يشهد تاريخ مصر الحديث بأن التلاعب بالمصطلحات ليس تحليلاً سياسياً من الناحية العلمية، فمنذ أن قامت ثورة 23 يوليو 1952 اختلف المحللون السياسيون: ثورة أم انقلاب؟ وظل المحللون لثورة 23 يوليو 1952 مختلفين عدة سنوات حتى يوليو 1956 عام تأميم قناة السويس، فأجمعوا على أن ما حدث في يوليو 1952 ثورة لا انقلاباً، والبعض أخذ التاريخ بعين الاعتبار، فقال: انقلاب ثم تحول إلى ثورة، مع أن المبادئ الستة التي أعلنها «الضباط الأحرار»: القضاء على الإقطاع، القضاء على الاستعمار، القضاء على سيطرة رأس المال، إقامة حياة ديمقراطية سليمة، إقامة جيش وطني قوي، وإقامة عدالة اجتماعية.. تمثل ثورة وليس مجرد انقلاب سلطة على سلطة.
واقترح فريق آخر تسمية ما حدث بـ«حركة» وأصر الضباط الأحرار على إضافة «مباركة»، فأصبحت «حركة مباركة»، وأصبح هذا التعبير مدعاة لسخرية الناس ونكاتهم. وتكرر الشيء ذاته حيال ما حدث في 15 مايو 1975، حين قام الرئيس السادات بتصفية الناصريين من جهاز الدولة ومؤسساتها العسكرية والمدنية، وسمى ذلك «ثورة 15 مايو» وأطلق عليه الناصريون انقلاب 15 مايو، وكان الشعب أقرب إلى وصفها بأنها انقلاب.
ومع ذلك ثمة لحظات في تاريخ مصر لم يشك أحد في أنها ثورات، مثل الثورة العرابية عام 1882 ضد الخديوي توفيق، حين صاح عرابي: «إن الله خلقنا أحراراً ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً»، وهي أفكار جمال الدين الأفغاني عن الثورة من أجل الحرية، وكانت النتيجة الاحتلال الإنجليزي لمصر. واستمر عبد الله النديم، تلميذ الأفغاني، متخفياً يبث روح الوطنية في مصر والمصريين، حتى قامت ثورة 1919. ولم يشك أحد أيضاً أنها ثورة رغم أن قادتها كانوا من الباشوات والإقطاعيين، ثم اندلعت الثورة الشعبية الكبرى في 25 يناير 2011 دون أن يحاول أحد إيجاد مصطلح آخر للتعبير عنها، فقد كانت الأمور واضحة، وانتفض الشعب ضد الرئيس المخلوع، ولم يتدخل الجيش للدفاع عنه.
ولفظ الثورة عادة لا لبس فيه، مثل الثورة الفرنسية ضد الملكية والكنيسة، والثورة الأميركية ضد الاحتلال البريطاني، والثورة الروسية ضد القيصرية والإقطاع، وثورات التحرر الوطني في العالم الثالث ضد الاستعمار الغربي.
وهناك مصطلحات يصعب اللعب بها مثل مظاهرة في لجنة الطلبة والعمال على كوبري عباس، وفتح الكوبري عليهم لإغراقهم في النيل عام 1946، ومظاهرات الطلبة ضد اتفاقية الجلاء التي عقدها عبد الناصر مع بريطانيا عام 1954، ومظاهرات الطلبة عام 1968 ضد «أحكام الطيران»، وكذلك مصطلح «اعتصام»، مثل اعتصام الطلبة في ميدان التحرير 1971-1972، التي كانت أحد الأسباب في استعجال حرب أكتوبر 1973، وكذلك مصطلح «انتفاضة» في انتفاضة الشعب في يناير 1977 ضد غلاء الأسعار التي سماها السادات «انتفاضة الحرامية».
وهناك مصطلحات غير محددة تماماً، يمكن تأويلها في مناسبات ومواقف مختلفة، مثل: الإرهاب، والعنف.. لا سيما من جانب إسرائيل.
إن الشعوب هي التي تضع المصطلحات، ويأتي السياسيون والإعلاميون فيتلاعبون بها. المصطلح حكم مسبق يكشف موقفاً سياسياً، وما يكشف هذا التلاعب هو التاريخ، فلا أحد يسمى ثورة 23 يوليو 1952 انقلاباً. المصطلح يكشف عن الموقف السياسي لمن يستعمله، كما يكشف التلاعب به عن الموقف المضاد، والتلاعب بالمصطلحات مثل التلاعب بالألفاظ ليس تحليلاً سياسياً موضوعياً، وقد نبه على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ»، وحرصاً على المعنى قال الفلاسفة: «لا مشاحة في الألفاظ». والوضوح الفكري وصفاء النية والموقف الاجتماعي.. هي ما يساعد على ضبط المصطلحات ضد التلاعب بها، الذي يكشف عن سوء النية والقصد: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».