجتماعي، وخروج عدد لا بأس منهم للاحتجاج ضد تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وتطور وعي بعضهم إلى احتجاج سياسي، وانتظام عدد منهم وإن كان قليلا في إطارات سياسية ونقابية وجمعوية..دليل على اختياراتهم غير القدرية وغير المرجئة، ودليل كذلك على اختياراتهم النقدية.
لا أقول في الختام أن هذا الخير العظيم يعود وفقط إلى الفلسفة ولوحدها فقط، إنها محصلة قنوات تأثير كثيرة إعلامية و روحية وتاريخية وسياسية..ولكن المؤكد أن الفلسفة هي اللقاء الأول الفعلي والممؤسس للتلميذ/ة مع أفكار نقدية وتفكيكية تسير عكس مقومات التنشئةالاجتماعية التقليدية.
ورغم جهود درس الفلسفة والعاملين بها لا زال من الضروري عمل جهود أكبر بخصوص منهاج المادة وبيداغوجيا توصيلها وغلافها الزمني ومعاملاتها وسلة مستويات وشعب تدريسها.
فالعالم والمغرب كذلك يسير بدون شك إلى حالة أزمة هوياتية ستتسع معها دائرة التطرف والتشدد والتعصب بسبب اللون والعرق والدين والمذهب والسياسة والطبقة الاجتماعية، وسيكون من الضروري على المواد ذات الحمولة النقدية والروحية أن تتدخل قبل أن يكون اللجوء ضروريا واضطراريا إلى القانون كمصد لتفادي العنف والعنف المضاد.