عندما اتصل بنا الأخ بنيحيى، منذ بضعة أيام، ليخبرنا أنا والأخ عبدالله الحجامي بأنه سيخصص لشخصية علال الفاسي عددا خاصا، لجريدة البلاغ التي يديرها، تحمسنا كثيرا للفكرة ووعدناه بالقيام بمساهمة حسب ما يسمح به ضيق الوقت وضيق الأعمدة المخصصة للتدخلات في مثل هذه المناسبات. وعندما باشرت العمل لتحضير هذه المساهمة، وجدت من الأفيد إطلاع الرأي العام الوطني والشباب المثقف على نص هام عير معروف من جملة نصوص عديدة كتبها علال الفاسي وهو في حلبة المعركة والنضال؛ نصوص أهملت في غالبيتها (لا يفوتني هنا التنويه بالمبادرة الهادفة التي قامت بها مجلة « الثقافة الحديدية »؛ حيث شرعت منذ عدة أعداد في إعادة نشر وثائق مرجعية أساسية في إطار الباب الذي خصصته تحت عنوان » تراثنا المعاصر ») ولم تنشر من جديد رغم ما لها من أهمية تاريخية ومعرفية باعتبارها تعطي بعض الأضواء على طبيعة فكر علال الفاسي بصفة خاصة والأيديولوجية السلفية/الوطنية بصفة عامة. كما ارتأيت الوقوف، على هامش النص، عند نقطة هامة تهم الفكر السلفي بالمغرب وبالتالي علال الفاسي باعتباره أحد رواده المتميزين
هذه النقطة أضعها في تساؤلين: هل حقا يشكل الفكر السلفي بالمغرب في نشأته وعلى امتداد تطوره فكرا ماضويا؟ وهل هذه الخلاصة هي فعلا خلاصة ناتجة عن التمحيص العلمي؛ أي عن دراسة السلفية في إطارها التاريخي أم أنها نتيجة مجرد الاستنباط؟
نقول في البداية، إن من جملة ما رسخ، لدى عدد لا يستهان به من المثقفين بالمغرب، الاعتقاد بأن الأيديولوجية السلفية هي ماضوية، هو الاشتقاق اللغوي لكلمة سلفية الذي يوحي بالرجوع إلى السلف، وكذلك تأكيدات السلفيين على ضرورة الرجوع إلى الإسلام في أصله وأصالته؛ إسلام السلف الصالح. لكن إذا ما عولجت الحركة السلفية بالمغرب كحركة تاريخية وكمحاولة نشأت في ارتباط مع مواجهة التحدي الاستعماري وتطورت في خضم هذه المواجهة، فإن الأمر لا يبدو بتلك البساطة. إن السلفية ستظهر على العكس من ذلك كمحاولة لتدارك الانحطاط والتأخر التاريخي في أفق إدخال المجتمع المغربي في الحضارة المعاصرة. حقيقة إنها كانت مضطرة، باعتبارها أيديولوجية الحركة الوطنية بالمغرب ( لا نفصل نحن بين الحركة الوطنية والسلفية فكلاهما لحظة وعي لحركة واحدة وهي حركة النضال الوطني ضد الاستعمار الذي شكلت الحركة الوطنية أداته السياسية في شكلت فيه السلفية أداته العقائدية الأيديولوجية ) وكأي خطاب لأية حركة تناضل ضد التدخل الأجنبي، إلى الرجوع إلى الماضي وإلى التاريخ، لما يشكله هذا الرجوع من عامل قوة ودفع. لكن مع ذلك، لا يشكل هذا الرجوع إلى الماضي أو التاريخ العنصر الأساسي في الأيديولوجية السلفية الوطنية. فهو مجرد وسيلة لتقنين وتدبير الأخذ من الحاضر في أفق مشروع مستقبلي معين. وهذا ما عبر عنه علال الفاسي عندما قال: « والسلفية تمتاز في عالم الحضارة بالتمرد على الحاضر والاستنجاد بالماضي لاكتساب الطاقة الحرارية التي تنقل المجتمع الجامد إلى السير نحو مستقبلية يخطها بنفسه من صميم سلفية لا تنتعش إلا لتندمج في الصورة الجديدة التي تنعش حضارة ما وتسير بها إلى الأمام ». ( منهج الاستقلالية، ص.8
وحتى إذا ما أردنا تجاوز كلام علال الفاسي ورجعنا إلى الممارسة الاجتماعية ذاتها وجدنا، بكل تأكيد، أن كل محاولة إحياء نموذج اجتماعي انتهى أمره- مهما كان دوره في الماضي- ليس سوى ضرب من الخيال لا يمكن تحقيقه، لكون الشروط التاريخية ليست جامدة ولا تبقى هي هي، ولا يمكن التصرف فيها حسب الأهواء والرغبات
إن السلفية، في نظرنا، قائمة على تناقض متفاعل الحدين. هناك من جهة، الحد الذي يشكله الإسلام الأصلي؛ إسلام السلف الصالح الذي يقدم كعلاج للانحطاط والتأخر التاريخي. وهناك من جهة ثانية، حد الحاضر الذي تحتل فيه الحضارة المعاصرة مركز الصدارة. وحول هذين الحدين تتمحور الإشكالية الأساسية للأيديولوجية السلفية بالمغرب، التي لا تهدف إلى تحقيق مدنية الماضي، بقدر ما تهدف إلى إدخال المجتمع المغربي في المعاصرة. ويأتي عندها الرجوع إلى الماضي لأخذ العبرة وللاقتداء أو لاكتساب الطاقة الحرارية، كما يقول علال الفاسي. فالماضي موجود في السلفية، ولكنه موجود كمعيار يتحكم فيم يجب أن يؤخذ من الحضارة المعاصرة وبالضبط من الحضارة الغربية. إذن هو موجود كمعيار لا كهدف وكمبتغى. لذلك كانت عند السلفية فكرة الأخذ بما لا يتعارض مع الإسلام الصحيح. ( مما يجعل من مقاربة السلفية مقاربة تجريبية وانتقائية
وعلى سبيل الممارسة الواقعية، فإننا في هذه العجالة نكتفي بالإشارة إلى ما قامت به الحركة السلفية عن طريق أداتها السياسية؛ أي الحركة الوطنية. ففي الميدان التعليمي مثلا حرصت على إدخال العلوم الطبيعية والاجتماعية والطرق التربوية الحديثة في التعليم الحر، الذي كانت تتحكم في توجيهيه، كما ناضلت من أجل إصلاح جامعتي القرويين بفاس وابن يوسف بمراكش طبقا لروح العصر. وعلى صعيد آخر؛ أعني به الصعيد السياسي، نشير إلى تعاطفها بل تعلقها بالنظم والمؤسسات السياسية الليبرالية؛ إذ أنها كرست جزءا كبيرا من نضالها من أجل إقرار ملكية دستورية مبنية على نظام برلماني ليبيرالي يسمح للمواطن بممارسة حريته في الرأي والانتماء السياسي والنقابي الخ
حقيقة إن هذا التفتح على الحضارة المعاصرة هو تفتح نسبي. ولكن ما يجب التأكيد عليه، هو أن هذه النسبية لا ترجع إلى كونه مشدودا إلى الماضي، وإنما إلى كونه يقتصر على الحضارة الغربية مع رفض للاشتراكية. والسبب في ذلك راجع إلى أن الذي كان يتحكم آنذاك في اختيارات السلفية هو البورجوازية المغربية الناشئة والصاعدة التي كانت المحرك الأساسي للحركة الوطنية
وعليه، فإن الإشكالية الفعلية للسلفية تكمن في عملية تبدو معكوسة، ولكنها صحيحة، وهي تكييف الإسلام وتحديثه على الأقل في فروعه بما تتطلبه روح العصر؛ أي حسب المشروع المجتمعي والسياسي التي تبتغيه البورجوازية الوطنية، وحسب ما تفتضيه طبيعة النضال ضد الاستعمار من تحالف وطني تحت قيادتها. وهكذا، تظهر السلفية، في صيغتها المغربية، كحركة مركبة ترتبط بمرحلة تاريخية معينة وهي مرحلة النضال الوطني ضد الاحتلال الاستعماري
لذلك لا يمكن القول، في إطار شروط تلك المرحلة، إن السلفية أيديولوجية ماضوية بل مستقبلية ولعبت، آنذاك على طول المرحلة، دورا تقدميا. فإنها عملت على زرع، لدى المغاربة، روح المبادرة الفردية والجماعية، كما عملت على تحرير طاقات جماهير شعبنا، وذلك بمحاربتها للبدع والخرافة وروح التواكل والاستسلام، التي كان يبثها الفكر الطرقي، أو تلك الشجرة الملعونة على حد تعبير علال الفاسي، التي كما يقول » فوتت على الإنسان المغربي حريته كاملة غير منقوصة، فأصبح إنسانا جامدا كالحجارة خانعا كالحمار » ( منهج الاستقلالية، ص ص. 8 و 9 ). لقد شكلت السلفية آنذاك أداة معبئة ضد كل دعوة إلى المحافظة والخنوع. هنا يكمن بعدها الحقيقي المتجسد في ارتباطها العضوي مع الحركة السياسية الوطنية بالمغرب. إن هذا الارتباط فتح الآفاق الواسعة أمام تحرير الطاقات لشعبنا بل أكثر من ذلك ساهمت في خلق الأداة السياسية؛ أي الأحزاب السياسية التي ستتولى قيادة النضال الوطني
وبعد الاستقلال وبعدما تغيرت شروط المرحلة وأصبحت للنضال الوطني آفاق جديدة وهي استكمال التحرر الوطني والاجتماعي، تصدعت البورجوازية وانقسمت حيث ارتبطت الفآت العليا منها بالقوى الرجعية والمحافظة من المجتمع، وفقدت بذلك السلفية سندها الاجتماعي. وهكذا حرمت تدريجيا من كل وجود فعلي، إلى درجة تمككنا من القول، بأن الذين يقدمون اليوم أنفسهم كسلفيين فإنهم بموقفهم هذا لا يقدمون سوى أضرار لرصيد علال الفاسي وفكره وللسلفية المغربية في أصالتها، باعتبارهم يقدمون بضاعة هشة محافظة لا علاقة بالروح التقدمية التي طبعت الفكر السلفي بالمغرب بصفة عامة وفكر علال الفاسي بصفة خاصة؛ هذه الروح التي تهمين على مجموع مقال « حاجتنا إلى التجديد »، الذي كتبه سنة 1936 ، والذي اخترناه مرجعا ودليلا على ما قلناه، فضلا عن كونه يشكل وثيقة أساسية في تاريخ الفكر المغربي المعاصر
فمن أولية الأوليات المطروحة اليوم المفكرين التقدميين وعلى القوات الحية ببلادنا أن تعمل بكل موضوعية ومسؤولية على اكتشاف شخصية علال الفاسي في جميع أبعادها النضالية وعلى إبراز كل ما هو مشرق ومتقدم في فكره وعمله. إن علال الفاسي جزء لا يتجزأ من تراثنا النضالي الوطني الحافل الذي نعيش امتداده اليوم. فتركه وقفا على بعض القوات المحافظة لهو ضرب من العقوق الفكري والنضالي.
(*) تقديم لنص « حاجتنا إلى التجديد » الذي أعدت نشره في جريدة البلاغ 13 ماي 1983 .