قال تعالى (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) سورة طه..
وقال ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ . ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) . سورة النحل
اذا كانت العديد من الآيات والأحاديث ناهيك عن الحكم والأمثال تحث على التعلم والتفكر والتدبر والتأمل والنظر والبحث والإستكشاف والإستفادة من علوم وأخبار وتراث الأقدمين ومستجدات المعاصرين , فإن البعض يسعى إلى التضييق على محبي الحكمة و العلم والمعرفة ..
إن الحديث عن التنمية الشاملة المؤدية إلى اللحاق بالدول والحضارات الرائدة علميا وفكريا لايمكن أن يكون جديا وهادفا إلا بتنمية الإنسان وإخراجه من ظلمات الأمية , تعلق الأمر بفك وتركيب الحروف أو بالأمية المعرفية والسياسية والأخلاقية …الخ
إن التخلف العلمي وعدم التحكم بزمام المعارف والتعارض مع المصالح العامة تعلقت بالناس والدول يحصل عندما يتعرض العقل للتعطيل , ويصبح الإنسان الفرد والجماعة مضادا لنفسه ومعرقلا للأنوار حتى لا تضيئ ما هو مظلم في عقله , بدل أن يكون الفهم عنده متجددا ومنطقيا , ويصبح الإجتهاد والبحث العلمي قاطرة لتطور الحضارة , ثم ليتيسر الوصول إلى تنمية مشتركة لاطبقية متوحشة فيها ولا احتكار ولا وصاية ظلامية أو تمييعية , وليتكرس احترام وتقدير وتوقير الإنسان والعقل الذي به يميز عن كل المخلوقات …
فخارج الكتب ونقصد هنا الدينية لم يستطع “البعض” الغوص في بحار العلوم والحقائق , واكتفوا بالتعامل مع النصوص دون فهمها وتدبرها كما يجب عقلا وقلبا وروحا , واطمأنوا في شرحها بما تيسر لهم من تفاسير و أفكار وتجارب سابقة بسيطة تعتمد ظاهر النص عندما لاتعلم أبعاده , وتلتجئ أحيانا للتأويل لضرورة مصلحية , و إلى المتوفر عندهم من ثراث السابقين من تفاسير وحكايات ووقائع نسج العديد منها إما للتوفيق بين ما استجد عندهم والموروث ….أو باعتماد ماتيسر من” الإسرائيليات والكهنوتيات” بل وحتى الخرافات المبثوثة في كتب الأقدمين والموروث الشفهي في كل الحضارات القديمة .. , وإما لتمرير معتقداتهم وثقافاتهم وميولاتهم بإقحامها المتعمد في النصوص أو الشروح , كما يرفضون ويحاربون كل ما لم يستطيعوا فهمه , وهذا يدخل فيما يمكن ان يسمى ب “إيمان العجائز” و”ايمان التقليد والاتباع ” بقاعدة هذا ما وجدنا عليه “آباءنا” و”قبيلتنا” و”جماعتنا “..
إن علوما مختلفة من رياضيات وفيزياء وكيمياء وهندسة وفلك …الخ هي التي أبدع بالإجتهاد فيها وتطويرها العديد من العلماء الفلاسفة عبر التاريخ وإلى يومنا هذا , فأقاموها على أسس متينة تمكن غيرهم من فهم وتفسير النصوص الدينية والعقلية على ضوابط سليمة و التي كانت تشرح بالهوى وبما اعتقد أنه اجتهاد سليم, وبفضل العلماء والفقهاء المتنورين و المجددين والفلاسفة ظهرت تفاسير علمية أفاضت في الشرح والإيضاح , وكشفت أجزاء مما كان غامضا أو ملتبسا عند البعض , فأصبحنا نتحدث عن الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي , والمنطق والتفسير والإعجاز العلمي في القرآن والحديث , وفلسفة الحياة , وعلم الاجتماع , وفلسفة التاريخ …الخ
إن القواعد المنظمة والمؤطرة للحياة الإجتماعية والسياسية للبشرية المعتمدة في أنظمة الحكم المختلفة من القبيلة إلى الدولة التقليدية والعصرية احتاجت عبر الحقب التاريخية إلى الأنبياء والعلماء والادباء والفقهاء و الحكماء والمحبين للحكمة الذين كان همهم هو تعليم الناس الحقائق والأفكار والعلوم , وتمكينهم من القدرة على التمييز والتدبر , والإختيار بين الأفضلين وتجنب الأكثر سوءا …الخ
إن منبع ومنطلق المعرفة والعلم هو الوجود الموضوعي بإعمال العقل في الواقع عند كل الشعوب وصلتهم رسالات سماوية أو لم تصل , ودافع ذلك الإستكشاف والتعرف على الحقائق الممكنة هو فهم الواقع ومكوناته , وذلك لا يكون إلا بالتساؤلات التي تطرح تلقائيا للإجابة على حاجات يتحقق بها العلم و الأمن والإستقرار والعيش , والقدرة على استغلال الطبيعة والتحكم في المستطاع من خيراتها المفيدة للجنس البشري , و بتجنب مخاطرها وأضرارها وإكراهاتها , وبتثمين وتوظيف الإيجابي منها , وهذا يطور البحث ويقوي الإجتهاد ويراكم الخبرات في مختلف المجالات و يبني العلوم , وينتج الحكمة وهذا هو مقصد الفلسفة ..التي سميت محبة الحكمة ..
إن العاقل هو الذي يبدأ عمله من حيث انتهى غيره بعد بحث واجتهاد وتضحية وانتاج بدل أن يضيع وقته في إلإنطلاق من الصفر ليصل إلى ما انتهى إليه من سبقه , وأن يعمل العين الفاحصة والناقدة والمميزة والمدركة والقادرة على الإختيار الأفضل والممتلكة للإرادة و إلى تحقيق أعمال ومنجزات واختراعات واكتشافات تفيد الناس كافة ..فالحكمة هدف وغاية الإنسان يبحث عنها ويسعى إليها ويعتمدها ..
لقد كان هم الفلاسفة المسلمين من تعاطيهم لمدارسة العلوم المختلفة هي أن يصلوا إلى صياغة أجوبة علمية وعقلية لمجادلة ومحاججة العقل الفلسفي الذي كان قويا ومتحكما في دول وشعوب تمتد حضاراتهم وإبداعاتهم إلى عشرات القرون ولا زالت تحيط بالمناطق التي يتواجد بها المسلمون ..
لهذا نجد الأنبياء والرسل و كبار العلماء والمفكرين هم الأكثر إثارة للأسئلة , والأكثر بحثا عن الحقائق وعن الأجوبة , والأحرص على أن يقدموا للبشرية ما يحقق لهم ما أصبح يعرف بمجتمع المعرفة المأنسن الذي يقوم على العدل والكرامة والمساواة والعيش الكريم , والقرآن غني بالأدلة والآيات التي تبين أن لاحدود للتعلم وللبحث عن الحقائق المرتبطة بالوجود الانساني , وأن لا حدود لتعليم وتأهيل الشعوب لتكون محبة للحكمة ومدركة لقيمة استمرار الحياة التي تطمئن فيها النفوس ويتسابق الناس نحو مافيه الخير والصلاح والفلاح وامتلاك القدرات الإيجابية البناءة ..
قال الفيلسوف والفقيه الكبير ابن رشد « النّظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع. أعني من جهة ما هي مصنوعات فإنَّ الموجودات إنَّما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها »وقال « مَنْ لا يعرف المصنوع لا يعرف الصانع » .
وكتب الفيلسوف الكندي رسالة إلى المعتصم بالله قائلا : “إن أعلى الصناعات الإنسانية منزلة، وأشرفها مرتبة، صناعة الفلسفة التي حدها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان لأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق”..
وقال ابن خلدون متحدثا عن التاريخ ليبرز مرتكزات فلسفة التاريخ : ” في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق“..
ان النص الشرعي والخطاب الديني الإسلامي ليس موجها لفئة دون أخرى أومجتمع معين , بل للناس كافة الذين يؤمنون بكل الديانات , والذين يؤمنون بالماديات , والذين يؤمنون بالخرافات , والذين يعتمدون على اتباع وتقليد ما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم …لهذا وجب تعلم وتعليم كل ما يقوي آليات الخطاب والحوار والجدل والتبليغ والإقناع بكل مستوياته الإيمانية والمنطقية والعقلية والمادية , بل وضرورة التعرف واتقان علوم وحضارات وطبائع شعوب العالم ..
إن الخوف من العقل الفلسفي والعقل المتأمل والنقدي ليس لعلاقته بالحقل الديني الإيماني فقط بل لعلاقته بعدم القدرة على المحاججة والإقناع لأن امتداداته واقعية وسياسية تتصادم مع المتحجرين والمستبدين والمتخلفين الذين يحميهم الجمود والجهل ..
إن الدين يجمع بين النصوص الإيمانية والعقدية , وبين الحكم والعلوم العقلية والمادية , وبين التأمل والتبصر والتفكر والتدبر , وبين الإيمان العقلي والقلبي , وتعطيل أحد مستويات وآليات فهم الخطاب / الكتاب السماوي فيه مساس بالفهم السليم للدين , وسعي لإقبار جواهره التي إن عممت فستبور بضاعة العديد من “الشيوخ “وسيتحرر الناس من الخضوع والإتباع الأعمى ..
إن كل المحاولات الرامية إلى الإنغلاق والتزمت الفكري بمنع وتحجيم مكانة ودور كل ما ينير العقل والطريق ويحفز الهمم المشبعة بمحبة الإنسان لأخيه الإنسان أعتمد في القرون الخوالي من طرف بعض الحكام وبعض “الفقهاء ” مما تسبب في ظهور موجات عدوانية استخذمت سياسة تكفير المفكرين وخيرة المجتهدين وكبار العلماء , بل وامتدت إلى تحريم تداول أو تعليم الفلسفة وعلم الكلام وحتى الكيمياء ..؟! ..إن خلفيات تلك المحاولات تحولت إلى برامج وتشريعات وقرارات وخطب تسببت في نشر الكراهية لتقحم وتدخل العالم الإسلامي أو أجزاء منه في عصور الإنحطاط والتخلف والجهالة والتسيب بكل تجلياته ..
إن التعطيل أو المنع الجزئي أو الكلي للفلسفة أو تهميشها فيه إضعاف لقوة الفهم عند الذين وراء القرار وعند الناس , كما فيه خلخلة لجدل التدافع والتنافس الذي به يتوسع ويتقوى الحق على الباطل , يقوم بناء العلم والمعرفة المنتجة للتنمية المستدامة المنظمة والمحققة للتطور والتحضر ..
قال ابن رشد “إنّ الحكمة هي صاحبة الشّريعة، والأخت الرّضيعة لها، وهما المصطحبتان بالطّبع، المتحابّتان بالجوهر.” وقال “الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً ويعطينا شرائع مخالفة لها.”
قال تعالى : “( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) سورة العنكبوت
وقال تعالى : ( فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى )سورة فصلت