رغم أن الرئيس الأسبق أوباما ليس أول من انتهج سياسة خارجية أقل كلفة، فقد سبقه ثلاثة من الرؤساء من قبل. “دوايت أيزنهاور “بعد انتهاء الحرب الكورية 1953، و”ريتشارد نيكسون” بعد انتهاء حرب فيتنام 1975، “وجورج بوش” الأب بعد انتهاء الحرب الباردة 1991.
هذه السياسات تصيغها مراكز البحث والفكر لتوجيه الكونجرس وإدارة البيت الأبيض بتخفيض الوجود العسكري الخارجي لصالح تركيز الموارد على الاحتياجات الداخلية.
لكن “أيزنهاور” و”نيكسون” سعيا إلى تحقيق الاستقرار العالمي مع قدر أقل من المشاركة الأمريكية، أما أوباما المأسوف عليه فقد عمدت سياساته أثناء الانسحاب العسكري من منطقة الشرق الأوسط منذ سنة 2011 على سياسة «الأرض المحروقة»، بزعزعة الاستقرار وتكريس الصراعات العرقية والطائفية وإشعال الحروب بالوكالة بصبغة مذهبية. وفي النهاية تمحورت سياسات الأسد العجوز في قيادة العالم حول دبلوماسية المفاوضات بين الدول، والمصالحة بين الفرقاء، والتأكيد على عدم الانخراط في عمليات كبيرة لمكافحة الإرهاب أو إعادة بناء الدول أو شن عمليات طويلة الأجل لبسط الاستقرار. وهي منهجية حينما يتبعها القطب الأوحد في العالم تكشف لنا الفرق بين القوة والقدرة. القوة في شن المعارك وكسبها، لكنها غير قادرة على كسب الحرب. أي أن الأسد قد عجز وأصبح غير قادر على قيادة الغابة وفرض نفوذه فيبدأ فى الانسحاب تدريجيًا لصالح من هو أجدر منه مرغمًا وليس متفضّلًا، فلم يعد لديه المزيد من أوراق اللعب ولم تعد الغابة بحاجة إليه.
وفي صياغة أخرى البحث عن حليف جديد أفضل من الولايات المتحدة هو ما يدور فى خلد العديد من قيادات دول العالم الآن خاصة مع ظهور أقطاب جديدة في الشرق الأقصى تمكنت من فرض رؤيتها على الجميع. ولذلك يتبنى ترامب اليوم سياسة التقوقع ببلاده داخل حدودها لبناء أمريكا الصناعية مجددًا بعد موجات متتالية من الانهيار الاقتصادى وارتفاع الدين العام وتجاوزه معامل الآمان بالنسبة لإجمالي الناتج المحلي لأمريكا، مع رغبته فى إصلاح البنية التحتية للجيش الأمريكي، والسعي لاسترجاع تحالفات أمريكا الاستراتيجية مع الأصدقاء القدامى في وقت بدأت مؤشرات السيطرة على رقعة الأوراسيا تلوح في الآفق عبر الصين وروسيا.
باتت المملكة السعودية على قناعة إن زمن اتفاقية «روزفيلت – عبدالعزيز» قد ولت بلا رجعة منذ اجتماع أوباما بأمراء الخليج في كامب ديفيد مارس2015، فالرئيس الأمريكي الأسبق قد ألقى بقنبلته الأولى في حواره مع توماس فريدمان بجريدة «نيويورك تايمز» قبل الاجتماع بيومين حينما قال: «إن الخطر الحقيقي على المملكة ليس إيران بل هو خطر كبت الحريات وتقييد قيم الديمقراطية تجاه المجتمع السعودى». وبعد مرور عام كامل على هذه التصريحات قدم أوباما صك فك الارتباط مع المملكة في حواره الشهير بمجلة «ذي أتلانتك» حينما وصم المملكة بالإرهاب الوهابي، ونصحها بتقاسم زعامة العالم الإسلامي مع إيران.
توقيت إعلان المملكة السعودية عن رغبتها فى ضم جزيرتي تيران وصنافير كان ورقة لاعتراف سعودي رسمي بالكيان الصهيوني، ولتقويض صلاحيات مكاتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل المملكة، ومقابلة العاهل السعودى لقداسة البابا فى القاهرة، كانت محاولات سعودية لإعادة صياغة سياساتها الخارجية وتقديم نفسها كدولة معتدلة لكسب ود الغرب وفي محاولة لتكذيب المزاعم الأمريكية كونها دولة راعية للإرهاب كما ذكر أوباما. فجاء الرد سريعا من واشنطن بتمرير الكونجرس قانون «جاستا» يسمح لأهالي ضحايا 11 شتمبر بمقاضاة المملكة العربية السعودية. وهي حملة قديمة قادها عضو مجلس الشيوخ الأمريكى السابق عن ولاية فلوريدا «روبرت جراهام»، منذ سنة 2011 للحصول على معلومات حول تحقيق أجراه مكتب التحقيقات الفيدرالي، وكذلك إجبار الحكومة الأمريكية على كشف النقاب عن جزء سري من تقرير للكونجرس حول هجمات 11 شتمبر. وهو تقرير يثبت مساعدة أمراء سعوديين لمرتكبي الهجمات.
رحل أوباما وترك جاستا للرئيس الأمريكى الجديد والذي بدأ لعابه يسيل أثناء حملته الانتخابية على حصيلة تدفقات النفط السعودي وقد حددها بمليار دولار كل صباح. ولكن أمريكا لا تزال راغبة فى انضمام دول الخليج إلى برنامج الدرع الصاروخي النووي الدفاعي الأمريكي، وهو برنامج انتشر في أوروبا بعد اختراق كوريا الشمالية للاتفاق النووي مع الغرب، ولم يكن الاتفاق النووي الإيراني سوى استنساخ لنفس الرواية الكورية القديمة، فأمريكا استخدمت ببراعة فزاعة النووي الإيراني للتوسع في هذا البرنامج، وترغب اليوم من دول الخليح ومصر والمغرب وإسرائيل الانضمام تحت هذه المظلة فى مواجهة النووي الإيراني. هكذا أدعت أمريكا ورفضها الرئيس الاسبق المصري مبارك من واشنطن سنة 2009، وفي حقيقة الأمر هو برنامج لتطويق روسيا نووياً بالإصدار الثاني من الحرب الباردة.
إيطاليا وألمانيا وفرنسا قوى الاستعمار القديمة تدرك جيدًا أن الأسد العجوز ينسحب من المنطقة بعد أن دُفنت مصداقيته فى نعوش مؤامرةالربيع العبري، وإن الروس والصينيين قد وجدا لهما موطئ قدم حقيقي في لعبة موازين القوى الجديدة عبر البوابة الجيواستراتيجية للقاهرة وطهران.
إيطاليا التي تريد العودة إلى مستعمراتها القديمة في ليبيا مع فرنسا كما وصفتها مذكرات كلينتون، ظنت في خنوع مصر وهي فى أضعف حالاتها، وحينما رفضت مصر عودة المستعمر لأقاليمه القديمة بليبيا، كانت ورقة الضغط بملف مقتل الشاب الإيطالى ريجيني. وهو ما يفسر لنا كلمة قالها الرئيس المصري السيسي دون مناسبة في أحد لقاءاته مع الشعب المصري حول رفضه التدخل العسكري المصري في ليبيا لنهب . كانت رسالة مباشرة من القاهرة لروما التي خرجت بعدها بتصريح من الحزب الحاكم يبرأ مصر من مقتل ريجيني رغم عدم وجود قرار اتهام من الأساس قد صدر عنهم.
أما الرئيس الفرنسي “فرانسوا أولاند” الذي حضر للقاهرة نهاية 2016 وبجعبته استثمارات وصفقات متنوعة بمليارات الدولارات فقد أراد أن يعلن من القاهرة احتلال ليبيا عبر المؤتمر الصحفي مع الرئيس المصري السيسي في مشهد يذكرنا بإعلان «تسيفي ليفني» الحرب على غزة من قلب القاهرة.
“أولاند” قال للصحفيين آنذاك أن باريس فى انتظار موافقة البرلمان الليبي على حكومة الوفاق الوطني لتبدأ البحرية الفرنسية فى التحرك صوب شواطئ طرابلس، وهنا كانت المداخلة سريعة وحاسمة من السيسي حينما قال «إن حل المشهد الليبي يأتى بدعم عسكري للفريق حفتر في مواجهة الإرهاب، وحينما يفشل فى ذلك فمصر بقواتها جاهزة للتحرك»، ثم وجهة نظرات مباشرة إلى أولاند قائلاً : «أما البديل فهو حتما سيصبح بديلًا سلبيًا».
إذًا مصر تفرض رؤيتها وإرادتها فى الملف الليبي، العمق الاستراتيجى للأمن القومى المصري، وبالتأكيد سيشغل هذا الملف مساحة في أجندة الرئيس السيسي مع الرئيس ترامب داخل جدران البيت الأبيض في وقت تضخمت فيه كراكيب تركة أوباما على مائدة ترامب وهو ذاهب إلى صراع عنيف في وسط وجنوب أسيا على طريق الحرير الصيني في مواجهة المثلث الذهبي روسيا – الصين – إيران، ستلعب فيه اليابان وتايوان رقم صحيح في معادلة المواجهة المرتقبة وستحسمها قبلة الموت للاتحاد الأوربي وقد منحها إياه الخروج البريطاني من عباءته وذهابه لتحسس نوايا اليوان الصيني كعضو مؤسس فى بنك الاستثمار الأسيوى.