زيارات لا تنقطع من مختلف دول العالم الاستراتيجية الى منطقة الشرق الأوسط. مؤتمرات صحفية متواترة تعقد على مختلف المستويات. يعلن فيها عن اتفاقيات وصفقات ومواقف مشتركة او متباينة من قضايا ساخنة او مرشحة لتكون ملتهبة، بسبب تضاد في مصالح الدول الكبرى وتنافس بينها، لتعظيم حصصها منها ومساحات النفوذ ونوعيته او مقاومة الدول الصغرى التي ترى انها مستهدفة من قبل الدول الكبرى، إقليمية كانت او عالمية، لأطماع قديمة او جديدة في موقعها الاستراتيجي او ثرواتها الطبيعية. او باختصار في قرارها السيادي اذ ترى ان تلك الدول ترغب في مصادرته بكل ما يعنيه من رمزية وما يتضمنه من أبعاد مادية ومعنوية.
والملاحظ ان النزاعات المسلحة لا تجد طريقها الى الحل رغم تضافر الدبلوماسية والقوة العسكرية الرسمية، أصالة او بالوكالة، كما لو ان كل المساعي المبذولة لا تهدف الى إيجاد الحلول الممكنة لتلك النزاعات، وإنما تروم تعميقها وتأبيدها، ما استطاعت الى ذلك سبيلا، باعتبارها البيئة الملائمة لتبرير تدخلاتها ومحتلة فرض إملاءاتها على البلدان الضعيفة.
والملاحظ، أيضا، ان الوقائع على الأرض، قد أكدت بما لا يدع مجالا لأي شك او تأويل ان ما سمي “ثورات الربيع العربي” هي مجرد قول على مسمى آخر، تماما، هدف منذ المنطلق الى تسويغ تدخلات عسكرية خططها جاهزة في ادراج وزارات الدفاع هنا، ومكاتب الأمن القومي هناك، ولَم تكن تنتظر غير الضوء الأخضر من صناع القرار الاستراتيجي الإقليميين والدوليين لتجد طريقها الى التنفيذ، بوسائل شتى يتداخل فيها السياسي والدبلوماسي والعسكري، وان كان لهذا المستوى الأخير الحضور الوازن في كل تلك المراحل، حتى وَلَو لم يتم اللجوء اليه بالطرق الفجة المعهودة دائما لدى قوى الاستعمار .
ولأن الثورات في سياقنا هذا مطية ليس الا، فقد تم اخراج خطط الحلف الأطلسي الى العلن، كما تمت إماطة اللثام عن كثير من التحالفات التي كانت تعقد في الخفاء بين الدول الكبرى والإقليمية وقوى محلية تابعة لها، تعرض على تلك القوى خدماتها في مجالات شتى، وعلى كل المستويات الممكنة، بما في ذلك تدمير بلدانها وتشريد مواطنيها باسم مناهضة الدكتاتورية والانتصار لحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية التي تمت محاولة تضمينها عبارة الثورة. لكن من هم هؤلاء الثوار يا ترى؟ وما هي حقيقة علاقتهم بتلك القيم النبيلة التي ضحت في سبيلها اجيال واجيال في مختلف أنحاء العالم؟ وما علاقتهم بقوى المعارضة الحقيقية التي بقدر ما تكون قوية وصارمة في مواجهة قوى التأخر والاستبداد السياسي بقدر ما لا تتهاون في مواجهة مشاريع الاعتداء على القرار الوطني المستقل والاستعداد للدفاع عنه دون تردد انطلاقا من منطق يراعي التمييز بين التناقضات الرئيسيّة والثانوية وطبيعتها السياسية والاستراتيجية على حد سواء.
الجواب الذي كانت تدل عليه أعراضه، منذ بدايات ما سمي الربيع العربي، انكشف، بشكل صارخ وتبلور بشكل ملموس، في تحركات أساطيل دول عظمى وتحريك قوات حلف شمال الأطلسي في كل الاتجاهات، بل وتحويله الى القوة الضاربة للقوى التي تحرك خيوط الحروب الصغيرة والكبيرة من وراء البحار، وفِي بعض دول الجوار الإقليمي. ولعل ما يثير سيولا لا تنتهي من التساؤلات هو الكيفية التي حولت بها الولايات المتحدة والدول الغربية هذا الحلف، الذي هو في الواقع ملكية خاصة للدول الغربية المنخرطة فيه وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، الى قوة تزعم انها أصبحت تحت تصرف الامم المتحدة، او انها لا تقوم الا بالعمل على تطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي، وهو زعم يجافي الحقيقة على كل المستويات. لكن الذي يبدو هو ان مجلس الأمن لا يملك هو نفسه قراره بيده، ان لم يصبح مطية حقيقية لبعض الدول المتنفذة في المجتمع الدولي، والتي تحاول روسيا الاتحادية والصين الشعبية كبح جماحها حتى لا تزج بالعالم في حرب عالمية ثالثة شاملة لا تبقي ولا تذر. الأمر الذي يفسر لجوءهما المتكرر الى استخدام حق الفيتو في مواجهة مشاريع قرارات، حول سورية أساسا، همها الأساسي تمكين القوى التي تقدمت بها من ثغرة في قرارات المجلس تسوغ لها اللجوء الى استخدام القوة العسكرية انطلاقا من تأويلها لتلك القرارات، كما فعلت بالنسبة لليبيا.
هكذا جرى ما جرى في ليبيا من تدخل عسكري وإطاحة بنظامها والتأسيس للفوضى العارمة التي تسود البلاد منذ ذلك الحين، مع ما رافق ذلك من ممارسات ارهابية وبروز ظواهر الى سطح الواقع كان الجميع يعتقد انها قد اندثرت تماما كإقامة أسواق للنخاسة في البلاد.
وهذا ما وقع في اليمن الذي انزلق من مشكلات سياسية داخلية الى تدخلات اجنبية غذت الأبعاد الكارثية في الأزمة حيث تحولت البلاد الى ساحة من ساحات الصراع الإقليمي بين دولتين أساسيتين هما ايران والسعودية
وهذا ما حدث في سوريا التي تضافرت فيها عوامل الاٍرهاب المدعوم من الخارج بالمال والسلاح والمواقف السياسية للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا اضافة الى دول إقليمية كبيرة مثل تركيا وغيرها من دول المنطقة.
وهذا ما جرى في العراق، وان انطلق المسلسل فيه منذ الغزو الامريكي عام 2003 اَي قبل ما سمي بالربيع العربي بما يناهز عقدين من الزمن.
خلاصة القول: اطماع تم احياؤها وأحقاد تم توظيفها وخطط تفكيكية للمنطقة تم اعتمادها كفرضيات وسيناروات منذ سنوات عدة يحاول أصحابها تحويلها الى واقع ملموس عبر تغيير الخرائط دعما لقوى التفكيك والشرذمة ومحاربة لكل قوى التنسيق والتوحيد على أي مستوى كان: في الاقتصاد، في السياسية وفِي الجغرافية السياسية.
المنطقة تغلي وبراكينها عبرت عن نفسها فتكا بالمواطنين وتدميرا للعمران المادي والبشري لبلدانها. ولا يبدو ان دول الاستعمار الجديد ترغب في لعب دور الإطفائي للحد من حرائق اشعلتها مصالحها وحولت المنطقة بأسرها الى مصدر خطر كبير على الأمن والسلام المحلي والاقليمي والدولي.