ترد علينا بشكل متسارع أخبار من كافة بقاع العالم عبر مختلف أشكال الاتصال والتواصل الحديثة، ومن بينها تلك التي تتحدث عن استقالات وزراء من هنا وهناك في دول ديمقراطية عريقة، تحترم حكوماتها ذكاء ومطالب شعوبها ويقدر أعضاؤها جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقهم. وغالبا ما لا ترقى أسباب تلك الاستقالات إلى مستوى ما يقترفه بعض وزراء بلادنا من أخطاء فادحة وفضائح مدوية، تستوجب ليس فقط الإقالة والحرمان النهائي من تولي المسؤولية بل كذلك المتابعات القضائية، إذ لا “الغضبات” الملكية ولا الاحتجاجات الشعبية والصحافة الوطنية تحرك ضمائرهم…
فبينما كان المغاربة يتداولون بينهم عبر صفحات التواصل الاجتماعي ونظام “الواتساب” بكثير من التذمر والاستياء، صورا ورسائل ساخرة عن بسيمة الحقاوي القيادية في الحزب الإسلامي الحاكم “العدالة والتنمية” ووزيرة الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية، التي عادت لاستفزازهم بتصريحها “من يحصل على عشرين درهما يوميا ليس فقيرا”، بعدما سبق لها إنكار وجود الفقر بالمغرب. إذا بخبر خارجي يحمل استقالة وزير التنمية البريطاني اللورد “مايكل بيتس” يوم 31 يناير 2018، ليس بسبب ضغط شعبي أو تحرش جنسي أو تقصير في إنجاز مشروع أو تبديد مال عام… وإنما لتأخره بدقائق عن انعقاد مجلس العموم للرد عن سؤال موجه له حول “المساواة في الدخل”، حيث وجد اللوردات قد أنهوا مناقشة الموضوع، وفور اعتذاره قال: “إني أشعر بالعار لعدم وجودي في الإبان المحدد، ولهذا أعلن استقالتي الفورية”، ثم غادر المجلس رافضا العدول عن الاستقالة.
ومهما تباينت الآراء حول مدى صوابية القرار من عدمها، ومهما كانت قناعات الوزير المستقيل، فلا يمكن إلا تثمين مثل هذا النوع من الخطوات الجريئة، والدرس البليغ في احترام قيمة الزمن السياسي. فلم يا ترى يصر وزراؤنا “الأبرار” الذين لا يشق لهم غبار على التمادي في التقصير والاستهتار، تسويق الوهم للمواطنين والتغيب عن الجلسات العامة واللجان البرلمانية في الغرفتين الأولى والثانية، دون تجشيم أنفسهم حتى عناء الاعتذار؟ الوزراء للأسف لا ينقصهم الحس الوطني وروح المسؤولية وحسب، بل تعوزهم كذلك الكفاءة والخبرة المهنية وثقافة الاستقالة، فأغلبهم يصلون إلى هذه المناصب المغرية عبر جسور القرابة والمحسوبية. ثم كيف لمن فتحوا أعينهم على رؤية سابقيهم محاطين بالخدم والحشم في فيلات فخمة، توفر لهم الدولة الإنارة والماء والتدفئة وتضع رهن إشارتهم سيارتين، ويغرفون من خيرات البلاد دون حسيب ولا رقيب، فضلا عن تقاضيهم ما يعادل 58 ألف درهم شهريا، ومبلغ 2500 درهم يوميا عند التنقل بالخارج، وتعويضات عن 10 أشهر عند نهاية الولاية ومعاش بقيمة 39 ألف درهم وامتيازات أخرى، التفريط الطوعي في هذه النعم المتعددة؟
فوزراؤنا سامحهم الله رغم علمهم بما لأجورهم وامتيازاتهم من انعكاسات على ميزانية الدولة، وتعارضها مع مستوى أدائهم الحكومي المتفاوت، لا يعرفون للاستقالة مفهوما حقيقيا عدا التلويح الكاذب بها واختلاق الأعذار الواهية، كلما اشتد الخناق حول رقابهم وأرادوا التستر على تجاوزاتهم وتدبيرهم الرديء. ومن المستحيل التفكير في تقديمها لأي سبب من الأسباب إلا إذا أجبروا عليها، أو تعرضوا ل”زلزال سياسي” ينسف كراسيهم ويعصف بهم خارج مربعات السلطة، لأنهم ببساطة نشأوا وترعرعوا على الإقالة لا الاستقالة. وعدا حالة المرحوم محمد العربي المساري، الذي وجد نفسه مضطرا إلى تدبيج استقالته خلال أقل من سنة عن تعيينه وزيرا للاتصال، في حكومة التناوب بقيادة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي (2OO2/1998)، لما لقيه من مضايقات رجال وزير الداخلية الراحل ادريس البصري، رافضا في إطار الشعور النبيل بالمسؤولية الحصول على أجر وتعويضات عن مهام لا يمارسها، لم نجد وزيرا آخر تجرأ على القيام بذلك، لأنهم يفضلون التنكر لمبادئهم والتطبيع مع الفساد على فقدان مراكزهم.
فعديدة هي الفضائح والإخلالات التي ثبت تورط وزراء في حدوثها وتجاوز صداها حدود البلاد، من غير أن تكون لهم ذرة حياء في الاعتراف بالمسؤولية. ويتذرع هؤلاء “الكبار” بكون الاستقالة من مناصبهم “محرم” عليهم طرحها، ما لم تسبقها ترتيبات سياسية أو توافق مع السلطات المخزنية، وإلا سوف يتعرضون لتلفيق التهم والمساءلة الجنائية… ونعتقد أنه لم يعد مسموحا اليوم لأي كان بافتعال مزيد من الذرائع بعد خطاب الذكرى 18 لاعتلاء الملك محمد السادس عرش والده الراحل، إذ جاء فيه: “وعلى كل مسؤول أن يمارس صلاحياته دون انتظار الإذن من أحد، وعوض أن يبرر عجزه بترديد أسطوانة “يمنعوني من القيام بعملي”، فالأجدر به أن يقدم استقالته، التي لا يمنعه منها أحد”.
إن ثقافة الاستقالة ترتبط بالممارسة الديمقراطية، مما يستدعي الارتقاء بالعمل الحزبي وتطويره، حتى يكون المقبل على تقلد مسؤولية ما مهيئا سلفا للاستقالة أو المحاسبة. فلا يعقل أن يتواصل التدافع نحو المناصب والحقائب، والاستفادة من الريع السياسي واستغلال السلطة والنفوذ، دون مراعاة قضايا وانشغالات المواطنين والأخذ بعين الاعتبار مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، خاصة أننا دخلنا مرحلة حاسمة بعد “الزلزال السياسي” الذي أطاح بعدة وزراء وموظفين. فعلى الوزراء بدل “تخراج العينين” وسياسة الهروب إلى الأمام، التحلي بروح المسؤولية والالتزام بالقيم الأخلاقية والحكامة الجيدة والجرأة السياسية، والمبادرة إلى الاستقالة والاعتذار للشعب، متى ما أخفقوا في أداء مهامهم أو أخطأوا في حقه باعتباره المصدر الحقيقي للسلطة. وهو ما قد يجعله يحيي فيهم شجاعتهم وشهامتهم…